القصر يتخفف من حلقته الضيقة.. فلماذا حضر جعفر حسان لهذه المرحلة
مدار الساعة - القصر يتخفف من حلقته الضيقة، ويحرك جعفر حسان خطوة إلى الأمام، لإحداث توازن بين المؤسسات. ليس حلقة فقط. الرجل لديه ما يقوله ويفعله. ومن هنا كان اختياره، لكن ليس هذا وحسب. بعض التفاصيل تكشف عن كلمة السر، بل الاسرار.
يعتبر حسان من خبراء التحوّلات الاقتصادية في المملكة، وأحد العارفين بمواطن القوة والضعف في مسيرة التحولات، ومن هنا لم يكن اختياره عفوياً. الدروس المستقاة من التجارب التي خاضها والاختبارات التي شهدها، شكلت له عيناً يرى فيها الحقائق.
وامضى د.جعفر حسان 28 عاماً في العمل العام، تولّى خلالها مناصب من بينها: القائم بالأعمال ونائب السفير الأردني في واشنطن (2001-2006)، ومدير دائرة الشؤون الدولية في الديوان الملكي الهاشمي بالدرجة العليا (2006-2009)، ووزير التخطيط والتعاون الدولي (2009-2013) في كلّ من حكومتَي سمير الرفاعي الأولى والثانية، وحكومة د. معروف البخيت الثانية، وحكومة عون الخصاونة، وحكومة د.فايز الطراونة الثانية، وحكومة د.عبدالله النسور الأولى، ثم عُيّن مديراً لمكتب جلالة الملك (2014-2018)، ثم نائباً لرئيس الوزراء ووزير دولة للشؤون الاقتصادية في حكومة د.هاني الملقي الثانية (شباط-حزيران 2018).
وهو حاصل على شهادتي الدكتوراه والماجستير في العلوم السياسية والاقتصاد الدولي من المعهد الأعلى للدراسات الدولية والتنموية بجامعة جنيف/ سويسرا، وشهادة الماجستير في الإدارة العامة من جامعة هارفارد-كمبريدج/ الولايات المتحدة الأميركية، وشهادة الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة بوسطن/ الولايات المتحدة الأميركية، وشهادة البكالوريوس في العلاقات الدولية من الجامعة الأميركية في باريس/ فرنسا.
في كتابه "الاقتصاد السياسيّ الأردنيّ: بناء في رحم الأزمات"، الصادر أواخر تموز 2020، يرسم الوزير السابق الدكتور جعفر حسّان مسارات تطوُّر الاقتصاد السياسيّ الأردنيّ منذ نشوء الدولة، وبشكل خاص السياسات التي تمّ اعتمادها خلال العقدين الأخيرَين.
اليوم يبدو أن جعفر حسان يعزف منفرداً في إدارة المطبخ السياسي، ما يعني أن الحكومة ستجد شريكا شرسا، يعرف ما يفعل.
دعونا نتذكر أن حسان جاء في خلطة إصلاحية اقتصادية في زمن رئيس الوزراء الأسبق هاني الملقي. كان حينها قادماً من مكتب الملك.
لكن من يعتقد أن جعفر حسان جاء في مسارات اقتصادية وحسب مخطئ. أحد الوزراء الذي يعاني من مرض كبير. ودعونا نكتفي بهذه الإشارة "يعاني" ويقبض على كثير من الملفات السياسية متوقع خروجه في أي وقت.
بحسب تعبير مصادر "مدار الساعة": "من يعاني يمكن أن يخرج بأي لحظة". لكن ليس لهذا وحسب جاء جعفر حسان. ببساطة يمكن أن نقول ان حسان جاء للكثير. ومن الكثير الاقتصاد. ومنه أيضا السياسة. أما اقتصار الحديث عن حضوره في مقابل الخارجين للتو من الديوان، فهذا فرع لا يذكر من المشهد الكلي.
وإن كان ولا بد أن يخرج "من يعاني" فهناك من هو قادر على ملء الفراغ. جعفر حسان. فماذا يعني ذلك؟ يعني هذا ان على طاولة حسان اليوم أوراقاً بجميع لغات العالم، وأرقامها.
اليوم التحضيرات جارية لمرحلة ما بعد الحظر. ملفات داخلية وخارجية، لا تكاد تُعد ولا تُحصى. وجعفر حسان واحد من رجال القصر الذي أوكل لهم مهمات، وليست مهمة.
شخصية تمسك الملفات وتدير المرحلة. فوقع الاختيار على حسان، ليكون حلقة دينمو بين المؤسسات.
في فترة سابقة ترك القصر لشخصيات جديدة على الساحة حرية حركة لعل وعسى. لم تنجح. كانت الخطة في "ربما تنجح تلك الشخصيات فيما فشل به الآخرون".
كان الأمل في بناء نظرية جديدة وطريق آخر. لكن المرحلة أسخن من أن ينجحوا. لم يعد مهما كل هذا.
العربة الأردنية بحاجة إلى أن تسير، وإذا كان ولا بد في سكة جديدة فليكن. ولكن أن يبقى الحال على ما هو عليه. لا. لم تنجح بعض الشخصيات الجديدة، أو هذا ما تبدو عليه الأمور بعد تراكم التحديات الداخلية والخارجية.
أما فكر الوزير السابق الدكتور جعفر حسّان فتراجعه مدار الساعة في كتابه "الاقتصاد السياسيّ الأردنيّ: بناء في رحم الأزمات"، والذي يعاين مسارات تطوُّر الاقتصاد السياسيّ الأردنيّ منذ نشوء الدولة، وبشكل خاص السياسات التي تمّ اعتمادها خلال العقدين الأخيرَين.
وهو بمثابة شهادة من الداخل. ذلك أنّ معظم ما نُشر حول تطور السياسة الاقتصادية الأردنية على مدى العقود السابقة كان بأقلام وجهود باحثين أجانب وباللغة الإنجليزية في الغالب الأعمّ، ومنها تقارير لمؤسسات دولية حول الأردن.
ويقدم الفصل الأول من الكتاب نبذة تاريخية عن الاقتصاد الأردني، ويستعرض طبيعة هذا الاقتصاد منذ نشأة الدولة مروراً بالبناء المتسارع بعد الاستقلال، وآثار العوامل الإقليمية والدولية في تشكيل الحالة الاتّكالية التي سادت وميزت اقتصاد المملكة، خاصة بعد حرب حزيران 1967 وما تبع ذلك خلال العقدَين اللاحقَين إلى أن وصل الأردن إلى طريق مسدودة في نهاية الثمانينات.
ويعاين هذا الفصل أيضاً الخطوات الصعبة التي اتُّخذت في مطلع التسعينات لإعادة بناء النموذج الاقتصادي، بهدف الخروج من الحالة المأزومة، وإرساء دعائم نموذج اقتصادي مستدام يكون بديلاً لنموذج الاقتصاد الاتّكالي الذي بدأت أعراضه المزمنة تشكّل خطراً على استقرار المملكة وأمنها الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.
فقد كان الاقتصاد الأردني في عهد الإمارة اقتصاداً رعوياً ريفياً، يعيش منه ربع مليون من السكان نصفهم من البدو وبضعة آلاف يسكنون المدن. وتطوّر هذا الاقتصاد بعد الاستقلال ليتحول على مدى أربعة عقود إلى اقتصاد خدمات، إذ توسّع القطاع العام، وانتقل السكان من الأرياف إلى المدن على ضوء توسُّع فرص العمل في المؤسسات الحكومية وانتشار التعليم. كما كان لتدفُّق اللاجئين أثر كبير في مسار الاقتصاد السياسي، يُضاف إلى أثر الحروب والأزمات الإقليمية وانعكاساتها على المسيرة التنموية.
وقد موّلت المساعدات التي وصلت في بعض السنوات إلى أكثر من 120% من النفقات الحكومية، توسعةَ القطاع العام، ليوظّف نصف القوى العاملة في المملكة، إذ شكّل معدلُ الدعم الخارجي منذ منتصف الخمسينات وحتى منتصف الثمانينات بشكل شبه متواصل حوالي 53% من النفقات الحكومية السنوية الجارية، أو ما يعادل 6.3 مليار دولار من موازنة النفقات الجارية لعام 2020! كما كان الأردن من الدول الأعلى إنفاقاً في العالم على موازنة الدفاع كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
وخلق اعتمادُ القطاع الخاص على الإنفاق الحكومي بشكل أساسي، حالةً اتّكالية طالت جميع المستويات في الاقتصاد الأردني. كما موّلت تحويلاتُ المغتربين استثماراتِ القطاع الخاص التي تركزت في العقارات والإنشاءات والاستهلاك. وبدأ الأردن باستيراد العمالة للزراعة والبناء، وبدأ كذلك بتصدير الكفاءات إلى الخارج للعمل في مجالات التعليم والهندسة والصحة والإدارة.
وشهد العقد الأخير من عهد الملك الحسين بدايةَ برامج الأردن مع صندوق النقد الدولي، والحاجة إلى اعتماد نهج اقتصادي جديد يبني القدرات الإنتاجية للاقتصاد والقطاع الخاص، فبدأت برامج الخصخصة، وأُنجز جزء يسير من هذه البرامج قبل نهايات القرن العشرين.
ولأن تلك الحقبة ذات امتدادات مهمة ومقاربات ضرورية للمرحلة التي تلتها، يرسم الفصل الأول صورة اقتصادية شمولية لـ"حالة البلاد" حتى مطلع عام 1999 عشية اعتلاء الملك عبدالله الثاني العرش.
أما الفصل الثاني فيتناول العقد الأول في العهد الجديد ورؤية الملك عبدالله الثاني في بناء اقتصاد مستدام وإصلاح قطاعات رئيسية، وطبيعة السياسات والقرارات التي تم تبنّيها، ونتائجها على الاقتصاد وعلى المواطن بشكل عام.
فقد سعت الرؤية الملكية إلى استبدال الاستثمارات بالمساعدات، وتعزيز إمكانيات الاعتماد على الذات من خلال بناء القطاعات المعرفية والتصديرية وزيادة تنافسيتها عالمياً لبناء قطاع خاص قوي يكون ركيزة لاقتصاد المملكة، وتوجيه الإنفاق الحكومي للتعليم والصحة وشبكة الأمان الاجتماعي.
وبدا الأردن خلال السنوات الخمس الأولى من عهد الملك عبدالله الثاني شبيهاً بورشة عمل كبيرة شملت قطاعات عديدة بالرغم من الأزمات المحيطة التي تطلّبت من جلالته قيادة البلاد في وجه تحديات أمنية واقتصادية غيّرت مسار المنطقة. ويمكن القول إنّ السياسات الاقتصادية خلال تلك السنوات سرّعت وتيرة الإصلاح الاقتصادي الذي بدأه الملك الحسين في نهايات القرن العشرين.
وكان للجهود المباشرة للملك عبدالله الثاني ودوره في قيادة هذه الإصلاحات أثرٌ مفصليّ في العديد من المجالات، عكسته المؤشرات الاقتصادية الرئيسية، إذ ارتفعت حصة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2004 لتتجاوز -للمرة الأولى منذ 17 عاماً- المستويات التي كانت قد بلغتها في عام 1987.
ولم يكن النمو خلال الفترة 1999-2009 والذي وصل إلى معدل 8% في نهاياتها، ناتجاً عن المنح الخارجية والإنفاق الرأسمالي للحكومة بقدر ما كان حصيلةً لارتفاع مستويات الصادرات والاستثمارات الخارجية والداخلية التي تضاعفت أكثر من مرة.
ويؤكد حسان أن التدخلات التنموية كانت بحاجة لمزيد من الوقت والمراجعة والتقييم لزيادة فعاليتها وعكس النمو الاقتصادي على المساحة التنموية بكاملها بصورة أكثر شمولية. ويوضح أن الإنجازات ظلت أقل مما تاقت إليه الرؤية الملكية رغم النجاحات الملموسة خلال تلك الفترة القصيرة، لأسبابٍ من أهمها حالة التجاذب بين أقطاب متنافرة داخل الدولة ومؤسساتها والتي غالباً ما كانت نتيجة خلافات شخصية أو صراعات على النفوذ، بالإضافة إلى تباين في الرؤى الإصلاحية.
ويشير إلى أن غياب الجهد الوطني المتكامل في تنفيذ الرؤية الملكية والسياسات والبرامج المنبثقة عنها بشكل فاعل، أثّر إلى حدّ كبير في القدرة على التنفيذ، وجعلَ مخرجات العديد من البرامج المهمة والضرورية تتسم بالضعف، وكثيرٌ منها لم يكتمل.
لذلك، فإنّ الجهود التي أطلقها الملك عبدالله الثاني خلال العقد الأول من حكمه رغم كل إنجازاتها، لم تُمنَح الفرصة لتؤتي ثمارها المرجوّة، وربما لو قُيِّض لمسار النمو الاقتصادي في تلك السنوات أن يستمر بالوتيرة نفسها خلال العقد الأخير لتمكّن الأردن من تصويب العديد من التشوهات وإعادة توجيه بعض السياسات بكفاءة في ظل اقتصاد مزدهر وبأقل الكلف الاجتماعية، ليُحْدِث نقلة نوعية إضافيّة في مساره التنموي.
وفي الفصل الثالث، يتوقف حسان عند المحطات المفصليّة في العقد الأخير، وتحدّيات النمو المتدنّي، وتراكم المديونية، وتآكل دخل الأفراد، وارتفاع مستويات البطالة مجدّداً، وبلوغ الأزمات الإقليمية ذروتها، سواء أكان ذلك مرتبطاً بـ"الربيع العربي" الذي انعكست آثاره داخلياً، أو بالحرب في سوريا وما تمخّضت عنه من انتشار الإرهاب الداعشي، أو بتفاقم "الحصار التجاري" الذي يعاني منه الأردنّ منذ سنوات بسبب إغلاق حدوده مع سوريا والعراق لفترات طويلة، أو بمواجهة جائحة "كورونا" وآثارها الاقتصادية.
لقد مثّلت تلك المرحلة بدايةً لفقدان السيطرة على مسار السياسة المالية في مواجهة الأزمات الخارجية الشديدة التي ألقت بظلالها على الأردن طوال العقد الأخير وما يزال يعاني من تبعاتها حتى اليوم، إذ طغت أولويات الأمن والسياسة في وجه الطارئ الإقليمي، على القرار المالي والاقتصادي خلال الفترة 2011-2013، فغابت القدرة على ضبط الإنفاق، مع الاستمرار بمستويات الدعم العالية للكهرباء والمحروقات وبعض السلع، وزيادة نمو الإنفاق الجاري. فقد ارتفع الإنفاق على الرواتب من 773 مليون دينار في عام 2009 إلى أكثر من 1.2 مليار دينار في عام 2013. وارتفعت كلف دعم المواد التموينية والمحروقات من 186 مليون دينار في عام 2009 إلى 893 مليون دينار في عام 2012، لتفوق الإنفاقَ على الصحة أو التعليم في عام 2011 وفي عام 2012 أيضاً.
وكانت الغاية من هذا الإنفاق، وفقاً للمؤلف، مواجهة الارتفاع الهائل في كلف الطاقة، وضمان الأمن المجتمعي، وحماية استقرار المملكة التي وجدت نفسها خلال أقل من عام في محيط إقليمي تسوده الفوضى ويتوالى فيه الانهيار السياسي والأمني والاقتصادي.