شعراء سجنهم التاريخ في مربع المجون (أسماء)
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/18 الساعة 01:27
مدار الساعة- "حدثنا أبو نُوَاس الحسن بن هانئ (ت 198هـ/813م)، قال: حدثنا حمّاد بن سَلَمَة (ت 167هـ/784م)، عن يزيد الرَّقَاشي (ت 119هـ/738م)، عن أنس بن مالك (ت 93هـ/713م)، قال: قال رسول الله ﷺ: «لا يموتنَّ أحدُكم حتى يحسن ظنَّه بالله، فإن حسن الظن بالله ثَمَنُ الجنة»"!!
أبو نُوَاس؟! نعم إنه هو!! إنه الشاعر الذي اشتهر بالمجون! فقد تجاوز العلماء -في روايتهم عن أبي نُوَاس- أحواله الشعرية المنفلتة إلى حمل ذخيرته من مرويات الحديث النبوي نفسه سالكين إياه في زمرة حمَلَتها، مهما كانت درجة تقييمهم لصحة هذه المرويات؛ فهذا الحافظ البغدادي (ت 463هـ/1072م) يترجم -في ‘تاريخ بغداد‘- للمحدِّث محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي (ت بعد 273هـ/886م)، قائلا إنه "رُوِي عنه عن أبي نُوَاس الشاعر حديثان مُسْنَدان"!!
وبالعودة إلى الحديث الذي رواه شاعرنا أبو نُوَاس عن حسن الظن بالله؛ فإن هذه السطور تقدم بعضا من ذلك الإحسان الموثَّق تاريخيا كاشفة عن الجانب الآخر من حياة أهل الأدب والشعر الذين يراد تنميط شخصياتهم في حيز الخلاعة والانفلات، واحتجاز الحياة الاجتماعية الأدبية الإسلامية في باحات الحانات والانحرافات، بينما تؤكد النصوص -المروية في مصنَّفات أئمة الحديث المعتبَرين- أن ثمة مسارا آخر يتجه ناحية التوبة والطاعة والانضباط وسم حياة كثير من الشعراء.
وتفيدنا تلك المصادر بأن جمهرة عريضة من الأدباء -أو على أقل تقدير رموز من يراد وصفهم بشعراء الخلاعة والمجون- طالما اشتملت تجاربهم الشخصية على ملامح أخرى مناقِضة؛ فكانوا بسببها -كما سنرى لاحقا- أصحابَ تأثير علمي ووعظي كبير حتى على أئمة الزهد ومشايخ الدين، فضلا عما كان لهم من أدوار علمية جالسهم فيها من أصبحوا أئمة كبارا، وإسهامات اجتماعية ومعرفية تأسست عليها فنون تتصل بالمعارف الشرعية والأدبية.
لقد كان خطأ متوارثا ذاك الاعتقاد الراسخ بمسلمة متداولة تذهب إلى الترابط بين بعض مجالات الأدب والثقافة والفن -في التجربة الثقافية الإسلامية- والصورةِ النمطية التي نحاول هنا خلخلتها بالمعطيات المستعرَضة. فكما في طبقات أعلام الحضارة الإسلامية في مختلف المجالات أصناف متعددة المسلكيات؛ فإن الآداب والفنون كانت كذلك، إذ مثَّل شعراء الزهد مثلا طائفة ثقافية مُلهِمة في الإٍسلام، وقبلهم شكّل شعراءُ الصحابة دورا مفصليا في العمل الخاص بتأسيس الإسلام وترويج رسالته.
لكن هذه المعالجة المقدَّمة هنا ليست مرافعة ضد مضمون التراجم وما انطبع عن شخصيات الشعراء من نمطية سلبية في ميزان القيم الأخلاقية، بل هي استخلاص لما لم يشتهر من جوانب حياتهم المضيئة، واستدعاء لكمّ وافر من المعلومات الكفيلة بإعادة تقويم النظر إليهم، وبحث جانب يستحق إيلاء الاهتمام من الباحثين والدارسين لتاريخ الحياة الأدبية عموما لملاءمة أجزاء الصورة بما يخدم الحقيقة تاريخيا وحضاريا.
إن هذا المقال يصيب شيئا من التوفيق حينما يصادف نشرُه احتفاءَ الناس بـ"اليوم العالمي للشعر" (21 مارس/آذار سنويا)، ويطمح بتلك المناسبة أن يسهم في تحرير بعض الصور الغائمة عن شعراء وأدباء ظلت حبيسة النمط الجائر، لأن مثل هذا المسح التاريخي المقدَّم يساعدنا في رصد جانب خفي من تاريخ مسار الأفكار، وواقع الفئات الثقافية والمجتمعية في الحضارة الإسلامية؛ فلم تكن في الحضارة الاسلامية حياتان واحدة للشعر وأخرى للشرع، ولكنها كانت حياة واحدة يعتريها السهو والصحو والخطأ والخطيئة والتوبة والإنابة.
بُعد واحد
"قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ (الثقفي ت 180هـ/797م) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ (ت 110هـ/728م) فَتَحَرَّكَ فَإِذَا فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟! فَقَالَ: حَلَفْتُ ألّا أَنْزِعَهُ حَتَّى أَحْفَظَ الْقُرْآنَ"!! لم يكن مضمون هذا النص -الذي أورده الإمام المحدِّث ابنُ كثير (ت 774هـ/1310م) في كتابه ‘البداية والنهاية‘- أبرزَ ما وصل إلينا في كتب التاريخ والتراجم عن الفرزدق ونظرائه من الشعراء. فالصورة العامة عن العديد من رموز الأدب -والشعر العربي خاصة وفي أزهى عصوره- تحيل كما ذكرنا إلى صور ذهنية منمَّطة عن شخصياتهم وحياتهم، ظلت خلاصة ملامحها تراوح بين أجواء اللهو والظرف ومجالس الطرب وتبادل التماحك الشعري، وارتياد حانات الخمر وتجمعات الخلاعة والمجون. لكننا إذا فتشنا في بطون سجلات التاريخ وصفحات التراجم فإننا سنلاقي أشهر رموز القصيدة -منذ العصر الأموي والعباسي- منشغلين باهتمامات تُجسِّدُ في العبادة أحوال العارفين، وتلتقي مع جهابذة العلم الإسلامي على مهاد سواء، لكنها ظلت غائبة عن التناول والتداول. اعلان ولا نقصد هنا شعراء عرفتهم الحضارة الإسلامية بهذا التوجه منذ أصبحوا شيئا مذكورا في الأوساط الأدبية؛ بل نعني أصحاب قصائد الهجاء التي عُرفت بالنقائض، وهم: الفرزدق (ت 110هـ/728م) وجرير (ت 110هـ/728م)، والشاعر الأكثر صلة بموضوع هذه المقالة عمر بن أبي ربيعة (ت 93هـ/711م) الذي استشهد غازيا في سبيل الله، ووريثه العَرْجي (ت 120هـ/738م) الذي كان ينفق أمواله على الجنود الفاتحين، وأبو نُوَاس (ت 198هـ/813م) الذي طلب الفقه والحديث على كبار علماء عصره، وروى عنه أعلام الأئمة وأسّس لشعر التوسل الديني. فإذا جئنا إلى الفرزدق الذي بدأنا به قائمة شعراء هذا الحديث، رغم أنه لم يكن الأكثر تعرضا للطعن والاتهام في دينه وسلوكه العام مقارنة بشعراء آخرين؛ فسنجد ما يحدثنا به ابن عساكر (ت 571هـ/1176م) -في ‘تاريخ دمشق‘- عنه حين كان بين جموع مشيعين لأحدهم في المقبرة. فقد جاء الإمام الزاهد "الْحَسَنُ (البصري ت 110هـ/728م) عَلَى بَغْلَتِهِ وَالْفَرَزْدَقُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَسَارَا [متوازييْن]، فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: مَاذَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَهِدَ هَذِهِ الْجِنَازَةَ الْيَوْمَ خَيْرُ النَّاسِ، يَعْنُونَكَ؛ وَشَرُّ النَّاسِ، يَعْنُونِي! فَقَالَ لَهُ [الحسن]: يَا أَبَا فِرَاسٍ لَسْتُ بِخَيْرِ النَّاسِ، وَلَسْتَ بِشَرِّ النَّاسِ! ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً"! وأنشد يقول:
أخافُ وراءَ القبر إن لم يُعافِني ** أشدّ من القبر التهابا وأضيقا
إذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ** عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى ** إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا
فَبَكَى الْحَسَنُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ الْتَزَمَ (= ضمّه) الْفَرَزْدَقَ وَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ"! لكن هذا التعديل الذي دخل على وجهة نظر الحسن حول الفرزدق ليس هو الذي سارت به الركبان عبر التاريخ، وإنما بقي المعطى الآخر السلبي عن الفرزدق هو الأكثر حضورا في الخلفية. ومن هنا نجد ابن قُتَيْبَة الدِّينَوري (ت 276هـ/889م) يصفه -في كتابه ‘الشعر والشعراء‘- قائلا: "وكان الفرزدقُ فاسِقاً". كما نطالع عند ابن بسام الشَّنتريني (ت 542هـ/1147م) -في ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‘- قوله: "وممن سلك أيضاً هذه السبيل من الشعراء المجاهرين بالمجون الناطقين بألسن الشياطين: الفرزدقُ"! إن أول من يستحضر الناسُ اسمَه مع الفرزدق عند استحضار الصور السلبية النمطية عن الشعراء؛ هو منافسه جرير بن عطية الذي عدّه -تحديدا في مجال المضامين- أبو العباس القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- في قائمة "من كان فردا في زمانه بحيث يُضرب به المثل" في الهجاء الخارج عن مقتضى تعاليم الفضائل والأخلاق الإسلامية. لكن الإمام المحدّث الذهبي (ت 748هـ/1348م) ترجم لجرير في ‘سير أعلام النبلاء‘؛ فنقل "عن عثمان التيمي (ت بعد 110هـ/728م) قال: رأيتُ جريرا وما تُضَمّ شفتاه من التسبيح! وقيل: كان جرير عفيفا مُنِيبًا (= كثير التوبة)"؛ فلعل هذا الوصف من هذا الإمام يَرْجح بصورة جرير في مقابل أي انطباع سلبي شاع عنه. تفهُّم متحفظ
تأثثت القصيدة العربية في العصور الإسلامية بالعديد من المضامين التي لم تكن تخلو منها في عصر الجاهلية، ولكن المضيّ بلا هوادة في توظيفها كان هو الخيط الفاصل ما بين انطباع الشعراء بصبغة معينة أو سلامتهم منها، وهنا كان مكمن التحدي! ويصور لنا مشكلات الاحتكاك ما بين النهجين ما أورده ابن كثير -في تفسيره- عند الآية التي وصفت الشعراء بأنهم ﴿يقولون ما لا يفعلون﴾، (سورة الشعراء/ الآية: 226)؛ فقد ذكر "أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ت 23هـ/644م) -رضي الله عنه- استعمل (= جعله واليا) النعمان بن عَدِي بن نضلة (العَدَوي ت نحو 30هـ/652م) على مَيْسَان -من أرض البصرة- وكان يقول الشعر، فقال:
فإن كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المُتَثَلِّم
لعل أمير المؤمنين يَسُوؤُه ** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدِّم!! فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين قال: إي والله، إنه ليسوؤني ذلك! ومَنْ لقيه فليُخْبره أني قد عزلتُه، وكتب إليه: “﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، (سورة الشعراء/ الآية: 1-3)؛ أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يَسُوؤُه ** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدِّم!!
وأيْمُ اللهِ، إنه ليسوؤني! وقد عزلتك”. فلما قدم على عمر بكّته (= وبَّخَه) بهذا الشعر، فقال: والله -يا أمير المؤمنين- ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني؛ فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدا، وقد قلتَ ما قلتَ"!! ففي الوقت الذي كان فيه الفاروق متفهما لمقتضيات النهج الشعري عند الصحابي ابن عدي، فإنه قرر الحزم في الأخذ بالإجراءات الضبطية لصيانة سمعة منصب المسؤولية العامة، رغم صلة النسب الوثيقة التي تربطه بابن عمه هذا، فكلاهما ينتمي إلى بطن قرشي واحد. وكانت تلك السابقة تأسيسا لحالة من التحفظ -المشفوع في كثير من صوره بعدم اليقين- فرضت نفسها عند تقويم شؤون الشعراء والأدباء، وألقت بظلالها على الحياة الثقافية منذ تجربة أول حاكم بعد خلفاء الصحابة، وهو يزيد بن معاوية (ت 64هـ/683م)؛ فقد قال الذهبي -في ‘السِّيَر‘- عن يزيد هذا: "له شعر جيد، وكان.. يتناول المسكر ويفعل المنكر". أما ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (ت 126هـ/744م) الذي وَلِيَ بعدَه الخلافة بنحو خمسين سنة؛ فقد قال عنه أبو الفرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) في كتابه ‘الأغاني‘: له في "الخمر وصفتها أشعار كثيرة قد أخذها الشعراء فأدخلوها". وذلك أنه إذا كان الناس على دين ملوكهم فإن تيارا أدبيا عريضا من البداية وقع تحت الاتهام بنهج ذيْنِكَ الحاكمين، رغم وجود دلائل في التراجم ظلت تَشي بما لا يندرج ضمن ذلك التصنيف النمطي.
انطباعات نمطية
وإذا كان هذا من ناحيةٍ يمثل إقصاءً معنويا لفئة كثيرة من الشعراء عن مرتكز المنظومة الأخلاقية التي تحكم مجتمع الحضارة الإسلامية؛ فإن المفارقة أن هؤلاء بقوا حاضرين فيها -بل وفي أكثر المواقع قداسة فيها- من خلال الاستشهاد بأشعارهم في تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية. فها هو الإمام اللغوي عبد القادر البغدادي (ت 1093هـ/1682م) يتحدث عن طبقتهم -في ‘خزانة الأدب‘- بقوله: "يقال لهم [الشعراء] الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق". وأضاف أن "الصحيح صحة الاستشهاد بكلامها"، أي هذه الطبقة من الشعراء. وفي هذا الصدد أيضا؛ لا يخفى دور ذلك التخطيط الهندسي للمواضيع والاهتمامات الثقافية لطوائف المجتمع، والرؤية التي تضمّنها بشأن الشعر وصاغها الأصمعي (ت 216هـ/831م) بقوله إن "الشعر نَكِدٌ: يَقْوَى في الشر ويسْهُل، فإذا دخل في الخير ضعُف ولَانَ"! طبقا لرواية الإمام المحدِّث ابن عبد البَرّ القرطبي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘الاستيعاب في معرفة الأصحاب‘. هنا وفي هذه الأجواء؛ نطالع الشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ/711م) الذي يعدّ أحد أبرز النماذج الشهيرة واللصيقة بفئة الشعراء ذوي الصورة المنمَّطة سلبا، فهو حسب المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- يقال إنه "كان الحسن البصري.. إذا جرى ذكْر ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر.. يقول: أيّ حقٍّ رُفِعَ وأيّ باطل وُضِع"! لكن في المقابل تُمدّنا أيضا كتب التراجم بما يساهم في إعادة تشكيل الانطباع عن هذا الشاعر الغَزِل؛ إذ نقرأ في ‘تاريخ دمشق‘ للحافظ ابن عساكر: "عن الشَّعْبي (ت 100هـ/719م) قال: قال عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م): فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة، غزا البحر فاحترقت سفينته فاحترق فيها"!! ويحكي الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه "رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ غَزَا الْبَحْرَ، فَاحْتَرَقَتْ سَفِينَتُهُ وَاحْتَرَقَ [هو] رَحِمَهُ الله"، ويوضح لنا -في ‘سير أعلام النبلاء‘- من كان وراء هذا الإحراق فيقول: "فَأَحْرَقَ العَدُوُّ سَفِيْنَتَهُ". ومن اللافت أن الذهبي لم يورد أي سبب آخر لوفاته!! والظاهر أن مشاركة هذا الشاعر المخزومي في الجهاد -حيث كانت خاتمته الحسنة- إنما كانت نتيجة طبيعية لتحوُّل حدث في نقطة ما من حياته، وقاده إلى الإعراض عن قرْض الشعر؛ وهو ما يفيدنا به الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في كتابه ‘روضة المحبين ونزهة المشتاقين‘- بقوله إن "عمر بن أبي ربيعة.. ترك الشعر ورَغِبَ عنه، ونذر على نفسه بكل بيت يقوله هَدْيَ بُدْنَةٍ (= ناقة تنحر للفقراء بمكة)"!!
تثمين لافت
وتُصوّر لنا الحكايةُ التاريخيةُ كيف انتقلت جذوة هذا النمط من الاهتمام الشعري -الذي جعل عمر بن أبي ربيعة يتعرض للانتقاد- بالوراثة الأدبية إلى شاعر آخر هو عبد الله بن عمرو (ت 120هـ/738م) المعروف بـالعَرْجي، وهو ما يعني بقاء الانطباع الذي أنتجته تلك التصورات الذهنية المنحازة. إذ يقول المؤرخ البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في كتاب ‘أنساب الأشراف‘- إن "عُمَر بْن أَبِي ربيعة المخزومي لما نُعِي -وَكَانَ موته بالشام- بكت عَلَيْهِ مُوَلَّدة من مُوَلَّدات مَكَّة كانت لبعض بَنِي مَرْوَان وجعلت تَوَجَّع لَهُ وتفجْع عَلَيْهِ وَقَالَتْ: مَنْ لأباطح مَكَّة بعده؟!". ويضيف البُلاذري أنه "قيل لَهَا: إنه قَدْ حدث فتى من ولد عُثْمَان بْن عَفَّان يسكن بعَرْجِ (= اسمُ وادٍ) الطائف شاعر يذهب مذهبه، فَقَالَتْ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل لَهُ خلفًا، سرّيْتُم والله عني"، غير أن الإلمام بحقيقة العَرْجي يوقفنا على ما وُصف به من أنه كان "شجاعا مجاهدا"؛ وفق ما في ‘السير‘ للذهبي. ويفيدنا هذا المؤرخ بأن العرْجي "كَانَ فتيان قريش وغيرها يفدون إِلَيْهِ فيُفْضل عَلَيْهِم ويعطيهم، وغزا مَعَ مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك (ت 120هـ/739م) فِي آخر خلافة سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك (ت 99هـ/719م) فَقَالَ: يا معشر التجار من أراد من الغُزاة المُعْدِمين (= الفقراء) شَيْئًا فأعطوه إياه، فأعطوهم عَلَيْهِ عشرين ألف دِينَار (= اليوم 3.5 ملايين دولار أميركي تقريبا)"!! وفي خطوة تتضمن تثمينا عاليا لصنيع هذا الشاعر قام بها خليفة أموي يصفه العلماء عادة بأنه "خامس الخلفاء الراشدين"؛ نجد البلاذري يكمل روايته عن العرجي قائلا: "فلما استخلف عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز (ت 101هـ/720م) قَالَ: بَيْتُ المال (= خزانة الدولة) أولى بمال هَؤُلاءِ التجار من مال العَرْجي، فقضى ذَلِكَ من بَيْت المال"؛ فكانت هذه إحدى القصص الملهمة غير أن التداول العام كانت تشيع عبْره أحيانا جِيادُ الشعر أكثر من أمثال هذه من أخبار الشعراء وصالح أعمالهم. ويسمح لنا هذا السياق بالانتباه إلى ظاهرة تيار شارك مجتمعيا إما في الفتوح أو في ثورات منذ النعمان بن عدي، كما رأينا؛ ومرورا بالأعشى الهمذاني أَبي الْمُصْبِحِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ (ت 83هـ/702م) الذي يقول عنه الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘السير‘- إنه "خرج مع القراء مع ابن الأشعث (عبد الرحمن القائد العسكري الأموي ت 84هـ/704م)".
تأويل مجحِف
ولكن أثر هذه الظاهرة لدى الرأي العام لم يكن قويا في التعريف بأصحابها رغم إيجابيتها البارزة؛ فبدلا من أن تكون مدخلا لفهم حياة وفكر هذه الشخصيات الشاعرة كان للمعطى الآخر السلبي دوره المزاحم؛ إذ نجد الذهبي يصف -في ‘تاريخ الإسلام‘- الشاعر الأعشى الهمذاني بأنه "كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ". لكن مثل هذا المسح التاريخي يساعدنا في رصد جانب خفي من تاريخ مسار الأفكار، وواقع الفئات الثقافية والمجتمعية في الحضارة الإسلامية؛ فهو يوقفنا على ضرورة التفريق بين نمط الحياة الخاص بذوي العلم الديني وذلك المتصور للشعراء والأدباء -بعيدا عن مدى دلالته على من نقصدهم- والذي تَكرَّس بالحركة التوثيقية لتراجم أولئك الشعراء، وبتوصيفات من قبيل ما نجده لدى الشاعر ابن المعتز (ت 296هـ/909م) -في ‘طبقات الشعراء‘- مترجما لبعضهم: "وقد نسك وترك الشعر برهة". وإذا كانت بعض الأحكام التقويمية من الصعب إطلاقها لكونها تتطلب دقة وتأكدا؛ فإن الواقع أن حالة من عدم التأكد يمكن رصدها في التعامل المجتمعي مع بعض الشخصيات التي ارتبطت بالشعر كعبد الله بن محمد الملقب بالأحْوَص (ت 105هـ/723م)، ولنا مثال في هذه الحادثة التي أوردها الزبير بن بكّار (ت 256هـ/869م) في كتاب ‘جمهرة نسب قريش وأخبارها‘. وخلاصتها أن "الزبير بن خبيب (ت بعد 170هـ/787م) [حدّث] عن أبيه قال: خرجنا مع محمد بن عباد (ت نحو 124هـ/743م) إلى العمرة، فإنا ليقرب قديد، إذ لحقنا الأحْوَص الشاعر على جَمَل برَحْل، فقال: الحمد لله الذي وفقكم لي..، فأقبل عليه محمد بن عباد فقال: لكنا والله ما غبطنا أنفسنا بك، ولا نحب مسايرتك..، وكان محمد رجلاً جدياً يكره الباطل وأهله..، ولم نستطع أن نردَّ عليه..؛ فلما هبطنا من المُشَلَّل (= جبل بين مكة والمدينة) على خيمتيْ أمّ مَعْبد (عاتكة بنت خالد الخزاعية ت بعد 23هـ/645م)، سمعت الأحوص يُهَمْهِم بشيء، فتفهَّمته (= حاولت فهمه) -وهو قد بدرني ومحمد خلف خيمتيْ أم معبد- فإذا هو يقول: “خيمتي أم معبد”، “محمد”؛ كأنه يهيئ القوافي (= يريد نظم شعر)، فأمسكتُ راحلتي حتى لحقني محمد، فقلت: إني سمعت هذا يهيئ بك القوافي"، أي يريد أن يهجوك شعرا! تحمل هذه القصة في طياتها ما يشير إلى أن الأحْوَص ربما كان بصدد نظم مديح نبوي بمناسبة مروره بـ"خيمة أم معبد"، التي اشتهرت باستضافتها للنبي ﷺ وأبي بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م) حين توقفا عندها وهما في طريقهما مهاجريْن من مكة إلى المدينة المنورة، ومما يرجح تفكير الأحوص في شعر مديح نبوي ترديدُه لمفردات: "خيمة أم معبد" و"محمد"؛ فربما كان يعني بذلك النبي ﷺ لا محمد بن عباد. ورغم هذا الاحتمال المعتبَر؛ فإن الانطباع المُسبق ربما يكون هو الذي أملي على سامعيه نوع تعاملهم معه، الذي كاد يذهب بهم إلى قتله قبل أن يكمل هجاءه لهم وتشيع في الناس! مساءلة مزدوجة
وزيادة على الانطباع المُسبق؛ كانت يوميات رموز النشاط الأدبي محل انتباه من المجتمعات، إذ يروي أبو الفتح العباسي (ت 963هـ/1556م) -في كتاب ‘معاهد التنصيص‘- أنه "حدَّث رجل من [قبيلة] مُزَيْنَة قال: ضِفْتُ (= جئته ضيفاً) كُثيّراً (أبو صخر الخزاعي الشاعر ت 105هـ/723م) ليلة وبتّ عنده، ثم تحدثنا ونمنا، فلما طلع الفجر تضوَّر ثم قمتُ فتوضأت وصليت، وكثيّر نائم في لحافه؛ فلما طلع قَرْن الشمس تضوّر ثم قال: يا جارية اسْجِري (= سخّني) لي ماء". لا شك أن هذا التباطؤ في أداء الفرض الديني يسهم في الشحن ضد الشاعر كُثيّر داخل مجتمع يتشبث بقيم في مقدمتها شعائره الدينية؛ غير أن مقتبَس الاستشهاد هنا لا ينتهي حتى يكاد يكون صالحا للدفاع عن كثيّر من خلال البدء بالانشغال بأمر صَلاته، وما يُدري مستضيفه أن يكون معذورا بنومه لم يخالطه صحو أثناءه. لكن في ثنايا هذا السياق يبقى من اللافت أن هذا المجتمع الذي كانت تتشكل فيه مثل هذه الصور عن شخصيات شعرائه، كان يمنح ولاءه وعاطفته أيضا لهذه الشخصيات إلى أبعد حد. وذلك ما يوضحه ابن سلّام الجُمَحي (ت 232هـ/846م) -في كتاب ‘طبقات فحول الشعراء‘- بقوله: "مَاتَ كُثيِّر وَعِكْرِمَة (ت 107هـ/726م) مولى ابن عباس (ت 69هـ/689م) في يوم واحد؛ فاجتمعت قريش في جنازة كُثيّر ولم يوجد لعكرمة من يحمله"!! وورد عند النويري (ت 733هـ/1333م) -في كتاب ‘نهاية الأرب‘- أنه: "لمّا مات كُثيّر لم تتخلّف بالمدينة امرأة ولا رجل عن جنازته"!! وعطفا على ما رأيناه من أن ضعف التمسك بالأداء الشعائري -على الوجه المطلوب- كان سببا في مساءلة الشعراء؛ نجد من الطريف أيضا أن الانضباط في الممارسة الدينية كان أيضا يفتح باب المساءلة ذاتها وإن جاءت في لبوس الإعجاب! فالإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يخبرنا -في كتابه ‘المنتظم‘- أنه "كان ذو الرُّمَّة (غَيلان بن عقبة التميمي ت 117هـ/736م) حَسَن الصلاة، فقيل له: ما أحسنَ صلاتك! فقال: إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يتخشّع"!! وإذا كان الشاعر ذو الرُّمَّة قد ضارع بقوله هذا مقولات ذوي الرقائق من أئمة التربية؛ فإننا نجد امتدادا متواصلا لهذا الجانب من شخصته إلى لحظة وفاته، رغم أن قارئي شعره لا يتصورونه إلا هائما في الانشغال الذاتي بالأدب من منظور مفهوميْ: المَلْهاة أو المَأساة (الكوميديا والتراجيديا). ومن ذلك ما حدَّث به الأصمعي (ت 216هـ/831م) -وفقا لرواية السيوطي (ت 911هـ/1505) في ‘شرح شواهد المغني‘- من أن ذا الرمة: "كان آخر ما تكلم به قوله:
يا مُخْرِج الروح من نفسي إذا احتُضِرتْ ** وفارجَ الكَرْب زحزحني عن النار"!
وقد جاء في ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر نقلا عن أخ لذي الرمة حضر لحظة موته: "كنا بالبدو، فحضرت ذا الرمة الوفاةُ، فقال: احملوني إلى الماء يصلِّ عليّ أهلُ الإسلام"! أبعاد متعددة
وضمن السياحة في فضاءات كتب التراجم؛ نجد أن بعض آليات كسر الانطباع والصورة السائدة عن الشعراء كانت تتمثل في بيان أوجه من انشغالاتهم العملية والوظيفية للشعراء داخل المجتمع. ومن ذلك ما يحكيه الجاحظ (ت 255هـ/868م) -في ‘البيان والتبيين‘- عن الطِّرِمَّاح بن حكيم (ت 125هـ/743م)، فقد روى بسنده عمن قال: "رأيتُ الطرماح مُؤَدِّباً بالرَّيّ (= طهران اليوم) فلم أرَ أحدا آخَذَ لعقول الرجال ولا أجذب لأسماعهم إلى حديثه منه، ولقد رأيت الصبيان يخرجون من عنده وكأنهم قد جالسوا العلماء"! كما نقرأ عند ابن قُتَيْبَة الدِّينَوري -في ‘الشعر والشعراء‘- شهادة مشابهة عن الشاعر الكُمَيْت بن زيد الأسدي (ت 126هـ/744م)؛ ففي روايته أن علامة الأدب "خَلَف الأحمر (ت 180هـ/796م) قال: رأيت الكُمَيْت (ت 126هـ/744م) بالكوفة في مسجد يعلّم الصبيان"!! وفي أمر ذي صلة عامة بالملامح المغيَّبة في السيرة الذاتية لبعض الشعراء؛ تحسن هنا الإشارة إلى البعد الوظيفي المتعلق بتعيين أبي تمام على رأس إدارة "بريد الموصل، فأقام بها أكثر من سنة" حتى توفي ودُفن في مقابرها؛ طبقا للذهبي وابن خلكان. ولعل في تعيين أبي تمام في تلك الوظيفة الحساسة سياسيا وأمنيا ما يؤكد زيف ما اتهم به من كفر، وذلك لاتصال جهاز "ديوان البريد" قديما بمؤسسات أمن الدولة، ولما كان يؤتمن عليه من أسرار لا يُسمح عادة بالاطلاع عليها لمن لم تكتمل فيه عناصر الثقة. وداخل هذا البحر المتلاطم من التقييمات؛ تكشف المعلومات جزءا يتعلق بعناية الشعراء بحماية صورتهم الذهنية في أذهان الناس وخاصة الشخصيات المرجعية في المجتمع. فمما يرويه الإمام المحدِّث أبو بكر البزّار (ت 292هـ/905م) -في مُسْنده- أن الشاعر الراجز العَجّاج بن رُؤْبَة (ت 90هـ/710م) "سأل أبا هريرة (ت 59هـ/670م) -رضي الله عنه- فقال يا أبا هريرة ما تقول في هذا:
خيال سلمى وخيال تكتما ** طاف الخيالان فهاجا سقما (…).
فقال أبو هريرة رضي الله عنه: كنا ننشد هذا على عهد رسول الله ﷺ فلم يَعِبْهُ" على من ينشده إياه!! وانتقال السؤال هنا عن مدى حضور الوازع الديني لدى الشعراء إلى رصد تمثّلاته ودرجات مستوياته يوصلنا إلى ما أخبر به ابن عساكر في حديثه عن الشاعر القَطَامي (ت نحو 130هـ/747م)، حين قال "أرسل يزيد [بن معاوية] إلى كعب بن جُعَيْل (التغلبي ت نحو 55هـ/676م) فقال: اُهْجُ الأنصارَ! فقال إن لهم عندي يداً في الجاهلية..، فأمر القَطَامي فقال: أنا امرؤ مسلم أخاف الله واستحيي المسلمين، ولكني أدلك على من لا يخاف الله ولا يستحيي من الناس، قال: ومن هو؟ قال..: الأخطل (التغلبي ت 92هـ/710م)".
صورة مجتَزَأة
وتبقى مسألة غياب جزء من الصورة الكلية للشاعر من أبرز ما حكَم نظرات الناس إليه؛ فالشاعر أبو نُوَاس الحسن بن هانئ (ت 198هـ/813م) بلغت شدة الصورة الذهنية عنه ما أوضحه ابن المعتز (ت 296هـ/909م) -في كتاب ‘طبقات الشعراء‘- من كون الناس "قد لَهِجَتْ (= أولِعتْ) بأن تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نُوَاس"! ورغم ذلك يورد ابن كثير مقولة قاضي القضاة الشافعي المؤرخ ابن خلّكان في أبي نُوَاس: "وما أشدَّ رجاءَه بربّه حيث يقول:
تحمل ما استطعت من الخطايا ** فإنك لاقياً ربًّا غفورا"!!
ثم يضيف هذا الإمام أنهم وجدوا على فراش أبي نُوَاس عند وفاته هذه الأبيات:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كَثرةً ** فلقد علمتُ بأنّ عفوك أعظم
أدعوك ربّي إذ أمرتَ تضرُّعاً ** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحم؟
إن كان لا يرجوك إلاّ محسن ** فمن الذي يرجوه عبدٌ مجرم
ما لي إليك وسيلةٌ غير الرّجا ** وكريمُ عفوِك ثمّ إني مسلم
ويمكن اعتبار أبياته هذه فاتحة لشعر التوسل الديني الذي صار فيما من أبرز أغراض القصيدة العربية على مدى تاريخها. وبالجملة؛ فإن حالة التردد بشأن الحكم القيمي على أبي نُوَاس وشعره هي ما يلخصه ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- بقوله: "فقد ذكروا له أموراً كثيرة ومجوناً وأشعاراً منكرة..؛ فمن الناس من يفسِّقه، ومنهم من يرميه بالزندقة..؛ أما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة". ويقدّم لنا ابن أبي الإصبع (ت 654هـ/1256م) قدم -في كتابه ‘تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر‘- صورة تكاد تحافظ على أبي نُوَاس متحليا بشخصيتين متنافرتين؛ فقد أورد له هذين البيتين:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ** فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ** لله ذاك النزع لا للناس
ثم علق عليهما بقوله: إن "حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد"!! ولعل ما يعزز حضور الزهادة في شخصية أبي نُوَاس أواخر حياته ما نجده عنه من مرويات تحملها طلاب العلم وأدوها عنه بعد أن أصبحوا أئمة كبارا يقتدي بهم الناس في الفقه والحديث والأدب؛ فابن كثير يقول عنه في ترجمته: "حكى عنه جماعة منهم الشافعي (ت 204هـ/819م)، وأحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)، والجاحظ". ويكفينا أن الإمام أحمد بن حنبل لا يترك -وهو رمز التمسك بالسنة ومنابذة خصومها- ذكرياته في مجالس أبي نُوَاس وما كتبه عنه من "أمالي" شعره؛ فقد أورد ابن كثير حكاية عن الإمام اللغوي ثعْلب (ت 291هـ/904م) يقول فيه: "دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلا تهمُّه (= تشغله) نفسه، لا يحب أن يُكْثر عليه كأن النيران قد سُعِّرت بين يديه، فما زلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان (= قبيلة الإمام أحمد) حتى كلمني؛ فقال: في أي شيء نظرتَ من العلوم؟ فقلت: في اللغة والشعر، قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، [فسألتُ عنه فـ]ـقيل لي: هذا أبو نُوَاس، فتخلَّلتُ الناسَ ورائي، فلما جلست إليه أملى علينا:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوما فلا تقل:ْ ** خلوتُ، ولكنْ في الخَلاء رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ** ولا آثماً يخفَى عليه يغيبُ
لَهَوْنا عن الآثام حتى تتابعتْ ** ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ** ويأذن في توباتِنا فنتوب"!!
اعتبار مقدَّر
والواقع أن العلماء تجاوزوا في روايتهم عن أبي نُوَاس مستوى أماليه الشعرية إلى حمل ذخيرته من مرويات الحديث النبوي نفسه، مهما كانت درجة تقييمهم لصحة هذه المرويات؛ فهذا الحافظ البغدادي يترجم -في ‘تاريخ بغداد‘- للمحدِّث محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي (ت بعد 273هـ/886م)، قائلا إنه "رُوِي عنه عن أبي نُوَاس الشاعر حديثان مسندان"!! وقد جاء الخطيب بنصيْ هذين الحديثين، فكان أحدهما قوله: "حدثنا أبو نُوَاس الحسن بن هانئ، قال: حدثنا حمّاد بن سَلَمَة (ت 167هـ/784م)، عن يزيد الرَّقَاشي (ت 119هـ/738م)، عن أنس بن مالك (ت 93هـ/713م)، قال: قال رسول الله ﷺ: “لا يموتنَّ أحدُكم حتى يحسن ظنَّه بالله، فإن حسن الظن بالله ثَمَنُ الجنة”"!! ومن تأثير علاقة أبي نُوَاس بطلب الحديث النبوي -في شبابه- ما أدخله في الشعر العربي من مضامين اقتبسها من مناهج أهل الحديث على مستوى الإسناد والمتن؛ وهو ما نجد شواهده في كتب حفاظ الحديث كابن عساكر والسيوطي الذي احتفى بمرويات أبي نُوَاس الحديثية التي ضمن معانيها في شعره، بل وصدَّر بها مصنَّفَه الطريف في فكرته وغرضه وهو كتاب: ‘الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار‘. وقد قال السيوطي إن من فوائد كتابه هذا "الاستدلال به على شهرة الحديث في الصدر الأول وصحتها، وقد وقع ذلك لجماعة من المحدثين". وكان أول مثال جاء به هو نظم أبي نُوَاس لمضمون متن الحديث النبوي الشريف: “القلوب جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"؛ وذلك بقوله من أبيات”:
إن القلوب لأجنادٌ مجنَّدة ** لله في الأرض بالأهواء تعترفُ
فما تناكرَ منها فهْو مختلفٌ ** وما تعارف منها فهْو مؤتلفُ وكان من أبرز محطات الحياة الثقافية بروزُ تلك الإدانة الواسعة تحت مظلة تهمة الزندقة، والتي جرفت الساحة الثقافية بأدبائها شعراء وناثرين على حد سواء. وهنا يحكي لنا ابن قُتيبة أنه "أطلِق على كثير من أهل الخلاعة والمجون لفظ زنادقة، ومنهم الثلاثة الذين كانوا بالكوفة في العراق يقال لهم: الحمّادون". ثم يوضح لنا أكثر هوية هؤلاء "الحَمّادين"؛ فيقول: "وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمّادون: حماد عَجْرَد (ت 161هـ/779م)، وحماد الراوية (ت 155هـ/773م)، وحماد بن الزِّبْرِقان النحوي (ت نحو 161هـ/779م)؛ وكانوا يتنادمون ويتعاشرون، وكأنهم نفس واحدة، ويُرْمَوْن جميعا بالزندقة". ويستدعي لنا ابن كثير قول الجاحظ: "الزنادقة ثلاثة: ابن المقفع (ت 142هـ/759م)، ومطيع بن إياس (ت 169هـ/785م)، ويحيى بن زياد (ت 169هـ/785م) قالوا: ونسي الجاحظ نفسه، وهو رابعهم، وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا". اتهامات مرسَلة
وسواء كانت هذه التزكية في حق الجاحظ أو ابن المقفع؛ فهي جزء من الجانب الذي لم يحضر في الصورة التي انطبعت عمن شملتهم تلك التصنيفات الفضفاضة، ويمكن أن نتابع خيطها مطّردا في ذلك العهد الذي اشتدت فيه الحملة على "الزنادقة" بعد أن رفع الخليفة المهدي العباسي (ت 169هـ/785م) لواء محاربتهم بالحق وبالباطل. فها هو الشاعر الشهير بشار بن بُرْد (ت 168هـ/785م) الذي قال عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: "اتهم بالزندقة فضربه المهدي سبعين سوطا ليُقِرَّ [بها] فمات"! ثم نطالع ما يفيد بـ"تورُّع" لدى بشار يجعلنا -إن صحتْ حكايته- أمام بعد ديني مغيَّب في ملامح شخصيته الشائعة؛ حيث قال ابن المعتز في ‘طبقات الشعراء‘: "وحُكي أن المهدي لما قَتل بشاراً ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئاً يتعلق به، فبعث إلى كتبه فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعاً في أن يجد فيها شيئاً مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئاً، ومَرَّ بطُومَارٍ (= صحيفة) مختوم فظن أن فيه شيئاً، فأمر بنشره فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 142هـ/760م)، فذكرتُ قرابتهم من رسول الله ﷺ وآله، فمنعني ذلك من هجوهم ووهبتُ جُرْمَهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عِرْضاً ولم أقدح في دين، وهما:
دينارُ آل سليمان ودرهمُهم ** كالبابِـلـيَّـيْنِ شُدّاً بالعفاريتِ
لا يوجدان ولا يُرجَى لقاؤُهما ** كما سمعت بهاروتٍ وماروتِ"!! تتشابه النهايات وتتوالى لمعات القبس الذي يشعّ بالدفاع عن أصحابه من صاغة القصيد؛ وهنا نتوقف مع الشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس (ت 167هـ/783م) الذي نقرأ فيه قول الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- إنه "أبو الفضل البصري.. أحد الشعراء، اتهمه المهدي [بالزندقة]". وبإزاء ذلك التعريف الموجز؛ نطالع ما تنقله هذه الصورة في ‘طبقات الشعراء‘ لابن المعتز: "اجتمع قوم من أهل الأدب في مجلس فيهم صالح بن عبد القدوس يتناشدون الأشعار إلى أن حانت الصلاة، فقام القوم إلى ذلك، وقام صالح فتوضأ وأحسن ثم صلى أتم صلاة وأحسنها". ويستكمل الراوي الحكاية بأنه قال له بعضهم: "أتصلي هذه الصلاة، ومذهبُك ما تَذْكُر؟ فقال: إنما هو رسم البلد وعادة الجسد"! ورغم إمكانية نهوض هذا التصريح الأخير في مقابل أدائه الشعيرة؛ فإنه قد لا ينهض بالدرجة نفسها أمام الحرص على إتقانها. هذا زيادة على أن تفاصيل تهمة الطعن المتمثلة في الزندقة تشمل فيما يبدو بعض دلالات ومظاهر الأريحية الأدبية غير الصادرة عن الجانب العقدي، على غرار ما يحيل إليه البيتان اللذان أوردهما أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتاب ‘ثمار القلوب في المضاف والمنسوب‘:
تَزَنْدَقَ معلنا ليقول قوم ** من الأدباء زنديق ظريف
فقد بقي التزندق فيه وسماً ** ولا قيل الظريف ولا الخفيف! مرافعات دفاعية
ولا يفوت أن نلحظ -في هذا السياق- أن من أقوى ما تركته تجربة رموز الأدب والشعر تلك المرافعات التوضيحية المهمة لتبديد الصور الذهنية الشائعة عنهم. وفي مقدمتها ما جاء عند الإمام الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "كان آدم بن عبد العزيز (ت نحو 170هـ/786م).. في أيّام حداثته يشرب الخمر، ويفرط في المجون والخلاعة، ويقول الشّعر؛ فرُفع إلى [الخليفة] المهدي أنه زنديق، وأنشد شعراً له كان قاله في أيّام الحداثة على طريق المجون، فأخذه وضربه ثلاثمئة سوط يقرّره بالزّندقة، فقال: والله لا أقرّ على نفسي بباطل أبداً ولو قُطّعت عضواً عضواً، والله ما أشركتُ بالله طرفة عين قطّ؛ فقال المهديّ: فأين قولك؟:
اسْقِني واسْقِ خليلي ** في مدى اللّيل الطّويلِ
قهوةً صهباء صِرْفاً ** سُبِـيَتْ من نهر بِـيلِ
قُلْ لِمَنْ يَلْحاكَ (= يلومك) فيها ** من وضيع أو نبيلِ
أنتَ دَعْها وارْجُ أخرى ** مِنْ رحيقِ السَّلسبيلِ
قال: يا أمير المؤمنين، كنت من فتيان قريش أشرب النّبيذ، وأتمجّن مع الشّباب، واعتقادي مع ذلك الإيمان بالله وتوحيده، فلا تؤاخذني بما أسلفتُ من قولي، قال: فخلّى سبيله". ضمن الدفعات التي مثلت ذروة النشاط الشعري العربي نطالع اسم أبي تمام (ت 231هـ/845م) الذي يشكل معلمة رئيسة في مجال القصيدة. ومع أبي تمام أيضا يتجدد السؤال المتمثل في أنه: هل كان القرب المتجسد في الحياة داخل المجتمع يُعمي لدرجة صعوبة الحكم على الشخصيات، حتى إذا غبر الزمان تسنَّى جمع متفرقات الصورة لمحاولة القراءة التركيبية السليمة والاستخلاص الدقيق لجزئياته؟ وفي هذا السياق؛ يخبرنا مؤرخ الآداب أبو بكر الصولي (ت 335هـ/946م) -في كتابه ‘أخبار أبي تمام‘- أن هذا الشاعر المبدع "ادَّعَى قوم عليه الكفر بل حققوه"؛ لكنه سرعان ما يرد هذه التهمة بقوله: "فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجل شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به، حتى يلعنوه في المجالس؟". ثم يقرر الصولي -الذي وصفه الذهبيُّ في ‘السِّيَر‘ بأنه كان "مقبولَ القول حَسَنَ المعتقد"- بثقة تامة أن اتهام أبي تمام بالكفر هو أمرٌ "خلاف ما أمر الله عز وجل ورسوله عليه السلام به، ومخالف لما عليه جملة المسلمين؛ لأن الناس على ظاهرهم حتى يأتوا بما يوجب الكفر عليهم بفعل أو قول، فيرى ذلك أو يسمع منهم أو يقوم به بينة عليهم". ويختم بقوله إن من اتهموا أبا تمام بالكفر لم يأتوا بدليل على اتهامهم "فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي، وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب (= الجوائز) من علماء الملوك ورؤساء الكتاب، الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه"، ومع ذلك لم يروا فيما يكافئونه عليه من شعره ما يوجب تكفيره. احتفاءٌ مناصِر
وفي تقويم يزكِّي -على الأقل- السمت الشخصي لأبي تمام؛ نجد الذهبي يقول -في ‘السِّيَر‘-إنه "كان يوصف بطيب الأخلاق". كما تعزز سلامةَ معتقده تعزيتُه البليغة لأمير عباسي أصابه حزن شديد لوفاة أحد إخوته؛ وكان نصها كما في ‘وفيات الأعيان‘ لابن خلّكان: "أيها الأمير، التمسْ ثوابَ الله بحسن الجزاء والتسليم لأمر الله، واذكر مصيبتك في نفسك تُنْسِكَ مصيبتَك في غيرك؛ والسلام"!! وإذا كان بعض كبار المحدّثين أبدوْا احتفاءً -ولو على مستوى التدوين- بأحاديث نبوية رواها أبو نُوَاس في شبابه عن شيوخه من أئمة الحديث، حتى بنوا عليها نوعا من التصانيف استحدثوه كما فعل السيوطي؛ فإن نصيب أبي تمام من ذلك لم يكن بالأمر المتجاوز. ولذلك عندما ترجم الخطيب البغدادي -في تاريخ بغداد‘- لشيخه القاضي أبي العلاء الواسطي (ت 431هـ/1031م) روى عنه الحديث النبوي “إن من الشعر حكمة”، بنوع طريف من الأسانيد جميع رواته ينتمون إلى فئة الشعراء؛ وكان أبو تمام ضمن هؤلاء الشعراء. وقد صار هذا النمط من المرويات فرعا مستقلا من أنواع الأسانيد يُعرف بـ"الحديث المسلسل بالشعراء"، وأفرد له شمس الدين ابن عقيلة الحنفي المكيّ (ت 1150هـ/1737م) بابا ضمَّنه نماذجَ منه في كتابه ‘الفوائد الجليلة في مسلسلات ابن عقيلة‘. وذلك على غرار أنماط أخرى بينها "الحديث المسلسل بالفقهاء" و"الحديث المسلسل بالنحويين". لم يكن أبرز شعراء العربية أبو الطيب المتنبي (ت 354هـ/965م) بمنأى عن هذا الإشكال بل غاصت ركائبه بوحله جدا، حيث تشير المصادر إلى أنه سمي المتنبي "لأنه ادعى النبوة"؛ وفقا لابن خلكان. ولكننا نجد أيضا في الكتاب ذاته: "وقيل إنه قال أنا أول من تنبأ بالشعر" فلذلك سُمِّي المتنبي. واللافت أننا لا نجد اتفاقا بين الدارسين -قديما وحديثا- على مضمون تهمة بهذا الحجم ارتبطت بها التسمية العامة لهذا الشاعر في أيام حياته. توجيه ثنائي
وبالدخول إلى عوالم المتنبي للإمساك بخيط نرى أن شارح ديوانه علي بن أحمد النيسابوري الواحدي (ت 468هـ/1075م) علق على بعض ما يؤخذ على المتنبي في التعابير، بقوله عن أحد أبياته: "هذا من المدح البارد الذي يدل على رقة دين وسخافة عقل، وهو من شعر الصبا؛ إذ قال المتنبي هذه القصيدة في صِباه"! فنلاحظ أن الواحدي يبرّئه من هذا التهمة في شعره الذي قاله بعد مرحلة الصِّبا. ويبدو أن الواحدي لم يكتف بتبرئة المتنبي من "رقة الدين" حتى رأى له مشاركة من نوع ما في الجهاد؛ فقد نقل -في شرحه لديوانه- توجيه الإمام اللغوي ابن جِنِّيّ (ت 392هـ/1003م) لقول المتنبي:
بأيّ بلادٍ لم أجُرَّ ذوائبي؟ ** وأيّ مكانٍ لم تطأهُ ركائبي؟
فقال ابن جنيّ: "أيْ لم أدَعْ موضعا من الأرض إلا جلتُ فيه إما متغزِّلا وإما غازيًّا"!! ومفردة "الغزو" في العصور الإسلامية إنما كانت تستخدم غالبا لقتال الأعداء من غير المسلمين؛ فلعل ابن جنيّ احتسب لصديقه المتنبي حضوره الشعري المشهود في غزوات الأمير سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ/م) وغيره من أمراء الشام، الذين كانوا يتصدون لغارات الروم البيزنطيين على بلاد المسلمين. كما أننا على مستوى الأسئلة الخاصة بهذا الجانب والترجيحات ذات الصلة بها، نقرأ لدى أبي العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) -في ‘رسالة الغفران‘- دفاعا عن المتنبي، رغم ما يثار في وجهه هو الآخر من تهم التفسيق الزندقة؛ فيقول: "حُدِّثتُ أن أبا الطيب.. رُئِيَ يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى ركعتين وذلك في وقت العصر، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر وأن القصر له جائز". وإذا كان المحتوى الشعري شكَّل شرارة الانتقاد؛ فإن ابن خلكان يلاحظ سقوط عينة من نوع المحتوى الذي ينبض بما يشفع للمتنبئ ويدافع عنه في هذا الباب، ويتمثل ذلك في هذين البيتين:
وَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ رَأَيْتَنِي ** فَهَجَرْتَنِي وَنَزَلْتَ بِي مِنْ حَالِقِ
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لِأَنَّنِي ** أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي بِغَيْرِ الْخَالِقِ
فقد جاء في ‘البداية والنهاية‘ لابن كثير: "قال القاضي بن خلكان: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لَيْسَا فِي دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ (تاج الدين زيد بن الحسن الحميري الكِنْدي ت 613هـ/1216م) إِلَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ". نظرة أندلسية
وفي الغرب الإسلامي حيث فضاءات الأندلس التي حجزت في جغرافيا الأدب والثقافة مكانا عليًّا لا تنال منه عوادي القرون؛ نجد أحيانا نزعاً لفتيل التضارب وضمانا لصورة أتم إيضاحا؛ أسعفت بعض الحقب والأمصار أحيانا بأجزاء الصورة متكاملة بما ينفي الضبابية ويمكّن من الجمع. ومن ذلك ما جاء في حديث ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘ عن الأديب والشاعر الأندلسي ابن عبد ربه (ت 328هـ/940م) مُصنِّف ‘العِقد الفريد‘؛ فقد قال إنه "أقلع -في آخر عمره- عن صبوته وأخلص لله في توبته، فاعتبرَ (= تتبَّع) أشعارَه التي قالها في اللهو، وعمل على أعاريضها (= أوزانها) وقوافيها في الزهد وسماها المُمَحِّصَات". لكننا نلاحظ -في الآن نفسه- قُطر الأندلس لم يسلم هو أيضا من ظاهرة التردد بين الطعن والتزكية لمثل هذه الشخصيات؛ إذ نلاقي الأديبة البارعة ولّادة بنت المستكفي القرطبية (ت 484هـ/1091م) الموصوفة بأنها "مشهورة بالصيانة والعفاف"؛ وفقا لابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م). وفي مقابل تلك التزكية؛ نجد جَرْحاً متحفظا لها عند الإمام ابن بَشْكُوَال (ت 578هـ/1182م) الذي نعتها -في كتابه ‘الصِّلة‘- بأنها "لم يكن لها تصاون يطابق شرفها"؛ وهو ما يعمق حالة التقييميْن المتقابليْن التي يبدو أنها ظلت مطردة في تراجم الشعراء مشرقا ومغربا. ويوقفنا ابن بسّام الشنتريني الأندلسي (ت 542هـ/1147م) -في كتابه ‘الذخيرة‘- على عمق الجدل والتضاد في الحُكم وعدم إغفال الجوانب اللامعة بالتزكية؛ فقد قال مترجما للأديب علي بن حصن الإشبيلي (ت نحو 461هـ/1070م): "وإني لأعجب من قومٍ من أهل أُفِقِنا (= بلادنا) لم يعرفوه ولم ينصفوه، فأضربوا عن ذكره، وزهدوا في أعلاق شعره، ولعلهم حاسبوه بخزعبلاتٍ كان يعبث بها بين مجونه وسكره، وهيهات! فضله أشهر وإحسانه أكثر". ثم يورد الشنتريني من شعر ابن حصن ما يدل على اعتباره للقيم الدينية وكونها مرتكز سموّ شخصيات الممدوحين؛ ومن ذلك قوله يمدح أمير أمراء الأندلس المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1070م) فيصفه بالجمع بين "التقوى" الراسخة والقوة الباطشة:
جزيلُ التُّقَى، يمشي الهُوَيْنا تواضعاً ** ويهتزُّ إعظاماً له كلُّ خُنْبُجِ (= الرجل الضخم) وقد قارن الشنتريني المعنى الذي قصده ابن حصن هنا بمقولة عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- عن عمر الفاروق حين قالت في حق أحدهم كان يمزج عبادته بالتمسكن: "عُمَرُ والله كان أنْسَكُ (= أكثر عبادة) منه، ولكنه كان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع"!! رؤى تصحيحية
وفي هذا الخضم؛ انبثقت بعض الرؤى الهادفة لضبط مقود التعليق وإطلاق الأحكام في غمرة التناول العام لتراجم الشعراء، وإن اختلفت تلك الرؤى في طرحها. ففي الوقت الذي اتجه فيه بعضها اتجاها نقديا أدبيا صرفا، مثل مقالة الصولي في كتابه ‘أخبار أبي تمام‘: "وما ظننتُ أن كفراً ينقص من شعرٍ ولا أن إيماناً يزيد فيه"؛ كان هناك طرْح آخر دعته معياريته الفنية إلى سن الضوابط والمعايير. فكان من ذلك ما أوضحه الخطيب البغدادي -في ‘الكفاية في علم الرواية‘- بقوله: "باب كراهة الرواية عن أهل المجون والخلاعة"، ويقف بين المنزلتين رأي ثالث يتجلى فيما أشار إليه ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- حين قال: "وإني لأقول كما قال أبو منصور [الثعالبي]: لو لا قول إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) إن جِدّ الأدب جِدّ وهزله هزل؛ لصنتُ كتابي هذا عن مثل هذا المجون". ونلمس مثل هذا النظر في حديث الإمام ابن كثير عن المعري: "ومن الناس من يعتذر عنه ويقول إنه إنما كان يقول ذلك مُجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد كان باطنه مسلما". وعلى ضوء مصابيح هذا الرأي؛ تصفّح الثعالبي -في ‘يتيمة الدهر‘- أشعار وأخبار بعض الشعراء مستكملا تحديدات هذا الطرح بقوله: "وَلَكِن لِلْإِسْلَامِ حَقّه من الإجلال الَّذِي لَا يسوغ الْإِخْلَال بِهِ قولا وفعلا ونظما ونثرا". وعند حديث الثعالبي عن الشاعر أبي الحسن ابن سُكّرة الهاشمي البغدادي (ت 385هـ/995م) قال: "ابن سُكّرة الهاشمي… جارٍ في ميدان المجون والسُّخْف ما أراد"، رغم قصة طريفة أوردها عنه تفيد بأنه لم يكن يضيِّع صلاة الصبح! ولكن منهجية "الباب الدوّار" بين القدح والمدح توصلنا إلى ما قاله عنه مجد الدين الفيروزآبادي (ت 817هـ/1415م) في ‘القاموس المحيط‘: "ابن سكرة محمد بن عبد الله الشاعر الهاشمي الزاهد المعروف"؛ فأيهما إذن ابنُ سكرة؟ ذاك هو السؤال الذي تعد فلسفته المؤطرَ لفكرة هذه المعالجة التي قدمناها هنا.. ويبدو أن باب الإجابة عنه سيظل دوّارا!! المصدر : الجزيرة
"قَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ (الثقفي ت 180هـ/797م) عَنْ أَبِيهِ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى الْفَرَزْدَقِ (ت 110هـ/728م) فَتَحَرَّكَ فَإِذَا فِي رِجْلِهِ قَيْدٌ، فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟! فَقَالَ: حَلَفْتُ ألّا أَنْزِعَهُ حَتَّى أَحْفَظَ الْقُرْآنَ"!! لم يكن مضمون هذا النص -الذي أورده الإمام المحدِّث ابنُ كثير (ت 774هـ/1310م) في كتابه ‘البداية والنهاية‘- أبرزَ ما وصل إلينا في كتب التاريخ والتراجم عن الفرزدق ونظرائه من الشعراء. فالصورة العامة عن العديد من رموز الأدب -والشعر العربي خاصة وفي أزهى عصوره- تحيل كما ذكرنا إلى صور ذهنية منمَّطة عن شخصياتهم وحياتهم، ظلت خلاصة ملامحها تراوح بين أجواء اللهو والظرف ومجالس الطرب وتبادل التماحك الشعري، وارتياد حانات الخمر وتجمعات الخلاعة والمجون. لكننا إذا فتشنا في بطون سجلات التاريخ وصفحات التراجم فإننا سنلاقي أشهر رموز القصيدة -منذ العصر الأموي والعباسي- منشغلين باهتمامات تُجسِّدُ في العبادة أحوال العارفين، وتلتقي مع جهابذة العلم الإسلامي على مهاد سواء، لكنها ظلت غائبة عن التناول والتداول. اعلان ولا نقصد هنا شعراء عرفتهم الحضارة الإسلامية بهذا التوجه منذ أصبحوا شيئا مذكورا في الأوساط الأدبية؛ بل نعني أصحاب قصائد الهجاء التي عُرفت بالنقائض، وهم: الفرزدق (ت 110هـ/728م) وجرير (ت 110هـ/728م)، والشاعر الأكثر صلة بموضوع هذه المقالة عمر بن أبي ربيعة (ت 93هـ/711م) الذي استشهد غازيا في سبيل الله، ووريثه العَرْجي (ت 120هـ/738م) الذي كان ينفق أمواله على الجنود الفاتحين، وأبو نُوَاس (ت 198هـ/813م) الذي طلب الفقه والحديث على كبار علماء عصره، وروى عنه أعلام الأئمة وأسّس لشعر التوسل الديني. فإذا جئنا إلى الفرزدق الذي بدأنا به قائمة شعراء هذا الحديث، رغم أنه لم يكن الأكثر تعرضا للطعن والاتهام في دينه وسلوكه العام مقارنة بشعراء آخرين؛ فسنجد ما يحدثنا به ابن عساكر (ت 571هـ/1176م) -في ‘تاريخ دمشق‘- عنه حين كان بين جموع مشيعين لأحدهم في المقبرة. فقد جاء الإمام الزاهد "الْحَسَنُ (البصري ت 110هـ/728م) عَلَى بَغْلَتِهِ وَالْفَرَزْدَقُ عَلَى بَعِيرِهِ، فَسَارَا [متوازييْن]، فَقَالَ الْحَسَنُ لِلْفَرَزْدَقِ: مَاذَا يَقُولُ النَّاسُ؟ قَالَ: يَقُولُونَ: شَهِدَ هَذِهِ الْجِنَازَةَ الْيَوْمَ خَيْرُ النَّاسِ، يَعْنُونَكَ؛ وَشَرُّ النَّاسِ، يَعْنُونِي! فَقَالَ لَهُ [الحسن]: يَا أَبَا فِرَاسٍ لَسْتُ بِخَيْرِ النَّاسِ، وَلَسْتَ بِشَرِّ النَّاسِ! ثُمَّ قَالَ لَهُ الْحَسَنُ: مَا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، مُنْذُ ثَمَانِينَ سَنَةً"! وأنشد يقول:
أخافُ وراءَ القبر إن لم يُعافِني ** أشدّ من القبر التهابا وأضيقا
إذَا جَاءَنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ قَائِدٌ ** عَنِيفٌ وَسَوَّاقٌ يَسُوقُ الْفَرَزْدَقَا
لَقَدْ خَابَ مِنْ أَوْلَادِ آدَمَ مَنْ مَشَى ** إِلَى النَّارِ مَغْلُولَ الْقِلَادَةِ أَزْرَقَا
فَبَكَى الْحَسَنُ حَتَّى بَلَّ الثَّرَى، ثُمَّ الْتَزَمَ (= ضمّه) الْفَرَزْدَقَ وَقَالَ: لَقَدْ كُنْتَ مِنْ أَبْغَضِ النَّاسِ إِلَيَّ، وَإِنَّكَ الْيَوْمَ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ"! لكن هذا التعديل الذي دخل على وجهة نظر الحسن حول الفرزدق ليس هو الذي سارت به الركبان عبر التاريخ، وإنما بقي المعطى الآخر السلبي عن الفرزدق هو الأكثر حضورا في الخلفية. ومن هنا نجد ابن قُتَيْبَة الدِّينَوري (ت 276هـ/889م) يصفه -في كتابه ‘الشعر والشعراء‘- قائلا: "وكان الفرزدقُ فاسِقاً". كما نطالع عند ابن بسام الشَّنتريني (ت 542هـ/1147م) -في ‘الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة‘- قوله: "وممن سلك أيضاً هذه السبيل من الشعراء المجاهرين بالمجون الناطقين بألسن الشياطين: الفرزدقُ"! إن أول من يستحضر الناسُ اسمَه مع الفرزدق عند استحضار الصور السلبية النمطية عن الشعراء؛ هو منافسه جرير بن عطية الذي عدّه -تحديدا في مجال المضامين- أبو العباس القَلْقَشَنْدي (ت 821هـ/1418م) -في ‘صبح الأعشى‘- في قائمة "من كان فردا في زمانه بحيث يُضرب به المثل" في الهجاء الخارج عن مقتضى تعاليم الفضائل والأخلاق الإسلامية. لكن الإمام المحدّث الذهبي (ت 748هـ/1348م) ترجم لجرير في ‘سير أعلام النبلاء‘؛ فنقل "عن عثمان التيمي (ت بعد 110هـ/728م) قال: رأيتُ جريرا وما تُضَمّ شفتاه من التسبيح! وقيل: كان جرير عفيفا مُنِيبًا (= كثير التوبة)"؛ فلعل هذا الوصف من هذا الإمام يَرْجح بصورة جرير في مقابل أي انطباع سلبي شاع عنه. تفهُّم متحفظ
تأثثت القصيدة العربية في العصور الإسلامية بالعديد من المضامين التي لم تكن تخلو منها في عصر الجاهلية، ولكن المضيّ بلا هوادة في توظيفها كان هو الخيط الفاصل ما بين انطباع الشعراء بصبغة معينة أو سلامتهم منها، وهنا كان مكمن التحدي! ويصور لنا مشكلات الاحتكاك ما بين النهجين ما أورده ابن كثير -في تفسيره- عند الآية التي وصفت الشعراء بأنهم ﴿يقولون ما لا يفعلون﴾، (سورة الشعراء/ الآية: 226)؛ فقد ذكر "أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (ت 23هـ/644م) -رضي الله عنه- استعمل (= جعله واليا) النعمان بن عَدِي بن نضلة (العَدَوي ت نحو 30هـ/652م) على مَيْسَان -من أرض البصرة- وكان يقول الشعر، فقال:
فإن كنتَ ندماني فبالأكبر اسقني ** ولا تسقني بالأصغر المُتَثَلِّم
لعل أمير المؤمنين يَسُوؤُه ** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدِّم!! فلما بلغ ذلك أميرَ المؤمنين قال: إي والله، إنه ليسوؤني ذلك! ومَنْ لقيه فليُخْبره أني قد عزلتُه، وكتب إليه: “﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾، (سورة الشعراء/ الآية: 1-3)؛ أما بعد فقد بلغني قولك:
لعل أمير المؤمنين يَسُوؤُه ** تَنادُمُنا بالجَوْسَق المُتَهَدِّم!!
وأيْمُ اللهِ، إنه ليسوؤني! وقد عزلتك”. فلما قدم على عمر بكّته (= وبَّخَه) بهذا الشعر، فقال: والله -يا أمير المؤمنين- ما شربتها قط، وما ذاك الشعر إلا شيء طفح على لساني؛ فقال عمر: أظن ذلك، ولكن والله لا تعمل لي على عمل أبدا، وقد قلتَ ما قلتَ"!! ففي الوقت الذي كان فيه الفاروق متفهما لمقتضيات النهج الشعري عند الصحابي ابن عدي، فإنه قرر الحزم في الأخذ بالإجراءات الضبطية لصيانة سمعة منصب المسؤولية العامة، رغم صلة النسب الوثيقة التي تربطه بابن عمه هذا، فكلاهما ينتمي إلى بطن قرشي واحد. وكانت تلك السابقة تأسيسا لحالة من التحفظ -المشفوع في كثير من صوره بعدم اليقين- فرضت نفسها عند تقويم شؤون الشعراء والأدباء، وألقت بظلالها على الحياة الثقافية منذ تجربة أول حاكم بعد خلفاء الصحابة، وهو يزيد بن معاوية (ت 64هـ/683م)؛ فقد قال الذهبي -في ‘السِّيَر‘- عن يزيد هذا: "له شعر جيد، وكان.. يتناول المسكر ويفعل المنكر". أما ابن عمه الوليد بن يزيد بن عبد الملك (ت 126هـ/744م) الذي وَلِيَ بعدَه الخلافة بنحو خمسين سنة؛ فقد قال عنه أبو الفرَج الأصفهاني (ت 356هـ/967م) في كتابه ‘الأغاني‘: له في "الخمر وصفتها أشعار كثيرة قد أخذها الشعراء فأدخلوها". وذلك أنه إذا كان الناس على دين ملوكهم فإن تيارا أدبيا عريضا من البداية وقع تحت الاتهام بنهج ذيْنِكَ الحاكمين، رغم وجود دلائل في التراجم ظلت تَشي بما لا يندرج ضمن ذلك التصنيف النمطي.
انطباعات نمطية
وإذا كان هذا من ناحيةٍ يمثل إقصاءً معنويا لفئة كثيرة من الشعراء عن مرتكز المنظومة الأخلاقية التي تحكم مجتمع الحضارة الإسلامية؛ فإن المفارقة أن هؤلاء بقوا حاضرين فيها -بل وفي أكثر المواقع قداسة فيها- من خلال الاستشهاد بأشعارهم في تفسير القرآن الكريم والأحاديث النبوية. فها هو الإمام اللغوي عبد القادر البغدادي (ت 1093هـ/1682م) يتحدث عن طبقتهم -في ‘خزانة الأدب‘- بقوله: "يقال لهم [الشعراء] الإسلاميون، وهم الذين كانوا في صدر الإسلام كجرير والفرزدق". وأضاف أن "الصحيح صحة الاستشهاد بكلامها"، أي هذه الطبقة من الشعراء. وفي هذا الصدد أيضا؛ لا يخفى دور ذلك التخطيط الهندسي للمواضيع والاهتمامات الثقافية لطوائف المجتمع، والرؤية التي تضمّنها بشأن الشعر وصاغها الأصمعي (ت 216هـ/831م) بقوله إن "الشعر نَكِدٌ: يَقْوَى في الشر ويسْهُل، فإذا دخل في الخير ضعُف ولَانَ"! طبقا لرواية الإمام المحدِّث ابن عبد البَرّ القرطبي (ت 463هـ/1071م) في كتابه ‘الاستيعاب في معرفة الأصحاب‘. هنا وفي هذه الأجواء؛ نطالع الشاعر القرشي عمر بن أبي ربيعة المخزومي (ت 93هـ/711م) الذي يعدّ أحد أبرز النماذج الشهيرة واللصيقة بفئة الشعراء ذوي الصورة المنمَّطة سلبا، فهو حسب المؤرخ ابن خلّكان (ت 681هـ/1282م) -في ‘وفيات الأعيان‘- يقال إنه "كان الحسن البصري.. إذا جرى ذكْر ولادة عمر بن أبي ربيعة في الليلة التي قتل فيها عمر.. يقول: أيّ حقٍّ رُفِعَ وأيّ باطل وُضِع"! لكن في المقابل تُمدّنا أيضا كتب التراجم بما يساهم في إعادة تشكيل الانطباع عن هذا الشاعر الغَزِل؛ إذ نقرأ في ‘تاريخ دمشق‘ للحافظ ابن عساكر: "عن الشَّعْبي (ت 100هـ/719م) قال: قال عبد الله بن عمر (ت 73هـ/693م): فاز عمر بن أبي ربيعة بالدنيا والآخرة، غزا البحر فاحترقت سفينته فاحترق فيها"!! ويحكي الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘تاريخ الإسلام‘- أنه "رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ غَزَا الْبَحْرَ، فَاحْتَرَقَتْ سَفِينَتُهُ وَاحْتَرَقَ [هو] رَحِمَهُ الله"، ويوضح لنا -في ‘سير أعلام النبلاء‘- من كان وراء هذا الإحراق فيقول: "فَأَحْرَقَ العَدُوُّ سَفِيْنَتَهُ". ومن اللافت أن الذهبي لم يورد أي سبب آخر لوفاته!! والظاهر أن مشاركة هذا الشاعر المخزومي في الجهاد -حيث كانت خاتمته الحسنة- إنما كانت نتيجة طبيعية لتحوُّل حدث في نقطة ما من حياته، وقاده إلى الإعراض عن قرْض الشعر؛ وهو ما يفيدنا به الإمام ابن القيم (ت 751هـ/1350م) -في كتابه ‘روضة المحبين ونزهة المشتاقين‘- بقوله إن "عمر بن أبي ربيعة.. ترك الشعر ورَغِبَ عنه، ونذر على نفسه بكل بيت يقوله هَدْيَ بُدْنَةٍ (= ناقة تنحر للفقراء بمكة)"!!
تثمين لافت
وتُصوّر لنا الحكايةُ التاريخيةُ كيف انتقلت جذوة هذا النمط من الاهتمام الشعري -الذي جعل عمر بن أبي ربيعة يتعرض للانتقاد- بالوراثة الأدبية إلى شاعر آخر هو عبد الله بن عمرو (ت 120هـ/738م) المعروف بـالعَرْجي، وهو ما يعني بقاء الانطباع الذي أنتجته تلك التصورات الذهنية المنحازة. إذ يقول المؤرخ البُلاذري (ت 279هـ/892م) -في كتاب ‘أنساب الأشراف‘- إن "عُمَر بْن أَبِي ربيعة المخزومي لما نُعِي -وَكَانَ موته بالشام- بكت عَلَيْهِ مُوَلَّدة من مُوَلَّدات مَكَّة كانت لبعض بَنِي مَرْوَان وجعلت تَوَجَّع لَهُ وتفجْع عَلَيْهِ وَقَالَتْ: مَنْ لأباطح مَكَّة بعده؟!". ويضيف البُلاذري أنه "قيل لَهَا: إنه قَدْ حدث فتى من ولد عُثْمَان بْن عَفَّان يسكن بعَرْجِ (= اسمُ وادٍ) الطائف شاعر يذهب مذهبه، فَقَالَتْ: الحمد لِلَّهِ الَّذِي جعل لَهُ خلفًا، سرّيْتُم والله عني"، غير أن الإلمام بحقيقة العَرْجي يوقفنا على ما وُصف به من أنه كان "شجاعا مجاهدا"؛ وفق ما في ‘السير‘ للذهبي. ويفيدنا هذا المؤرخ بأن العرْجي "كَانَ فتيان قريش وغيرها يفدون إِلَيْهِ فيُفْضل عَلَيْهِم ويعطيهم، وغزا مَعَ مسلمة بْن عَبْد الْمَلِك (ت 120هـ/739م) فِي آخر خلافة سُلَيْمَان بْن عَبْد الْمَلِك (ت 99هـ/719م) فَقَالَ: يا معشر التجار من أراد من الغُزاة المُعْدِمين (= الفقراء) شَيْئًا فأعطوه إياه، فأعطوهم عَلَيْهِ عشرين ألف دِينَار (= اليوم 3.5 ملايين دولار أميركي تقريبا)"!! وفي خطوة تتضمن تثمينا عاليا لصنيع هذا الشاعر قام بها خليفة أموي يصفه العلماء عادة بأنه "خامس الخلفاء الراشدين"؛ نجد البلاذري يكمل روايته عن العرجي قائلا: "فلما استخلف عُمَر بْن عَبْد الْعَزِيز (ت 101هـ/720م) قَالَ: بَيْتُ المال (= خزانة الدولة) أولى بمال هَؤُلاءِ التجار من مال العَرْجي، فقضى ذَلِكَ من بَيْت المال"؛ فكانت هذه إحدى القصص الملهمة غير أن التداول العام كانت تشيع عبْره أحيانا جِيادُ الشعر أكثر من أمثال هذه من أخبار الشعراء وصالح أعمالهم. ويسمح لنا هذا السياق بالانتباه إلى ظاهرة تيار شارك مجتمعيا إما في الفتوح أو في ثورات منذ النعمان بن عدي، كما رأينا؛ ومرورا بالأعشى الهمذاني أَبي الْمُصْبِحِ عَبْد الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ (ت 83هـ/702م) الذي يقول عنه الذهبي (ت 748هـ/1348م) -في ‘السير‘- إنه "خرج مع القراء مع ابن الأشعث (عبد الرحمن القائد العسكري الأموي ت 84هـ/704م)".
تأويل مجحِف
ولكن أثر هذه الظاهرة لدى الرأي العام لم يكن قويا في التعريف بأصحابها رغم إيجابيتها البارزة؛ فبدلا من أن تكون مدخلا لفهم حياة وفكر هذه الشخصيات الشاعرة كان للمعطى الآخر السلبي دوره المزاحم؛ إذ نجد الذهبي يصف -في ‘تاريخ الإسلام‘- الشاعر الأعشى الهمذاني بأنه "كَانَ لَهُ فَضْلٌ وَعِبَادَةٌ، ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقْبَلَ عَلَى الشِّعْرِ". لكن مثل هذا المسح التاريخي يساعدنا في رصد جانب خفي من تاريخ مسار الأفكار، وواقع الفئات الثقافية والمجتمعية في الحضارة الإسلامية؛ فهو يوقفنا على ضرورة التفريق بين نمط الحياة الخاص بذوي العلم الديني وذلك المتصور للشعراء والأدباء -بعيدا عن مدى دلالته على من نقصدهم- والذي تَكرَّس بالحركة التوثيقية لتراجم أولئك الشعراء، وبتوصيفات من قبيل ما نجده لدى الشاعر ابن المعتز (ت 296هـ/909م) -في ‘طبقات الشعراء‘- مترجما لبعضهم: "وقد نسك وترك الشعر برهة". وإذا كانت بعض الأحكام التقويمية من الصعب إطلاقها لكونها تتطلب دقة وتأكدا؛ فإن الواقع أن حالة من عدم التأكد يمكن رصدها في التعامل المجتمعي مع بعض الشخصيات التي ارتبطت بالشعر كعبد الله بن محمد الملقب بالأحْوَص (ت 105هـ/723م)، ولنا مثال في هذه الحادثة التي أوردها الزبير بن بكّار (ت 256هـ/869م) في كتاب ‘جمهرة نسب قريش وأخبارها‘. وخلاصتها أن "الزبير بن خبيب (ت بعد 170هـ/787م) [حدّث] عن أبيه قال: خرجنا مع محمد بن عباد (ت نحو 124هـ/743م) إلى العمرة، فإنا ليقرب قديد، إذ لحقنا الأحْوَص الشاعر على جَمَل برَحْل، فقال: الحمد لله الذي وفقكم لي..، فأقبل عليه محمد بن عباد فقال: لكنا والله ما غبطنا أنفسنا بك، ولا نحب مسايرتك..، وكان محمد رجلاً جدياً يكره الباطل وأهله..، ولم نستطع أن نردَّ عليه..؛ فلما هبطنا من المُشَلَّل (= جبل بين مكة والمدينة) على خيمتيْ أمّ مَعْبد (عاتكة بنت خالد الخزاعية ت بعد 23هـ/645م)، سمعت الأحوص يُهَمْهِم بشيء، فتفهَّمته (= حاولت فهمه) -وهو قد بدرني ومحمد خلف خيمتيْ أم معبد- فإذا هو يقول: “خيمتي أم معبد”، “محمد”؛ كأنه يهيئ القوافي (= يريد نظم شعر)، فأمسكتُ راحلتي حتى لحقني محمد، فقلت: إني سمعت هذا يهيئ بك القوافي"، أي يريد أن يهجوك شعرا! تحمل هذه القصة في طياتها ما يشير إلى أن الأحْوَص ربما كان بصدد نظم مديح نبوي بمناسبة مروره بـ"خيمة أم معبد"، التي اشتهرت باستضافتها للنبي ﷺ وأبي بكر الصدّيق (ت 13هـ/635م) حين توقفا عندها وهما في طريقهما مهاجريْن من مكة إلى المدينة المنورة، ومما يرجح تفكير الأحوص في شعر مديح نبوي ترديدُه لمفردات: "خيمة أم معبد" و"محمد"؛ فربما كان يعني بذلك النبي ﷺ لا محمد بن عباد. ورغم هذا الاحتمال المعتبَر؛ فإن الانطباع المُسبق ربما يكون هو الذي أملي على سامعيه نوع تعاملهم معه، الذي كاد يذهب بهم إلى قتله قبل أن يكمل هجاءه لهم وتشيع في الناس! مساءلة مزدوجة
وزيادة على الانطباع المُسبق؛ كانت يوميات رموز النشاط الأدبي محل انتباه من المجتمعات، إذ يروي أبو الفتح العباسي (ت 963هـ/1556م) -في كتاب ‘معاهد التنصيص‘- أنه "حدَّث رجل من [قبيلة] مُزَيْنَة قال: ضِفْتُ (= جئته ضيفاً) كُثيّراً (أبو صخر الخزاعي الشاعر ت 105هـ/723م) ليلة وبتّ عنده، ثم تحدثنا ونمنا، فلما طلع الفجر تضوَّر ثم قمتُ فتوضأت وصليت، وكثيّر نائم في لحافه؛ فلما طلع قَرْن الشمس تضوّر ثم قال: يا جارية اسْجِري (= سخّني) لي ماء". لا شك أن هذا التباطؤ في أداء الفرض الديني يسهم في الشحن ضد الشاعر كُثيّر داخل مجتمع يتشبث بقيم في مقدمتها شعائره الدينية؛ غير أن مقتبَس الاستشهاد هنا لا ينتهي حتى يكاد يكون صالحا للدفاع عن كثيّر من خلال البدء بالانشغال بأمر صَلاته، وما يُدري مستضيفه أن يكون معذورا بنومه لم يخالطه صحو أثناءه. لكن في ثنايا هذا السياق يبقى من اللافت أن هذا المجتمع الذي كانت تتشكل فيه مثل هذه الصور عن شخصيات شعرائه، كان يمنح ولاءه وعاطفته أيضا لهذه الشخصيات إلى أبعد حد. وذلك ما يوضحه ابن سلّام الجُمَحي (ت 232هـ/846م) -في كتاب ‘طبقات فحول الشعراء‘- بقوله: "مَاتَ كُثيِّر وَعِكْرِمَة (ت 107هـ/726م) مولى ابن عباس (ت 69هـ/689م) في يوم واحد؛ فاجتمعت قريش في جنازة كُثيّر ولم يوجد لعكرمة من يحمله"!! وورد عند النويري (ت 733هـ/1333م) -في كتاب ‘نهاية الأرب‘- أنه: "لمّا مات كُثيّر لم تتخلّف بالمدينة امرأة ولا رجل عن جنازته"!! وعطفا على ما رأيناه من أن ضعف التمسك بالأداء الشعائري -على الوجه المطلوب- كان سببا في مساءلة الشعراء؛ نجد من الطريف أيضا أن الانضباط في الممارسة الدينية كان أيضا يفتح باب المساءلة ذاتها وإن جاءت في لبوس الإعجاب! فالإمام ابن الجوزي (ت 597هـ/1200م) يخبرنا -في كتابه ‘المنتظم‘- أنه "كان ذو الرُّمَّة (غَيلان بن عقبة التميمي ت 117هـ/736م) حَسَن الصلاة، فقيل له: ما أحسنَ صلاتك! فقال: إن العبد إذا قام بين يدي الله لحقيق أن يتخشّع"!! وإذا كان الشاعر ذو الرُّمَّة قد ضارع بقوله هذا مقولات ذوي الرقائق من أئمة التربية؛ فإننا نجد امتدادا متواصلا لهذا الجانب من شخصته إلى لحظة وفاته، رغم أن قارئي شعره لا يتصورونه إلا هائما في الانشغال الذاتي بالأدب من منظور مفهوميْ: المَلْهاة أو المَأساة (الكوميديا والتراجيديا). ومن ذلك ما حدَّث به الأصمعي (ت 216هـ/831م) -وفقا لرواية السيوطي (ت 911هـ/1505) في ‘شرح شواهد المغني‘- من أن ذا الرمة: "كان آخر ما تكلم به قوله:
يا مُخْرِج الروح من نفسي إذا احتُضِرتْ ** وفارجَ الكَرْب زحزحني عن النار"!
وقد جاء في ‘تاريخ دمشق‘ لابن عساكر نقلا عن أخ لذي الرمة حضر لحظة موته: "كنا بالبدو، فحضرت ذا الرمة الوفاةُ، فقال: احملوني إلى الماء يصلِّ عليّ أهلُ الإسلام"! أبعاد متعددة
وضمن السياحة في فضاءات كتب التراجم؛ نجد أن بعض آليات كسر الانطباع والصورة السائدة عن الشعراء كانت تتمثل في بيان أوجه من انشغالاتهم العملية والوظيفية للشعراء داخل المجتمع. ومن ذلك ما يحكيه الجاحظ (ت 255هـ/868م) -في ‘البيان والتبيين‘- عن الطِّرِمَّاح بن حكيم (ت 125هـ/743م)، فقد روى بسنده عمن قال: "رأيتُ الطرماح مُؤَدِّباً بالرَّيّ (= طهران اليوم) فلم أرَ أحدا آخَذَ لعقول الرجال ولا أجذب لأسماعهم إلى حديثه منه، ولقد رأيت الصبيان يخرجون من عنده وكأنهم قد جالسوا العلماء"! كما نقرأ عند ابن قُتَيْبَة الدِّينَوري -في ‘الشعر والشعراء‘- شهادة مشابهة عن الشاعر الكُمَيْت بن زيد الأسدي (ت 126هـ/744م)؛ ففي روايته أن علامة الأدب "خَلَف الأحمر (ت 180هـ/796م) قال: رأيت الكُمَيْت (ت 126هـ/744م) بالكوفة في مسجد يعلّم الصبيان"!! وفي أمر ذي صلة عامة بالملامح المغيَّبة في السيرة الذاتية لبعض الشعراء؛ تحسن هنا الإشارة إلى البعد الوظيفي المتعلق بتعيين أبي تمام على رأس إدارة "بريد الموصل، فأقام بها أكثر من سنة" حتى توفي ودُفن في مقابرها؛ طبقا للذهبي وابن خلكان. ولعل في تعيين أبي تمام في تلك الوظيفة الحساسة سياسيا وأمنيا ما يؤكد زيف ما اتهم به من كفر، وذلك لاتصال جهاز "ديوان البريد" قديما بمؤسسات أمن الدولة، ولما كان يؤتمن عليه من أسرار لا يُسمح عادة بالاطلاع عليها لمن لم تكتمل فيه عناصر الثقة. وداخل هذا البحر المتلاطم من التقييمات؛ تكشف المعلومات جزءا يتعلق بعناية الشعراء بحماية صورتهم الذهنية في أذهان الناس وخاصة الشخصيات المرجعية في المجتمع. فمما يرويه الإمام المحدِّث أبو بكر البزّار (ت 292هـ/905م) -في مُسْنده- أن الشاعر الراجز العَجّاج بن رُؤْبَة (ت 90هـ/710م) "سأل أبا هريرة (ت 59هـ/670م) -رضي الله عنه- فقال يا أبا هريرة ما تقول في هذا:
خيال سلمى وخيال تكتما ** طاف الخيالان فهاجا سقما (…).
فقال أبو هريرة رضي الله عنه: كنا ننشد هذا على عهد رسول الله ﷺ فلم يَعِبْهُ" على من ينشده إياه!! وانتقال السؤال هنا عن مدى حضور الوازع الديني لدى الشعراء إلى رصد تمثّلاته ودرجات مستوياته يوصلنا إلى ما أخبر به ابن عساكر في حديثه عن الشاعر القَطَامي (ت نحو 130هـ/747م)، حين قال "أرسل يزيد [بن معاوية] إلى كعب بن جُعَيْل (التغلبي ت نحو 55هـ/676م) فقال: اُهْجُ الأنصارَ! فقال إن لهم عندي يداً في الجاهلية..، فأمر القَطَامي فقال: أنا امرؤ مسلم أخاف الله واستحيي المسلمين، ولكني أدلك على من لا يخاف الله ولا يستحيي من الناس، قال: ومن هو؟ قال..: الأخطل (التغلبي ت 92هـ/710م)".
صورة مجتَزَأة
وتبقى مسألة غياب جزء من الصورة الكلية للشاعر من أبرز ما حكَم نظرات الناس إليه؛ فالشاعر أبو نُوَاس الحسن بن هانئ (ت 198هـ/813م) بلغت شدة الصورة الذهنية عنه ما أوضحه ابن المعتز (ت 296هـ/909م) -في كتاب ‘طبقات الشعراء‘- من كون الناس "قد لَهِجَتْ (= أولِعتْ) بأن تنسب كل شعر في المجون إلى أبي نُوَاس"! ورغم ذلك يورد ابن كثير مقولة قاضي القضاة الشافعي المؤرخ ابن خلّكان في أبي نُوَاس: "وما أشدَّ رجاءَه بربّه حيث يقول:
تحمل ما استطعت من الخطايا ** فإنك لاقياً ربًّا غفورا"!!
ثم يضيف هذا الإمام أنهم وجدوا على فراش أبي نُوَاس عند وفاته هذه الأبيات:
يا ربّ إن عظمت ذنوبي كَثرةً ** فلقد علمتُ بأنّ عفوك أعظم
أدعوك ربّي إذ أمرتَ تضرُّعاً ** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحم؟
إن كان لا يرجوك إلاّ محسن ** فمن الذي يرجوه عبدٌ مجرم
ما لي إليك وسيلةٌ غير الرّجا ** وكريمُ عفوِك ثمّ إني مسلم
ويمكن اعتبار أبياته هذه فاتحة لشعر التوسل الديني الذي صار فيما من أبرز أغراض القصيدة العربية على مدى تاريخها. وبالجملة؛ فإن حالة التردد بشأن الحكم القيمي على أبي نُوَاس وشعره هي ما يلخصه ابن كثير -في ‘البداية والنهاية‘- بقوله: "فقد ذكروا له أموراً كثيرة ومجوناً وأشعاراً منكرة..؛ فمن الناس من يفسِّقه، ومنهم من يرميه بالزندقة..؛ أما الزندقة فبعيدة عنه، ولكن كان فيه مجون وخلاعة كثيرة". ويقدّم لنا ابن أبي الإصبع (ت 654هـ/1256م) قدم -في كتابه ‘تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر‘- صورة تكاد تحافظ على أبي نُوَاس متحليا بشخصيتين متنافرتين؛ فقد أورد له هذين البيتين:
وإذا جلست إلى المدام وشربها ** فاجعل حديثك كله في الكاس
وإذا نزعت عن الغواية فليكن ** لله ذاك النزع لا للناس
ثم علق عليهما بقوله: إن "حسن النسق لاءم بين فنين متضادين في هذين البيتين: وهما المجون والزهد حتى صارا كأنهما فن واحد"!! ولعل ما يعزز حضور الزهادة في شخصية أبي نُوَاس أواخر حياته ما نجده عنه من مرويات تحملها طلاب العلم وأدوها عنه بعد أن أصبحوا أئمة كبارا يقتدي بهم الناس في الفقه والحديث والأدب؛ فابن كثير يقول عنه في ترجمته: "حكى عنه جماعة منهم الشافعي (ت 204هـ/819م)، وأحمد بن حنبل (ت 241هـ/855م)، والجاحظ". ويكفينا أن الإمام أحمد بن حنبل لا يترك -وهو رمز التمسك بالسنة ومنابذة خصومها- ذكرياته في مجالس أبي نُوَاس وما كتبه عنه من "أمالي" شعره؛ فقد أورد ابن كثير حكاية عن الإمام اللغوي ثعْلب (ت 291هـ/904م) يقول فيه: "دخلت على أحمد بن حنبل فرأيت رجلا تهمُّه (= تشغله) نفسه، لا يحب أن يُكْثر عليه كأن النيران قد سُعِّرت بين يديه، فما زلت أترفق به وتوسلت إليه أني من موالي شيبان (= قبيلة الإمام أحمد) حتى كلمني؛ فقال: في أي شيء نظرتَ من العلوم؟ فقلت: في اللغة والشعر، قال: رأيت بالبصرة جماعة يكتبون عن رجل الشعر، [فسألتُ عنه فـ]ـقيل لي: هذا أبو نُوَاس، فتخلَّلتُ الناسَ ورائي، فلما جلست إليه أملى علينا:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يوما فلا تقل:ْ ** خلوتُ، ولكنْ في الخَلاء رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ** ولا آثماً يخفَى عليه يغيبُ
لَهَوْنا عن الآثام حتى تتابعتْ ** ذنوبٌ على آثارهن ذنوبُ
فيا ليت أنّ الله يغفر ما مضى ** ويأذن في توباتِنا فنتوب"!!
اعتبار مقدَّر
والواقع أن العلماء تجاوزوا في روايتهم عن أبي نُوَاس مستوى أماليه الشعرية إلى حمل ذخيرته من مرويات الحديث النبوي نفسه، مهما كانت درجة تقييمهم لصحة هذه المرويات؛ فهذا الحافظ البغدادي يترجم -في ‘تاريخ بغداد‘- للمحدِّث محمد بن إبراهيم بن كثير الصيرفي (ت بعد 273هـ/886م)، قائلا إنه "رُوِي عنه عن أبي نُوَاس الشاعر حديثان مسندان"!! وقد جاء الخطيب بنصيْ هذين الحديثين، فكان أحدهما قوله: "حدثنا أبو نُوَاس الحسن بن هانئ، قال: حدثنا حمّاد بن سَلَمَة (ت 167هـ/784م)، عن يزيد الرَّقَاشي (ت 119هـ/738م)، عن أنس بن مالك (ت 93هـ/713م)، قال: قال رسول الله ﷺ: “لا يموتنَّ أحدُكم حتى يحسن ظنَّه بالله، فإن حسن الظن بالله ثَمَنُ الجنة”"!! ومن تأثير علاقة أبي نُوَاس بطلب الحديث النبوي -في شبابه- ما أدخله في الشعر العربي من مضامين اقتبسها من مناهج أهل الحديث على مستوى الإسناد والمتن؛ وهو ما نجد شواهده في كتب حفاظ الحديث كابن عساكر والسيوطي الذي احتفى بمرويات أبي نُوَاس الحديثية التي ضمن معانيها في شعره، بل وصدَّر بها مصنَّفَه الطريف في فكرته وغرضه وهو كتاب: ‘الازدهار فيما عقده الشعراء من الأحاديث والآثار‘. وقد قال السيوطي إن من فوائد كتابه هذا "الاستدلال به على شهرة الحديث في الصدر الأول وصحتها، وقد وقع ذلك لجماعة من المحدثين". وكان أول مثال جاء به هو نظم أبي نُوَاس لمضمون متن الحديث النبوي الشريف: “القلوب جنود مجنَّدة، فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف"؛ وذلك بقوله من أبيات”:
إن القلوب لأجنادٌ مجنَّدة ** لله في الأرض بالأهواء تعترفُ
فما تناكرَ منها فهْو مختلفٌ ** وما تعارف منها فهْو مؤتلفُ وكان من أبرز محطات الحياة الثقافية بروزُ تلك الإدانة الواسعة تحت مظلة تهمة الزندقة، والتي جرفت الساحة الثقافية بأدبائها شعراء وناثرين على حد سواء. وهنا يحكي لنا ابن قُتيبة أنه "أطلِق على كثير من أهل الخلاعة والمجون لفظ زنادقة، ومنهم الثلاثة الذين كانوا بالكوفة في العراق يقال لهم: الحمّادون". ثم يوضح لنا أكثر هوية هؤلاء "الحَمّادين"؛ فيقول: "وكان بالكوفة ثلاثة يقال لهم الحمّادون: حماد عَجْرَد (ت 161هـ/779م)، وحماد الراوية (ت 155هـ/773م)، وحماد بن الزِّبْرِقان النحوي (ت نحو 161هـ/779م)؛ وكانوا يتنادمون ويتعاشرون، وكأنهم نفس واحدة، ويُرْمَوْن جميعا بالزندقة". ويستدعي لنا ابن كثير قول الجاحظ: "الزنادقة ثلاثة: ابن المقفع (ت 142هـ/759م)، ومطيع بن إياس (ت 169هـ/785م)، ويحيى بن زياد (ت 169هـ/785م) قالوا: ونسي الجاحظ نفسه، وهو رابعهم، وكان مع هذا فاضلا بارعا فصيحا". اتهامات مرسَلة
وسواء كانت هذه التزكية في حق الجاحظ أو ابن المقفع؛ فهي جزء من الجانب الذي لم يحضر في الصورة التي انطبعت عمن شملتهم تلك التصنيفات الفضفاضة، ويمكن أن نتابع خيطها مطّردا في ذلك العهد الذي اشتدت فيه الحملة على "الزنادقة" بعد أن رفع الخليفة المهدي العباسي (ت 169هـ/785م) لواء محاربتهم بالحق وبالباطل. فها هو الشاعر الشهير بشار بن بُرْد (ت 168هـ/785م) الذي قال عنه الذهبي في ‘سير أعلام النبلاء‘: "اتهم بالزندقة فضربه المهدي سبعين سوطا ليُقِرَّ [بها] فمات"! ثم نطالع ما يفيد بـ"تورُّع" لدى بشار يجعلنا -إن صحتْ حكايته- أمام بعد ديني مغيَّب في ملامح شخصيته الشائعة؛ حيث قال ابن المعتز في ‘طبقات الشعراء‘: "وحُكي أن المهدي لما قَتل بشاراً ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئاً يتعلق به، فبعث إلى كتبه فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعاً في أن يجد فيها شيئاً مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئاً، ومَرَّ بطُومَارٍ (= صحيفة) مختوم فظن أن فيه شيئاً، فأمر بنشره فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس (ت 142هـ/760م)، فذكرتُ قرابتهم من رسول الله ﷺ وآله، فمنعني ذلك من هجوهم ووهبتُ جُرْمَهم لله عز وجل، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عِرْضاً ولم أقدح في دين، وهما:
دينارُ آل سليمان ودرهمُهم ** كالبابِـلـيَّـيْنِ شُدّاً بالعفاريتِ
لا يوجدان ولا يُرجَى لقاؤُهما ** كما سمعت بهاروتٍ وماروتِ"!! تتشابه النهايات وتتوالى لمعات القبس الذي يشعّ بالدفاع عن أصحابه من صاغة القصيد؛ وهنا نتوقف مع الشاعر العباسي صالح بن عبد القدوس (ت 167هـ/783م) الذي نقرأ فيه قول الخطيب البغدادي (ت 463هـ/1072م) -في ‘تاريخ بغداد‘- إنه "أبو الفضل البصري.. أحد الشعراء، اتهمه المهدي [بالزندقة]". وبإزاء ذلك التعريف الموجز؛ نطالع ما تنقله هذه الصورة في ‘طبقات الشعراء‘ لابن المعتز: "اجتمع قوم من أهل الأدب في مجلس فيهم صالح بن عبد القدوس يتناشدون الأشعار إلى أن حانت الصلاة، فقام القوم إلى ذلك، وقام صالح فتوضأ وأحسن ثم صلى أتم صلاة وأحسنها". ويستكمل الراوي الحكاية بأنه قال له بعضهم: "أتصلي هذه الصلاة، ومذهبُك ما تَذْكُر؟ فقال: إنما هو رسم البلد وعادة الجسد"! ورغم إمكانية نهوض هذا التصريح الأخير في مقابل أدائه الشعيرة؛ فإنه قد لا ينهض بالدرجة نفسها أمام الحرص على إتقانها. هذا زيادة على أن تفاصيل تهمة الطعن المتمثلة في الزندقة تشمل فيما يبدو بعض دلالات ومظاهر الأريحية الأدبية غير الصادرة عن الجانب العقدي، على غرار ما يحيل إليه البيتان اللذان أوردهما أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ/1039م) في كتاب ‘ثمار القلوب في المضاف والمنسوب‘:
تَزَنْدَقَ معلنا ليقول قوم ** من الأدباء زنديق ظريف
فقد بقي التزندق فيه وسماً ** ولا قيل الظريف ولا الخفيف! مرافعات دفاعية
ولا يفوت أن نلحظ -في هذا السياق- أن من أقوى ما تركته تجربة رموز الأدب والشعر تلك المرافعات التوضيحية المهمة لتبديد الصور الذهنية الشائعة عنهم. وفي مقدمتها ما جاء عند الإمام الحافظ ابن عساكر إذ يقول: "كان آدم بن عبد العزيز (ت نحو 170هـ/786م).. في أيّام حداثته يشرب الخمر، ويفرط في المجون والخلاعة، ويقول الشّعر؛ فرُفع إلى [الخليفة] المهدي أنه زنديق، وأنشد شعراً له كان قاله في أيّام الحداثة على طريق المجون، فأخذه وضربه ثلاثمئة سوط يقرّره بالزّندقة، فقال: والله لا أقرّ على نفسي بباطل أبداً ولو قُطّعت عضواً عضواً، والله ما أشركتُ بالله طرفة عين قطّ؛ فقال المهديّ: فأين قولك؟:
اسْقِني واسْقِ خليلي ** في مدى اللّيل الطّويلِ
قهوةً صهباء صِرْفاً ** سُبِـيَتْ من نهر بِـيلِ
قُلْ لِمَنْ يَلْحاكَ (= يلومك) فيها ** من وضيع أو نبيلِ
أنتَ دَعْها وارْجُ أخرى ** مِنْ رحيقِ السَّلسبيلِ
قال: يا أمير المؤمنين، كنت من فتيان قريش أشرب النّبيذ، وأتمجّن مع الشّباب، واعتقادي مع ذلك الإيمان بالله وتوحيده، فلا تؤاخذني بما أسلفتُ من قولي، قال: فخلّى سبيله". ضمن الدفعات التي مثلت ذروة النشاط الشعري العربي نطالع اسم أبي تمام (ت 231هـ/845م) الذي يشكل معلمة رئيسة في مجال القصيدة. ومع أبي تمام أيضا يتجدد السؤال المتمثل في أنه: هل كان القرب المتجسد في الحياة داخل المجتمع يُعمي لدرجة صعوبة الحكم على الشخصيات، حتى إذا غبر الزمان تسنَّى جمع متفرقات الصورة لمحاولة القراءة التركيبية السليمة والاستخلاص الدقيق لجزئياته؟ وفي هذا السياق؛ يخبرنا مؤرخ الآداب أبو بكر الصولي (ت 335هـ/946م) -في كتابه ‘أخبار أبي تمام‘- أن هذا الشاعر المبدع "ادَّعَى قوم عليه الكفر بل حققوه"؛ لكنه سرعان ما يرد هذه التهمة بقوله: "فكيف يصح الكفر عند هؤلاء على رجل شعره كله يشهد بضد ما اتهموه به، حتى يلعنوه في المجالس؟". ثم يقرر الصولي -الذي وصفه الذهبيُّ في ‘السِّيَر‘ بأنه كان "مقبولَ القول حَسَنَ المعتقد"- بثقة تامة أن اتهام أبي تمام بالكفر هو أمرٌ "خلاف ما أمر الله عز وجل ورسوله عليه السلام به، ومخالف لما عليه جملة المسلمين؛ لأن الناس على ظاهرهم حتى يأتوا بما يوجب الكفر عليهم بفعل أو قول، فيرى ذلك أو يسمع منهم أو يقوم به بينة عليهم". ويختم بقوله إن من اتهموا أبا تمام بالكفر لم يأتوا بدليل على اتهامهم "فكانوا عند الناس بمنزلة من يهذي، وهو يأخذ بما طعنوا عليه الرغائب (= الجوائز) من علماء الملوك ورؤساء الكتاب، الذين هم أعلم الناس بالكلام منثوره ومنظومه"، ومع ذلك لم يروا فيما يكافئونه عليه من شعره ما يوجب تكفيره. احتفاءٌ مناصِر
وفي تقويم يزكِّي -على الأقل- السمت الشخصي لأبي تمام؛ نجد الذهبي يقول -في ‘السِّيَر‘-إنه "كان يوصف بطيب الأخلاق". كما تعزز سلامةَ معتقده تعزيتُه البليغة لأمير عباسي أصابه حزن شديد لوفاة أحد إخوته؛ وكان نصها كما في ‘وفيات الأعيان‘ لابن خلّكان: "أيها الأمير، التمسْ ثوابَ الله بحسن الجزاء والتسليم لأمر الله، واذكر مصيبتك في نفسك تُنْسِكَ مصيبتَك في غيرك؛ والسلام"!! وإذا كان بعض كبار المحدّثين أبدوْا احتفاءً -ولو على مستوى التدوين- بأحاديث نبوية رواها أبو نُوَاس في شبابه عن شيوخه من أئمة الحديث، حتى بنوا عليها نوعا من التصانيف استحدثوه كما فعل السيوطي؛ فإن نصيب أبي تمام من ذلك لم يكن بالأمر المتجاوز. ولذلك عندما ترجم الخطيب البغدادي -في تاريخ بغداد‘- لشيخه القاضي أبي العلاء الواسطي (ت 431هـ/1031م) روى عنه الحديث النبوي “إن من الشعر حكمة”، بنوع طريف من الأسانيد جميع رواته ينتمون إلى فئة الشعراء؛ وكان أبو تمام ضمن هؤلاء الشعراء. وقد صار هذا النمط من المرويات فرعا مستقلا من أنواع الأسانيد يُعرف بـ"الحديث المسلسل بالشعراء"، وأفرد له شمس الدين ابن عقيلة الحنفي المكيّ (ت 1150هـ/1737م) بابا ضمَّنه نماذجَ منه في كتابه ‘الفوائد الجليلة في مسلسلات ابن عقيلة‘. وذلك على غرار أنماط أخرى بينها "الحديث المسلسل بالفقهاء" و"الحديث المسلسل بالنحويين". لم يكن أبرز شعراء العربية أبو الطيب المتنبي (ت 354هـ/965م) بمنأى عن هذا الإشكال بل غاصت ركائبه بوحله جدا، حيث تشير المصادر إلى أنه سمي المتنبي "لأنه ادعى النبوة"؛ وفقا لابن خلكان. ولكننا نجد أيضا في الكتاب ذاته: "وقيل إنه قال أنا أول من تنبأ بالشعر" فلذلك سُمِّي المتنبي. واللافت أننا لا نجد اتفاقا بين الدارسين -قديما وحديثا- على مضمون تهمة بهذا الحجم ارتبطت بها التسمية العامة لهذا الشاعر في أيام حياته. توجيه ثنائي
وبالدخول إلى عوالم المتنبي للإمساك بخيط نرى أن شارح ديوانه علي بن أحمد النيسابوري الواحدي (ت 468هـ/1075م) علق على بعض ما يؤخذ على المتنبي في التعابير، بقوله عن أحد أبياته: "هذا من المدح البارد الذي يدل على رقة دين وسخافة عقل، وهو من شعر الصبا؛ إذ قال المتنبي هذه القصيدة في صِباه"! فنلاحظ أن الواحدي يبرّئه من هذا التهمة في شعره الذي قاله بعد مرحلة الصِّبا. ويبدو أن الواحدي لم يكتف بتبرئة المتنبي من "رقة الدين" حتى رأى له مشاركة من نوع ما في الجهاد؛ فقد نقل -في شرحه لديوانه- توجيه الإمام اللغوي ابن جِنِّيّ (ت 392هـ/1003م) لقول المتنبي:
بأيّ بلادٍ لم أجُرَّ ذوائبي؟ ** وأيّ مكانٍ لم تطأهُ ركائبي؟
فقال ابن جنيّ: "أيْ لم أدَعْ موضعا من الأرض إلا جلتُ فيه إما متغزِّلا وإما غازيًّا"!! ومفردة "الغزو" في العصور الإسلامية إنما كانت تستخدم غالبا لقتال الأعداء من غير المسلمين؛ فلعل ابن جنيّ احتسب لصديقه المتنبي حضوره الشعري المشهود في غزوات الأمير سيف الدولة الحمداني (ت 356هـ/م) وغيره من أمراء الشام، الذين كانوا يتصدون لغارات الروم البيزنطيين على بلاد المسلمين. كما أننا على مستوى الأسئلة الخاصة بهذا الجانب والترجيحات ذات الصلة بها، نقرأ لدى أبي العلاء المعري (ت 449هـ/1058م) -في ‘رسالة الغفران‘- دفاعا عن المتنبي، رغم ما يثار في وجهه هو الآخر من تهم التفسيق الزندقة؛ فيقول: "حُدِّثتُ أن أبا الطيب.. رُئِيَ يصلي بموضع بمعرة النعمان يقال له كنيسة الأعراب، وأنه صلى ركعتين وذلك في وقت العصر، فيجوز أن يكون رأى أنه على سفر وأن القصر له جائز". وإذا كان المحتوى الشعري شكَّل شرارة الانتقاد؛ فإن ابن خلكان يلاحظ سقوط عينة من نوع المحتوى الذي ينبض بما يشفع للمتنبئ ويدافع عنه في هذا الباب، ويتمثل ذلك في هذين البيتين:
وَبِعَيْنِ مُفْتَقِرٍ إِلَيْكَ رَأَيْتَنِي ** فَهَجَرْتَنِي وَنَزَلْتَ بِي مِنْ حَالِقِ
لَسْتَ الْمَلُومَ أَنَا الْمَلُومُ لِأَنَّنِي ** أَنْزَلْتُ حَاجَاتِي بِغَيْرِ الْخَالِقِ
فقد جاء في ‘البداية والنهاية‘ لابن كثير: "قال القاضي بن خلكان: وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ لَيْسَا فِي دِيوَانِهِ، وَقَدْ عَزَاهُمَا الْحَافِظُ الْكِنْدِيُّ (تاج الدين زيد بن الحسن الحميري الكِنْدي ت 613هـ/1216م) إِلَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ". نظرة أندلسية
وفي الغرب الإسلامي حيث فضاءات الأندلس التي حجزت في جغرافيا الأدب والثقافة مكانا عليًّا لا تنال منه عوادي القرون؛ نجد أحيانا نزعاً لفتيل التضارب وضمانا لصورة أتم إيضاحا؛ أسعفت بعض الحقب والأمصار أحيانا بأجزاء الصورة متكاملة بما ينفي الضبابية ويمكّن من الجمع. ومن ذلك ما جاء في حديث ياقوت الحموي (ت 626هـ/1229م) في ‘معجم الأدباء‘ عن الأديب والشاعر الأندلسي ابن عبد ربه (ت 328هـ/940م) مُصنِّف ‘العِقد الفريد‘؛ فقد قال إنه "أقلع -في آخر عمره- عن صبوته وأخلص لله في توبته، فاعتبرَ (= تتبَّع) أشعارَه التي قالها في اللهو، وعمل على أعاريضها (= أوزانها) وقوافيها في الزهد وسماها المُمَحِّصَات". لكننا نلاحظ -في الآن نفسه- قُطر الأندلس لم يسلم هو أيضا من ظاهرة التردد بين الطعن والتزكية لمثل هذه الشخصيات؛ إذ نلاقي الأديبة البارعة ولّادة بنت المستكفي القرطبية (ت 484هـ/1091م) الموصوفة بأنها "مشهورة بالصيانة والعفاف"؛ وفقا لابن شاكر الكتبي (ت 764هـ/1363م). وفي مقابل تلك التزكية؛ نجد جَرْحاً متحفظا لها عند الإمام ابن بَشْكُوَال (ت 578هـ/1182م) الذي نعتها -في كتابه ‘الصِّلة‘- بأنها "لم يكن لها تصاون يطابق شرفها"؛ وهو ما يعمق حالة التقييميْن المتقابليْن التي يبدو أنها ظلت مطردة في تراجم الشعراء مشرقا ومغربا. ويوقفنا ابن بسّام الشنتريني الأندلسي (ت 542هـ/1147م) -في كتابه ‘الذخيرة‘- على عمق الجدل والتضاد في الحُكم وعدم إغفال الجوانب اللامعة بالتزكية؛ فقد قال مترجما للأديب علي بن حصن الإشبيلي (ت نحو 461هـ/1070م): "وإني لأعجب من قومٍ من أهل أُفِقِنا (= بلادنا) لم يعرفوه ولم ينصفوه، فأضربوا عن ذكره، وزهدوا في أعلاق شعره، ولعلهم حاسبوه بخزعبلاتٍ كان يعبث بها بين مجونه وسكره، وهيهات! فضله أشهر وإحسانه أكثر". ثم يورد الشنتريني من شعر ابن حصن ما يدل على اعتباره للقيم الدينية وكونها مرتكز سموّ شخصيات الممدوحين؛ ومن ذلك قوله يمدح أمير أمراء الأندلس المعتضد بن عباد (ت 461هـ/1070م) فيصفه بالجمع بين "التقوى" الراسخة والقوة الباطشة:
جزيلُ التُّقَى، يمشي الهُوَيْنا تواضعاً ** ويهتزُّ إعظاماً له كلُّ خُنْبُجِ (= الرجل الضخم) وقد قارن الشنتريني المعنى الذي قصده ابن حصن هنا بمقولة عائشة (ت 58هـ/679م) -رضي الله عنها- عن عمر الفاروق حين قالت في حق أحدهم كان يمزج عبادته بالتمسكن: "عُمَرُ والله كان أنْسَكُ (= أكثر عبادة) منه، ولكنه كان إذا مشى أسرع، وإذا تكلم أسمع، وإذا ضرب في ذات الله أوجع"!! رؤى تصحيحية
وفي هذا الخضم؛ انبثقت بعض الرؤى الهادفة لضبط مقود التعليق وإطلاق الأحكام في غمرة التناول العام لتراجم الشعراء، وإن اختلفت تلك الرؤى في طرحها. ففي الوقت الذي اتجه فيه بعضها اتجاها نقديا أدبيا صرفا، مثل مقالة الصولي في كتابه ‘أخبار أبي تمام‘: "وما ظننتُ أن كفراً ينقص من شعرٍ ولا أن إيماناً يزيد فيه"؛ كان هناك طرْح آخر دعته معياريته الفنية إلى سن الضوابط والمعايير. فكان من ذلك ما أوضحه الخطيب البغدادي -في ‘الكفاية في علم الرواية‘- بقوله: "باب كراهة الرواية عن أهل المجون والخلاعة"، ويقف بين المنزلتين رأي ثالث يتجلى فيما أشار إليه ياقوت الحموي -في ‘معجم الأدباء‘- حين قال: "وإني لأقول كما قال أبو منصور [الثعالبي]: لو لا قول إبراهيم بن المهدي (ت 224هـ/839م) إن جِدّ الأدب جِدّ وهزله هزل؛ لصنتُ كتابي هذا عن مثل هذا المجون". ونلمس مثل هذا النظر في حديث الإمام ابن كثير عن المعري: "ومن الناس من يعتذر عنه ويقول إنه إنما كان يقول ذلك مُجونا ولعبا، ويقول بلسانه ما ليس في قلبه وقد كان باطنه مسلما". وعلى ضوء مصابيح هذا الرأي؛ تصفّح الثعالبي -في ‘يتيمة الدهر‘- أشعار وأخبار بعض الشعراء مستكملا تحديدات هذا الطرح بقوله: "وَلَكِن لِلْإِسْلَامِ حَقّه من الإجلال الَّذِي لَا يسوغ الْإِخْلَال بِهِ قولا وفعلا ونظما ونثرا". وعند حديث الثعالبي عن الشاعر أبي الحسن ابن سُكّرة الهاشمي البغدادي (ت 385هـ/995م) قال: "ابن سُكّرة الهاشمي… جارٍ في ميدان المجون والسُّخْف ما أراد"، رغم قصة طريفة أوردها عنه تفيد بأنه لم يكن يضيِّع صلاة الصبح! ولكن منهجية "الباب الدوّار" بين القدح والمدح توصلنا إلى ما قاله عنه مجد الدين الفيروزآبادي (ت 817هـ/1415م) في ‘القاموس المحيط‘: "ابن سكرة محمد بن عبد الله الشاعر الهاشمي الزاهد المعروف"؛ فأيهما إذن ابنُ سكرة؟ ذاك هو السؤال الذي تعد فلسفته المؤطرَ لفكرة هذه المعالجة التي قدمناها هنا.. ويبدو أن باب الإجابة عنه سيظل دوّارا!! المصدر : الجزيرة
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/18 الساعة 01:27