إضاءات دستورية على استقلال المملكة الأردنية الهاشمية

مدار الساعة ـ نشر في 2021/05/25 الساعة 02:20

جاء استقلال المملكة الأردنية الهاشمية ثمرة لرحلة شاقة ومضنية من الكفاح الدستوري والسياسي الشعبي، والرغبة الصادقة في دحر المستعمر الأجنبي، واستعادة الكرامة الوطنية على الأراضي الأردنية. فكانت أولى محطات الكفاح من أجل الاستقلال في عام 1916، حين أطلق المغفور له بإذن الله الشريف الحسين بن علي رصاصته الأولى، معلنا قيام مشروع النهضة العربية الكبرى ضد الحكم العثماني. وقد تمكن من طرد القوات العثمانية عن شرق الأردن في عام 1918، حيث واصلت القوات العربية الثائرة والمتعطشة إلى الاستقلال زحفها إلى درعا، وصولا إلى دمشق ?تدخلها في تشرين الأول من العام ذاته.

وبدأت أولى المحطات الدستورية نحو الاستقلال، عندما قام الأمير فيصل بن الحسين بتشكيل أول حكومة مستقلة موحدة في سوريا الطبيعية، حيث أسند هذه المهمة إلى الفريق علي رضا الركابي. إلا أن عدم وفاء بريطانيا بوعودها إلى الشريف الحسين بن علي قبل اندلاع الثورة العربية الكبرى، ومطامعها الاستعمارية في سوريا الطبيعية مع حليفتها فرنسا، قد أدى إلى توقيع اتفاقيتي سايكس بيكو وسان ريمو، اللتين قضيتا على أحلام الشريف الحسين بن علي في مشروعه الوحدوي.

وقد ارتبطت المرحلة الدستورية الثانية من الاستقلال بتأسيس إمارة شرق الأردن في عام 1921، حيث قدم المغفور له الأمير عبد الله الأول ابن الحسين من الحجاز إلى معان في طريقه إلى دمشق لمساعدة الثوار السوريين في قتال الفرنسيين. إلا أنه عندما وصل إلى عمان في آذار من عام 1921، سارعت بريطانيا من خلال وزير مستعمراتها تشرشل إلى التفاوض معه، فجرى الاتفاق بينهما على تأسيس حكومة وطنية مستقلة في شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني.

وعلى الفور، بدأ المغفور له الأمير عبد الله باتخاذ قرارات دستورية تمهيدا لمشروع الاستقلال. فأصدر في الحادي عشر من شهر نيسان من عام 1921 مرسوما أميريا قضى بالموافقة على تشكيل أول حكومة في شرق الأردن برئاسة رشيد طليع، حيث كان يسمى مجلس الوزراء في ذلك الوقت مجلس المشاورين، ورئيس الوزراء يسمى بالكاتب الإداري. وفي ذلك التاريخ، تأسست إمارة شرق الأردن، وبدأت الدولة الأردنية احتساب عمرها الدستوري، والذي انقضى منه في الشهر الماضي المئوية الأولى.

وفي 25 آيار 1923، اعترفت الحكومة البريطانية باستقلال إمارة شرق الأردن تحت الانتداب البريطاني، وذلك بموجب قرار صادر عن عصبة الأمم المتحدة المستند إلى المادة (22) من ميثاقها، والتي تفرض على الدول المنتِدبة مساعدة الدول الخاضعة لانتدابها في المضي قدما نحو الاستقلال.

واستمر المغفور له الأمير عبد الله في خطوات الإصلاح الدستوري في شرق الأردن، فسارع إلى تأليف لجنة منتخبة من الشعب في عام 1923 لوضع مشروع دستور جديد لشرق الأردن، ومشروع قانون انتخاب. إلا أن المماطلة والتسويف من قبل المستعمر البريطاني قد حالت دون أن يرى ذلك الدستور النور، والذي تأثر إلى حد كبير في نصوصه وأحكامه بالدستور الفيصلي التقدمي لعام 1920.

وفي عام 1928، فرض المستعمر البريطاني على شرق الأردن دستورا يخدم مصالحه، والذي انبثقت قواعده من المعاهدة المبرمة بين الحكومة البريطانية ممثلة بالمارشال بلوفر ورئيس حكومة شرق الأردن في ذلك الوقت حسن خالد أبو الهدى، حيث استمد القانون الأساسي (دستور شرق الأردن) لعام 1928 أحكامه من الاتفاقية البريطانية الأردنية، ولم يتم الأخذ بمشروع القانون الأساسي الذي أعدته اللجنة المنتخبة، ليكون ذلك الدستور تجسيدا لحكم بريطاني استعماري.

أما المرحلة الدستورية الثالثة من مراحل الاستقلال، فكانت في الفترة بين عامي 1928 و1946 حيث أعلن سكان شرق الأردن رفضهم المطلق للمعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1928 مطالبين باستقلال أكثر لإمارة شرق الأردن. وبالفعل، أسفرت المعارضة الشعبية في تلك الفترة عن انعقاد مؤتمر وطني في عمان في تموز من عام 1928، حضره زعماء وشيوخ ومفكرو شرق الأردن. وقد صدر عن ذلك المؤتمر عدة توصيات عُرِفت بالميثاق الوطني، كان أهمها المطالبة بأن تكون إمارة شرق الأردن دولة عربية مستقلة ذات سيادة، وأن تدار من قبل حكومة دستورية مستقلة برئاسة?الأمير عبد الله الأول بن الحسين.

وقد استمرت المعارضة الأردنية بالعمل النضالي، والذي أخذ منحنى جديدا تمثل في تشكيل أحزاب سياسية وطنية بالاستناد إلى قانون الجمعيات العثماني لعام 1909، كان أهمها حزب الشعب، وحزب التضامن، وحزب الإخاء. وقد أجمعت هذه الأحزاب الأردنية على المطالبة بالاستقلال التام لشرق الأردن عن الانتداب البريطاني.

وعلى الصعيد الخارجي، شهدت الفترة بين عامي 1928 و1946 العديد من الأحداث التي ساهمت في زيادة الضغوطات السياسية على الحكومة البريطانية لإعلان استقلال شرق الأردن. فقد نشبت الثورة الفلسطينية في عام 1936 التي وقف الأردنيون معها، ورفعوا علم الثورة العربية الكبرى شعارا لها. ثم بدأت الحرب العالمية الثانية في عام 1939، حيث تحججت الحكومة البريطانية أن انشغالها في الحرب يمنعها من التفكير في استقلال إمارة شرق الأردن. وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، طلبت الحكومة الأردنية من بريطانيا أن تفي بوعودها لها، فظهرت أولى بوادر الاس?جابة البريطانية على لسان وزير خارجيتها إرنست بيفن في خطاب له ألقاه في اجتماع هيئة الأمم المتحدة في عام 1946، حيث أشاد بالتطور السياسي الذي حصل في شرق الأردن، والذي وصل مرحلة يمكن فيها رفع الانتداب عنها.

وفي 22 آذار من عام 1946، جرى توقيع معاهدة صداقة وتحالف بين الحكومة البريطانية ونظيرتها الأردنية، والتي تضمنت إشارات صريحة باعتراف بريطانيا بالاستقلال الكامل لشرق الأردن، مع تبادل التمثيل السياسي بين الدولتين. إلا أن بريطانيا قد احتفظت لنفسها في تلك المعاهدة بقوات عسكرية لها في شرق الأردن بحجة مساعدة القوات الأردنية وتدريبهم. وقد استمر التواجد العسكري البريطاني حتى قام المغفور له بإذن الله الملك الحسين بن طلال في عام 1956 بتعريب قيادة الجيش الأردني، وذلك بإعفاء كلوب باشا من منصبه وتعيين الأمير لواء راضي عنا? رئيس أركان حرب الجيش العربي الأردني.

وقد تم عرض المعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1946 على مجلس الوزراء برئاسة إبراهيم هاشم الذي قبلها بتاريخ 30 آذار 1946، وقرر عرضها على المجلس التشريعي. وقد اجتمع المجلس التشريعي يوم السبت الموافق 25 أيار 1946، وقرر بالإجماع إعلان شرق الأردن دولة مستقلة استقلال تاما، ومبايعة الأمير عبد الله بن الحسين ملكا دستوريا على البلاد، على أن يعطى لقب حضرة صاحب الجلالة ملك المملكة الأردنية الهاشمية.

وفي ضوء إعلان الاستقلال، جرى تعديل القانون الأساسي لعام 1928. إلا أن المطالب الشعبية الرافضة لمعاهدة عام 1928 قد دفعت الحكومة الأردنية إلى وضع دستور جديد للبلاد، هو دستور الاستقلال لعام 1946، الذي تم إقراره في 28 كانون الأول 1946 وتصديقه ونشره في الجريدة الرسمية في شباط 1947، ليكون ذلك تجسيدا للمرحلة الدستورية الرابعة من استقلال الأردن. وقد تضمن دستور الاستقلال مجموعة من المبادئ الدستورية التي لم تكن موجودة في القانون الأساسي لعام 1928، وذلك بسبب التغيير السياسي الذي طرأ على شرق الأردن والمتمثل في الحصول ع?ى الاستقلال. فقد نص دستور 1946 على أن الأردن دولة مستقلة ذات سيادة وملكها لا يتجزأ ولا ينزل عنه شيء، وأن نظام الحكم فيها ملكي وراثي من أسرة الملك عبد الله الأول ابن الحسين، وأنه نيابي من خلال إيجاد مجلس نواب منتخب من الشعب. إلا أن ذلك الدستور قد افتقر لعنصر أساسي من عناصر النظام النيابي البرلماني الكامل، وذلك من خلال تقرير المسؤولية الوزارية أمام الملك، وليس أمام مجلس النواب.

ومنذ استقلالها، بدأت المملكة الأردنية الهاشمية بلعب دور بارز عربيا ودوليا في الدفاع عن هموم الأمة العربية. فبعد ثلاثة أيام من استقلالها، شارك الأردن في قمة انشاص في 28 أيار من عام 1946، والتي أعلن فيها ملوك ورؤساء الدول العربية أن القضية الفلسطينية هي قلب القضايا القومية، وأن هناك حاجة ماسة للوقوف أمام الصهيونية، باعتبارها خطراً لا يداهم فلسطين وحسب، وإنما جميع البلاد العربية والإسلامية.

أما المرحلة الخامسة من مراحل الاستقلال، فقد بدأت بعد وحدة الضفتين في عام 1950، حيث تعهد المغفور له الملك عبد الله الأول ابن الحسين بإرساء مبادئ الحكم النيابي الديمقراطي الكامل، فأعلن في خطبة العرش في افتتاح مجلس الأمة في ذلك العام عن تشكيل لجنة خاصة لمراجعة نصوص الدستور. فصدر الدستور الحالي لعام 1952 الذي كرّس عناصر النظام النيابي الكامل بأن نقل مسؤولية الوزراء أمام مجلس النواب. ومنذ ذلك التاريخ، خضع الدستور الأردني إلى سلسلة من التعديلات، بما يتوافق مع التطورات السياسية الداخلية والخارجية التي شهدتها المم?كة، والتي أثبتت بأن الدستور الوطني هو دستور حي، وإن كان جامدا من حيث آلية تعديله.

واليوم يدخل الأردن في مئويته الثانية محملا بإرث سياسي ودستوري طويل، كافح من أجله الشعب مع حكامه للوصول إلى الاستقلال. وهذا ما انعكس ايجابا على الطريقة التي صدر فيها الدستور الحالي، فهو يمثل عقدا اجتماعيا بين الحاكم والشعب من خلال ممثليه، يقوم على أساس البيعة التاريخية للهاشميين منذ قدوم الأمير عبد الله الأول إلى شرق الأردن.

فما أحوجنا هذه الأيام، ونحن نشد الرحال نحو المئوية الثانية للدولة الأردنية أن نستذكر تضحيات الهاشميين والأردنيين في رحلتهم نحو الاستقلال، وأن نستلهم منهم الهمم والعزائم من أجل صيانته والبناء عليه. فالتحديات المعاصرة أكثر إيلاما من الاحتلال العسكري، وتضامن القيادة مع الشعب في السابق بحاجة إلى تعزيزها وتمتينها، لكي نمضي قدما في الحفاظ على إرث الاستقلال ومعانيه في تحقيق نهضة سياسية واقتصادية وتشريعية شاملة يرضى عنها الأردنيون، وتجسد أفكار القادة الهاشميين الذين تعاقبوا على سنوات النضال والكفاح الدستوري. فراية?الاستقلال قد انتقلت من جيل إلى آخر، ليتسلم دفتها اليوم صاحب الجلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين حفظه الله ورعاه، الذي يعمل وبشكل دؤوب على رفعة الأردن وتقدمه بما يحقق الطموحات الشعبية، ويضمن للأجيال القادمة حقها في العيش برضى وكرامة إنسانية على التراب الوطني.

أستاذ القانون الدستوري في كلية الحقوق في الجامعة الأردنية

laith@lawyer.com
الرأي

مدار الساعة ـ نشر في 2021/05/25 الساعة 02:20