هؤلاء اختطفوا رمضان!
حلمي الأسمر
-1-
رمضان ليس استثناء من حالة الاختطاف التي نعيشها في هذه الحقبة من تاريخنا، حتى أنني أشعر أن مختطفي الشهر الكريم من الكثرة والتنوع بحيث اختلط علينا الأمر، أيهم على حق وأيهم على باطل، العبادات والمواسم الدينية ليست مناسبات دينية فقط بل لها جوانب دنيوية: «ليشهدوا منافع لهم» والمنافع هنا في العاجلة والآجلة، دنيا ودينا، ولا حرج، لكن ما يستفز المرء حين يتسلل تجار النخاسة تحديدا إلى مواسمنا فيسممون مشاعرنا إلى حد «يكرّهوننا» بواحدة من أجمل العبادات في ديننا: الصوم، فهو ممارسة دينية طبية إنسانية راقية، فيها من الفوائد ما عرف وما لم يعرف بعد، بل إن الصوم دخل قاموس الطب الحديث كعلاج لكثير من أمراض الروح والجسد، ومع هذا بتنا نشعر بضيق ما مع حلول هذا الشهر الكريم، لكثرة تزاحم «المنتفعين» والتجار ومنتهزي الفرص، مع العُبّاد والمتقين وطُلّاب المغفرة!
-2-
أكثر ما يستفز في «تقاليد» استقبال رمضان، استنفار قنوات التلفزة وتسابقها لملء ساعات بثها بما لذ وطاب من برامج الفجع وحك شهوة البطون، والتفنن في استقطاب كبار الطهاة، لتقديم أطباق يقال أنها رمضانية، وهي بريئة من هذه الصفة، لأنها لا تعدو كونها ضربا من الإسراف والبذخ الفاحش، الذي هو بالتأكيد ضد الصوم ومناقض له، ويرافق هذا نشاط محموم لنوع آخر من مختطفي رمضان، وهم التجار الذين يجدون في الشهر موسما ثريا لتسويق بضائع كاسدة، أو منسية في مستودعاتهم، وتحقيق أرباح فاتتهم في أشهر أخرى، مستثمرين لعاب الجوعى من الصائمين الذين يدمنون التسوق، ولا دليل لهم في الشراء غير ذلك اللعاب السائل، وشهوة المعدة، التي يتقن حكّها تجار محترفون، يعرفون كيف يسحبون المشترين من ألسنتهم!
-3-
الفئة الأكثر استفزازا من مختطفي رمضان، تجار النخاسة من «أهل الفن» وليس الفن كله كذلك، بل نخص بحديثنا فئة ضالة مضلة، تتفنن في حشو ساعات بث القنوات إياها بمسلسلات وأفلام بينها وبين رمضان وأجوائه سنوات ضوئية، بما تشتمل عليه من إسفاف وتزييف للتاريخ، واستنفار للشهوات وهدر الوقت بحجة «الترفيه» عن الصائم الغلبان، وهي في الواقع تسرق منه وقته وتقواه ودينه ودنياه، ولا يعود عليه من فائدة جراء مشاهدتها إلا ما يعود على مستهلك الخروب: درهم حلاوة وقنطار من الخشب، وهذا في أحسن الأحوال، إذ ربما لا تزيد الفائدة المتوخاة من بعض الأعمال «الفنية» المعروضة في رمضان عن أكل الصائم للزقوم والعلقم الذي هو حاصل جمع ذلك الفيلم أو المسلسل!
-4-
رمضان اختطف وانتهكت حرماته قبل أن يحل، شانه شأن ديننا عموما الذي تدّعي فئات وجماعات ومؤسسات «تمثيله» وهو بريء أو يكاد من كل هؤلاء، وكأني به اليوم يذكرنا بالأثر الكريم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء)..
ولا نريد هنا أن نزيد، فنتحدث عن تجار الدين، و»نجوم الوعظ»، الذين ينتظرون حلول الشهر الكريم لتسويق بضائعهم هم أيضا، من باب أن الموسم موسم عبادة ودين وتقوى، ليستعرضوا علة عباد الله مواهبهم في الحفظ وإعادة ترديد ما سمعناه ملايين المرات، حتى إذا تعرض أحدهم لموقف استحق بعض الرجولة اختفى مدعيا أنه لا يفهم بالسياسة، أو اصطف في جانب الظلمة والطواغيت!
الدستور