هكذا يحمون استقلالنا.. هكذا نستقبل رمضان
كنت أتأمل شرطي السير الشاب، وهو يمسح حبات العرق عن وجهه، بعد طول وقوف تحت الشمس، ساعياً إلى تنظيم السير والتخفيف عن الناس، الذين كانوا يزيدون من إرهاقه إرهاقاً، وهم يدخلون معه في جدل عقيم كي يسمح لهم بمخالفة القانون، والوقوف في الأماكن الممنوعة، وكأن مخالفة القانون صارت أمراً مألوفاً نستطيع المجادلة فيه والدفاع عنه، أو كأن هذه المخالفة للقوانين صارت حلاً لدى الكثيرين منا للوصول إلى أهدافهم لذلك صارت الواسطة أول ما نفكر فيه إذا أردنا الحصول حتى على حق من حقوقنا المشروعة، وهذا خلل خطير علينا أن نعمل جميعاً على معالجته والتخلص منه، إذا أردنا بناء دولة المواطنة والقانون، التي هي هدف الاستقلال الذي كنا نحتفل يوم الخميس الماضي بعيده الحادي والسبعين، وهو نفس اليوم الذي كنت أتأمل فيه شرطي السير المتصبب عرقاً بسبب الإجهاد أثناء أدائه لواجبه، الأمر الذي قاد فكري إلى التأمل بما يقوم به في تلك الأثناء عشرات الآلاف من أبناء قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية ليحموا استقلالنا،فمثل شرطي السير الذي كان يقف أمامي تحت الشمس، كان هناك الآلاف من أبناء الأمن العام موزعين على الطرقات، وفي المراكز الأمنية على امتداد الوطن، يضبطون إيقاع حياتنا بالقانون، وهم في سبيل ذلك لا يعرفون عطلة في يوم الاستقلال ولا في غيره من أيام العطل التي نستمتع بها نحن الذين نحتفل بالاستقلال.
وإذا كان رجال الشرطة ومثلهم رجال الدرك هم القوة الظاهرة للعيان، التي تضبط إيقاع حياتنا مع القانون، فإن من أبناء الوطن من يبذلون جهداً أكبر وأخطر وأكثر مشقة، دون أن نراهم وهم يؤدون واجبهم في ممارسة وحماية استقلالنا، أولئك هم جند الحق من رجال المخابرات العامة، القابضون على جمر الحقيقة أناء الليل وأطراف النهار، دون كلل أو ملل، فهؤلاء النشامى أيضاً لا تعرف الراحة إليهم سبيلاً ولا يعرف النعس إلى عيونهم درباً، فلو نام هؤلاء لم استطاع أحد منا أن ينام في ظل المخاطر التي تهددنا، فتصدها يقظة جند الحق من فرسان المخابرات العامة المنتشرون في كل مكان يحرسوننا ويحرسون استقلالنا دون أن نراهم، فهم أيضاً لا يعرفون أيام العطل التي نمضيها نحن باسترخاء وفي حفلات «الهش و النش»، ويمضونها هم في أعلى درجات اليقظة والجهوزية.
ومثل جند الحق في المخابرات العامة، كذلك رجال القوات المسلحة وحرس الحدود على امتداد حدود الوطن، يعفرون جباههم بترابه وهم يسجدون لله في صلواتهم التي تزيد من يقظتهم يقظة، فلا يسمحون حتى لهوامّ الأرض أن تتسلل عبر حدودنا، فهؤلاء هم عسكر الأردن الذين تعلموا أنهم جنود الإسلام السمح، الذي يواجه بهم أشرس معركة تستهدف تشويه تعاليمه على يد العصابات التكفيرية التي ينكسر كيدها على صلابة رجال قواتنا المسلحة، الذين احتفلوا بعيد استقلالنا على الجبهات وتحت الشمس لننعم نحن باسترخائنا ونستقبل رمضان على غير مفاهيمه الحقيقية، ففي عيد الاستقلال الذي جاء هذا العام بين يدي رمضان أمضت الغالبية الساحقة منا يوم عطلة عيد الاستقلال موزعة مابين الاسترخاء والتزاحم في شراء حاجات رمضان، وفي التسابق بنشر صور الموائد على صفحات التواصل الاجتماعي، في سلوك اجتماعي مرذول وشائن وعادة غريبة على قيمنا وعاداتنا الاجتماعية، فمنذ متى يستعرض الواحد منا ما يأكل ويشرب، وقد كنا نحرص على أن لا تنبعث رائحة طعامنا فتؤذي جار أو عابر سبيل، قد لايستطيع أن يأكل مما نأكل، بل لقد كان من الرذائل أن يأكل المرء في الشارع حتى لا يؤذي غيره، فما بالك باستعراض أصناف طعامه على وسائل التواصل العامة، أليس ذلك خروجاً على الذوق العام، ليس أسوأ منه ولا أبشع إلا خروجنا على مفاهيم رمضان الحقيقية، وطريقة استعدادنا لاستقباله بالتزاحم على شراء وتخزين كميات كبيرة من المواد الغذائية، وكأن رمضان شهر المأكل والمشرب، وما لذ وطاب من صنوف اللهو. فأين حكمة رمضان بالاحساس بالغير من الفقراء والمساكين واحساسهم بالجوع والحرمان، أم أن الاحساس بالآخر مات لدى غالبيتنا؟ وأين الفوائد الصحية المأمولة من رمضان إن كنا سننهي يوم جوعنا وعطشنا بتخمة من الطعام والشراب؟ ولماذا تصر الكثير من وسائل الإعلام والتوجيه على ترسيخ صورة رمضان على أنه شهر الأكل والشرب فتكثر من برامج الطعام والشراب، ومن الملاحق الصحفية التي تؤكد هذا المعنى المغلوط لرمضان؟
رمضان كما تعلمناه من كتب السيرة ومن سلوك السلف، هو شهر الانتصار على الشهوات، فلماذا صرنا نتفنن في التحضرات لكل ما يثير شهواتنا في رمضان من طعام وشراب، وملذات اللهو التي تلهينا عن معاني رمضان، كما رأيت وأنا أتأمل في عرق شرطي السير الذي يتصبب تعبا، ومن خلفه كل نشامى قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية الذين يصلون ليلهم بنهارهم لننصرف نحن إلى ممارسة حياتنا التي فقدت معانيها في الكثير من جوانبها، بما في ذلك معاني رمضان الحقيقية والدليل في طريقة استقبالنا لرمضان من خلال التزاحم في متاجر المواد الغذائية.
الرأي