صنّعوا البارود والقنابل يدوياً وحاصروا القيادة المركزية للقوات الفرنسية.. عن ثورة القاهرة الثانية
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/21 الساعة 20:59
مدار الساعة - غالباً ما يتمّ تصدير الغزو الفرنسي لمصر على يد نابليون بونابرت، باعتباره "الحملة الفرنسية على مصر"، كما يتمّ تصديرها كذلك باعتبارها "الحملة" التي استطاعت فكّ رموز حجر رشيد واللغة الفرعونية القديمة وغيرها من "الإنجازات" الثقافية. ولكن إلى جانب كلّ هذا كان هناك دماء ووحشية في التعامل مع المصريين.
لم يكتفِ الفرنسيون باحتلال مصر، بل استغلوا أهلها، وعندما ثار أهلها ضدّ حكمهم، لم يجدوا في مواجهتهم إلا وحشية البارود والمدافع الفرنسية.
قامت ثورة القاهرة الثانية في 20 مارس/آذار 1800، وانتهت بعد 33 يوماً تقريباً، باستسلام الثوار بعد هزيمتهم يوم 21 أبريل/نيسان. وفي ذكرى انتهاء تلك الثورة العارمة نذكّركم بتفاصيل ثورة القاهرة الثانية.
نابليون بونابرت يهرب إلى فرنسا
بشكلٍ مفاجئ، وبعد هزيمته في معركة أبوقير البحرية، وبعد فشله الكبير في احتلال مدينة عكّا أيضاً، بعدما هزمه أحمد باشا الجزّار، قرّر نابليون بونابرت الانسحاب فجأةً من مصر عام 1799، أي بعد احتلالها بسنة فقط، وترك خلفه الجنرال الفرنسي جان باتيست كليبر. نابليون بونابرت
معركة أبو قير التي هزم فيها نابليون بونابرت/ IStock
كان احتلال مصر أزمة كبيرة بالنسبة لمنافسة فرنسا وعدوها اللدود في التاريخ الأوروبي: بريطانيا. فقد كان احتلال مصر من بدايته جزءاً من استراتيجيةٍ أكبر تهدف إلى قطع الطريق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند. بعدما احتل نابليون مصر، استطاع أن يحقق بعض الانتصارات السريعة، لكنّه ما لبث أن فشل فشلاً ذريعاً في احتلال عكا بعد استماتة ذئبها العجوز أحمد باشا الجزار في الدفاع عنها. ثمّ ما لبث نابليون أن انهزم في معركةٍ بحرية حاسمة في مواجهة البحرية البريطانية: معركة أبو قير البحرية. يمكنك القراءة بالتفصيل عن هزيمة نابليون بونابرت على يد أحمد باشا الجزار، من هنا. بعد هذه المعركة أصبح نابليون بلا بحريّة في مصر، وهكذا هرب نابليون خفيةً إلى بلاده تاركاً كليبر يواجه مصيره. تحرّك كليبر سريعاً لإبرام اتفاقية مع العثمانيين، سُميت باسم اتفاقية العريش، وقد وقّعت في يناير/كانون الثاني عام 1800. نصّت الاتفاقية على جلاء الجيش الفرنسي من مصر خلال 3 شهور، على أن يجهّز العثمانيون أسطولاً لنقلهم إلى فرنسا، فالجيش الفرنسي بلا أسطول بعدما هزم في معركة أبو قير البحرية. كان العثمانيون قد تحالفوا مع البريطانيين بعد احتلال مصر من قِبَل نابليون وجيشه. بعدما أبرم العثمانيون اتفاقهم مع كليبر، تدخل البريطانيون بشرطٍ تعجيزي: أن يسلّم الجنود الفرنسيون سلاحهم ويخرجوا من مصر باعتبارهم أسرى حرب. رفض كليبر الشرط التعجيزي، وهنا تصاعدت الأحداث ووقعت بينه وبين العثمانيين معركة برية سميت معركة عين شمس، وقد وقعت في مارس/آذار 1800. استطاع كليبر بجيشه المتطوّر حسن التدريب هزيمة العثمانيين في معركة عين شمس. لكنّ هذه المعركة لم تكن آخر معاركه في مصر. ويبدو أنّ كليبر بعد هذا الشرط التعجيزي قد قرر البقاء في مصر، فقد أدرك أن خصومه اللدودين (البريطانيين) لن يتركوه يخرج سالماً من مصر. ثورة القاهرة الثانية.. سكّأن القاهرة يحاصرون قيادة الجيش الفرنسي المركزية
على عكس ثورة القاهرة الأولى التي بدأت من الجامع الأزهر، فقد بدأت ثورة القاهرة الثانية من حيّ بولاق، وقد كان قياداتها الأساسيون تجاراً وحرفيين وليس أعياناً ومشايخ. وعلى رأس هؤلاء القادة الميدانيين الحاج مصطفى البشتيلي، وهو أحد أعيان بولاق. واسمه البشتيلي انتساباً لقرية "بشتيل" في الجيزة. بدأت ثورة القاهرة الأولى يوم 20 مارس/آذار 1800، وهو نفس تاريخ اندلاع معركة عين شمس بين القوات العثمانية والجيش الفرنسي المحتلّ. ثورة القاهرة الثانية
معركة عين شمس التي اندلعت بسببها ثورة القاهرة الثانية/ IStock
انضمّ للثوار الزعماء والأعيان التقليديون، مثل السيد عمر مكرم نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي شاه بندر (كبير التجّار). لكنّ أبرز هؤلاء جميعاً كان القائد الميداني مصطفى البشتيلي، الذي اعتقله الفرنسيون سابقاً عام 1799 لعدة أشهر بسبب أنّه كان يخفي في وكالته بحي بولاق قدوراً ممتلئة بالبارود. سجّل وقائع ثورة القاهرة الثانية المؤرخ الشهير الجبرتي، ويخبرنا عن بداية الثورة قائلاً: أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزَّم الحاج مصطفى البشتيلى وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم وأسلحتهم، ورمّحوا وصفّحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذى تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التى للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالى البلد ومتاريس. وهكذا بدأت الثورة من حي بولاق، ولكنّها انتشرت مثل النار في الهشيم في بقية أحياء المدينة. تحرّك أهالي بولاق متسلحين بالسيوف والبنادق والرماح والعُصيّ، واتجهوا إلى قلعة قنطرة الليمون ليقتحموها، لكنّ حامية القلعة استطاعت ردهم، فأعاد الثوار ترتيب خطوطهم وأعادوا الهجوم، لكنّهم فشلوا أيضاً في اقتحامها، ووقع من الثوار 300 شهيد. انضمّ بعض الجنود العثمانيين والمماليك إلى الثورة، بعدما هربوا من معركة عين شمس، ثمّ توجهت حشود الثوار نحو معسكر القيادة العامة للجيش الفرنسي بمنطقة الأزبكية وحاصروه، واحتلوا المنازل المجاورة له. وتبادلوا المناوشات مع الجنود الفرنسيين، وقد صنّع الثوار المصريون بما أتيح لهم من أدوات البارود. كما صنّعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الحدادين، بل ويذكر أحد مهندسي الجيش الفرنسي أنّ الثوار استخدموا المدافع، وهو ما ذكره كليبر نفسه في مذكراته: استخرج الأعداء مدافع كانت مطمورة فى الأرض وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصبّ المدافع وعمل القنابل، وأبدوا فى كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية، هذه هي بوجه عام حالة القاهرة عند قدومى إليها، وإني لم أكن أتصورها فى هذه الدرجة من الخطورة. عودة كليبر وإخماد ثورة القاهرة الثانية بوحشية
بعدما انتصر كليبر على الجيش العثماني في معركة عين شمس، تثبّتت أقدامه في مصر، لكنّه عندما عاد للقاهرة وجدها مثل فوّهة بركان، جنوده يقتّلون في الشوارع، بل ومقر القيادة المركزة محاصراً من قِبل قوات الثوار. حاول كليبر أوّل الأمر أن يستوعب الثوار ويصل معهم إلى منطق تفاوضي، لكنّ الثوار رفضوا مرتين عرضه عليهم بالتفاوض. وهنا بدأ الهجوم الفرنسي المضاد على الثوار. بدأ الهجوم الكبير يوم 18 أبريل/نيسان، هاجم الجيش الفرنسي القاهرة من الشمال ومن الشرق ومن الجنوب، استطاع الجيش الفرنسي هزيمة الثوار في أغلب الأحياء، حتّى وصل في النهاية إلى حيّ بولاق، منشأ الثورة، ومنتهاها أيضاً. استطاعت القوات الفرنسية احتلال حي بولاق في النهاية والقضاء على الثورة، ويصف الجبرتي ما فعلوه بحي بولاق وثواره. فقد هجم الفرنسيون على بولاق من ناحية البحر والبر، وقاتل أخل بولاق باستماتة حتّى غلبهم الفرنسيون وحاصروهم من كل جهة، وقلتوا منهم وحرقوا ثواراً كثيرين. يقول الجبرتي: وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصاً البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكالات والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذى وجدوه منعكفاً فى داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحاً نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حياً، وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم. وهكذا انتهت ثورة القاهرة الثانية كما بدأت في حي بولاق، ورغم أنّ الثورة انتهت بعدما توسط بعض المشايخ والأعيان لكي لا ينتقم الفرنسيون، ورغم أنّ كليبر أعطاهم وعداً بالأمان، فإنّ ذلك لم يمنعه من النهب والقتل. فقد فرض غرامات على العلماء والأعيان المشاركين في الثورة، وصادر أملاك كبير التجار الشيخ أحمد المحروقي، كما قرر غرامات على أصحاب الحرف. وقد غادر القاهرة مع العثمانيين والمماليك نقيب الأشراق الشيخ عمر مكرم والشيخ أحمد المحروقي. أمّا القائد الميداني في بولاق الحاج مصطفى البشتيلي فقد قُبِضَ عليه و أرغموا أتباعه وصبيانه على أن يقتلوه ضرباً بالعصيّ حتى مات. لم يستمر كليبر في حكم مصر كثيراً، فما هو إلا شهران حتّى اغتاله سليمان الحلبي، ولكن لهذا قصة أخرى يمكنك قراءتها من هذه المادة.
بشكلٍ مفاجئ، وبعد هزيمته في معركة أبوقير البحرية، وبعد فشله الكبير في احتلال مدينة عكّا أيضاً، بعدما هزمه أحمد باشا الجزّار، قرّر نابليون بونابرت الانسحاب فجأةً من مصر عام 1799، أي بعد احتلالها بسنة فقط، وترك خلفه الجنرال الفرنسي جان باتيست كليبر. نابليون بونابرت
معركة أبو قير التي هزم فيها نابليون بونابرت/ IStock
كان احتلال مصر أزمة كبيرة بالنسبة لمنافسة فرنسا وعدوها اللدود في التاريخ الأوروبي: بريطانيا. فقد كان احتلال مصر من بدايته جزءاً من استراتيجيةٍ أكبر تهدف إلى قطع الطريق بين بريطانيا ومستعمراتها في الهند. بعدما احتل نابليون مصر، استطاع أن يحقق بعض الانتصارات السريعة، لكنّه ما لبث أن فشل فشلاً ذريعاً في احتلال عكا بعد استماتة ذئبها العجوز أحمد باشا الجزار في الدفاع عنها. ثمّ ما لبث نابليون أن انهزم في معركةٍ بحرية حاسمة في مواجهة البحرية البريطانية: معركة أبو قير البحرية. يمكنك القراءة بالتفصيل عن هزيمة نابليون بونابرت على يد أحمد باشا الجزار، من هنا. بعد هذه المعركة أصبح نابليون بلا بحريّة في مصر، وهكذا هرب نابليون خفيةً إلى بلاده تاركاً كليبر يواجه مصيره. تحرّك كليبر سريعاً لإبرام اتفاقية مع العثمانيين، سُميت باسم اتفاقية العريش، وقد وقّعت في يناير/كانون الثاني عام 1800. نصّت الاتفاقية على جلاء الجيش الفرنسي من مصر خلال 3 شهور، على أن يجهّز العثمانيون أسطولاً لنقلهم إلى فرنسا، فالجيش الفرنسي بلا أسطول بعدما هزم في معركة أبو قير البحرية. كان العثمانيون قد تحالفوا مع البريطانيين بعد احتلال مصر من قِبَل نابليون وجيشه. بعدما أبرم العثمانيون اتفاقهم مع كليبر، تدخل البريطانيون بشرطٍ تعجيزي: أن يسلّم الجنود الفرنسيون سلاحهم ويخرجوا من مصر باعتبارهم أسرى حرب. رفض كليبر الشرط التعجيزي، وهنا تصاعدت الأحداث ووقعت بينه وبين العثمانيين معركة برية سميت معركة عين شمس، وقد وقعت في مارس/آذار 1800. استطاع كليبر بجيشه المتطوّر حسن التدريب هزيمة العثمانيين في معركة عين شمس. لكنّ هذه المعركة لم تكن آخر معاركه في مصر. ويبدو أنّ كليبر بعد هذا الشرط التعجيزي قد قرر البقاء في مصر، فقد أدرك أن خصومه اللدودين (البريطانيين) لن يتركوه يخرج سالماً من مصر. ثورة القاهرة الثانية.. سكّأن القاهرة يحاصرون قيادة الجيش الفرنسي المركزية
على عكس ثورة القاهرة الأولى التي بدأت من الجامع الأزهر، فقد بدأت ثورة القاهرة الثانية من حيّ بولاق، وقد كان قياداتها الأساسيون تجاراً وحرفيين وليس أعياناً ومشايخ. وعلى رأس هؤلاء القادة الميدانيين الحاج مصطفى البشتيلي، وهو أحد أعيان بولاق. واسمه البشتيلي انتساباً لقرية "بشتيل" في الجيزة. بدأت ثورة القاهرة الأولى يوم 20 مارس/آذار 1800، وهو نفس تاريخ اندلاع معركة عين شمس بين القوات العثمانية والجيش الفرنسي المحتلّ. ثورة القاهرة الثانية
معركة عين شمس التي اندلعت بسببها ثورة القاهرة الثانية/ IStock
انضمّ للثوار الزعماء والأعيان التقليديون، مثل السيد عمر مكرم نقيب الأشراف والسيد أحمد المحروقي شاه بندر (كبير التجّار). لكنّ أبرز هؤلاء جميعاً كان القائد الميداني مصطفى البشتيلي، الذي اعتقله الفرنسيون سابقاً عام 1799 لعدة أشهر بسبب أنّه كان يخفي في وكالته بحي بولاق قدوراً ممتلئة بالبارود. سجّل وقائع ثورة القاهرة الثانية المؤرخ الشهير الجبرتي، ويخبرنا عن بداية الثورة قائلاً: أما بولاق فإنها قامت على ساق واحدة، وتحزَّم الحاج مصطفى البشتيلى وأمثاله وهيجوا العامة وهيأوا عصيهم وأسلحتهم، ورمّحوا وصفّحوا، وأول ما بدأوا به أنهم ذهبوا إلى وطاق الفرنسيس الذى تركوه بساحل البحر، وعنده حرس منهم، فقتلوا من أدركوه منهم ونهبوا جميع ما به من خيام ومتاع وغيره، ورجعوا إلى البلد وفتحوا مخازن الغلال والودائع التى للفرنساوية، وأخذوا ما أحبوا منها، وعملوا كرانك حوالى البلد ومتاريس. وهكذا بدأت الثورة من حي بولاق، ولكنّها انتشرت مثل النار في الهشيم في بقية أحياء المدينة. تحرّك أهالي بولاق متسلحين بالسيوف والبنادق والرماح والعُصيّ، واتجهوا إلى قلعة قنطرة الليمون ليقتحموها، لكنّ حامية القلعة استطاعت ردهم، فأعاد الثوار ترتيب خطوطهم وأعادوا الهجوم، لكنّهم فشلوا أيضاً في اقتحامها، ووقع من الثوار 300 شهيد. انضمّ بعض الجنود العثمانيين والمماليك إلى الثورة، بعدما هربوا من معركة عين شمس، ثمّ توجهت حشود الثوار نحو معسكر القيادة العامة للجيش الفرنسي بمنطقة الأزبكية وحاصروه، واحتلوا المنازل المجاورة له. وتبادلوا المناوشات مع الجنود الفرنسيين، وقد صنّع الثوار المصريون بما أتيح لهم من أدوات البارود. كما صنّعوا القنابل من حديد المساجد وأدوات الحدادين، بل ويذكر أحد مهندسي الجيش الفرنسي أنّ الثوار استخدموا المدافع، وهو ما ذكره كليبر نفسه في مذكراته: استخرج الأعداء مدافع كانت مطمورة فى الأرض وأنشأوا معامل للبارود ومصانع لصبّ المدافع وعمل القنابل، وأبدوا فى كل ناحية من النشاط ما أوحت به الحماسة والعصبية، هذه هي بوجه عام حالة القاهرة عند قدومى إليها، وإني لم أكن أتصورها فى هذه الدرجة من الخطورة. عودة كليبر وإخماد ثورة القاهرة الثانية بوحشية
بعدما انتصر كليبر على الجيش العثماني في معركة عين شمس، تثبّتت أقدامه في مصر، لكنّه عندما عاد للقاهرة وجدها مثل فوّهة بركان، جنوده يقتّلون في الشوارع، بل ومقر القيادة المركزة محاصراً من قِبل قوات الثوار. حاول كليبر أوّل الأمر أن يستوعب الثوار ويصل معهم إلى منطق تفاوضي، لكنّ الثوار رفضوا مرتين عرضه عليهم بالتفاوض. وهنا بدأ الهجوم الفرنسي المضاد على الثوار. بدأ الهجوم الكبير يوم 18 أبريل/نيسان، هاجم الجيش الفرنسي القاهرة من الشمال ومن الشرق ومن الجنوب، استطاع الجيش الفرنسي هزيمة الثوار في أغلب الأحياء، حتّى وصل في النهاية إلى حيّ بولاق، منشأ الثورة، ومنتهاها أيضاً. استطاعت القوات الفرنسية احتلال حي بولاق في النهاية والقضاء على الثورة، ويصف الجبرتي ما فعلوه بحي بولاق وثواره. فقد هجم الفرنسيون على بولاق من ناحية البحر والبر، وقاتل أخل بولاق باستماتة حتّى غلبهم الفرنسيون وحاصروهم من كل جهة، وقلتوا منهم وحرقوا ثواراً كثيرين. يقول الجبرتي: وملكوا بولاق وفعلوا بأهلها ما تشيب له النواصي، وصارت القتلى مطروحة في الطرقات والأزقة، واحترقت الأبنية والدور والقصور، وخصوصاً البيوت والرباع المطلة على البحر، وكذلك الأطراف، وهرب كثير من الناس عندما أيقنوا بالغلبة فنجوا بأنفسهم إلى الجهة القبلية، ثم أحاط الفرنسيس بالبلد، ومنعوا من يخرج منها واستولوا على الخانات والوكالات والحواصل والودائع والبضائع، وملكوا الدور وما بها من الأمتعة والأموال والنساء والخواندات والصبيان والبنات ومخازن الغلال والسكر والكتان والقطن والأباريز والأرز والأدهان والأصناف العطرية، وما لا تسعه السطور ولا يحيط به كتاب ولا منشور، والذى وجدوه منعكفاً فى داره أو طبقته ولم يجدوا عنده سلاحاً نهبوا متاعه، وعروه من ثيابه ومضوا وتركوه حياً، وأصبح من بقي من ضعفاء أهل بولاق وأهلها وأعيانها الذين لم يقاتلوا فقراء لا يملكون ما يستر عوراتهم. وهكذا انتهت ثورة القاهرة الثانية كما بدأت في حي بولاق، ورغم أنّ الثورة انتهت بعدما توسط بعض المشايخ والأعيان لكي لا ينتقم الفرنسيون، ورغم أنّ كليبر أعطاهم وعداً بالأمان، فإنّ ذلك لم يمنعه من النهب والقتل. فقد فرض غرامات على العلماء والأعيان المشاركين في الثورة، وصادر أملاك كبير التجار الشيخ أحمد المحروقي، كما قرر غرامات على أصحاب الحرف. وقد غادر القاهرة مع العثمانيين والمماليك نقيب الأشراق الشيخ عمر مكرم والشيخ أحمد المحروقي. أمّا القائد الميداني في بولاق الحاج مصطفى البشتيلي فقد قُبِضَ عليه و أرغموا أتباعه وصبيانه على أن يقتلوه ضرباً بالعصيّ حتى مات. لم يستمر كليبر في حكم مصر كثيراً، فما هو إلا شهران حتّى اغتاله سليمان الحلبي، ولكن لهذا قصة أخرى يمكنك قراءتها من هذه المادة.
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/21 الساعة 20:59