مسائل النية في صوم رمضان
مدار الساعة - مما يكثر الجدل فيه كل عام في شهر رمضان مسائل حول النية في رمضان، وهو مما يحسن تحرير محل النزاع فيه، وبيانه على وجه مفصل.
المسألة الأولى: النية في الصيام بشكل عام
اختلف العلماء هل تجب النية في الصيام؟ على رأيين:
الرأي الأول: لا يصح أي نوع من أنواع الصيام إلا بنية له، سواء أكان صيام رمضان أو غيره من الصوم الواجب، بل ولا يصح صوم التطوع إلا بنية الصيام. وهو مذهب جمهور الفقهاء.
واستدل الجمهور بالحديث الصحيح عند البخاري وغيره:” إنما الأعمال بالنيات”.
الرأي الثاني: يصح الصوم بلا نية، وهو رأي عطاء ومجاهد وزفر بن هذيل، فقالوا: إن كان الصوم متعينا، بأن يكون الرجل صحيحا مقيما في شهر رمضان، فلا يحتاج إلى نية، إلا أن يكون الذي يدركه صيام رمضان مريضا أو مسافرا فيريد الصوم.
واحتجوا بأن شهر رمضان يجب فيه الصوم، وهو يمنع وقوع صوم غيره فيه، فلا معنى لافتقاره إلى النية.
واستثنى الماوردي صوم النذر والكفارة، فلابد فيه من النية بإجماع الفقهاء.
سبب الاختلاف:
وسبب الاختلاف أن جمهور العلماء يرون أن الصوم عبادة غير معقولة المعنى؛ فلا تصح إلا بنية، واحتج زفر ومن معهم بأن الصيام عبادة معقولة المعنى، وقد حصل المعنى إذا صام وإن لم ينو.
المسألة الثانية: في نية الصوم
اختلف العلماء في تحديد نية صوم رمضان، على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يصح إلا بالنية من الليل. وبه قال جمهور العلماء من السلف والخلف. واحتجوا بحديث حفصة وحديث عائشة رضي الله عنهما ” لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل “
المذهب الثاني: أنه يصح بنية قبل الزوال، وبه قال أبو حنيفة. واحتج بحديث صوم عاشوراء، أن النبي صلى الله عليه وسلم ” بعث يوم عاشوراء إلى أهل العوالي وهي القرى التي حول المدينة أن يصوموا يومهم ذلك “، كما قال على صيام التطوع، فإنه لا يشترط له تبييت النية من الليل.
أما النية من الليل فواجبة عند أبي حنيفة وغيره في صوم القضاء والكفارة.
واحتج الجمهور على أبي حنيفة بالقياس على صوم الكفارة والقضاء، كما أن صوم عاشوراء لم يكن فرضا، وعلى اعتبار فرضيته؛ فإن المرء لا يكلف إلا بعد بلوغه الأمر، فلم يكن واجبا عليهم إلا بعد بلوغهم بوجوب صيامه. أما القياس على صوم التطوع، فإن التطوع مبني على التيسير؛ تشجيعا للناس عليه، بخلاف صوم الفريضة.
سبب الاختلاف:
والسبب في اختلاف الفقهاء التعارض الظاهر في الآثار، فالجمهور استدل بما خرجه البخاري عن حفصة أنه قال – عليه الصلاة والسلام -: «من لم يبيت الصيام من الليل فلا صيام له» . ورواه مالك موقوفا. قال أبو عمر: حديث حفصة في إسناده اضطراب.
واستدل الأحناف بما رواه مسلم عن عائشة قالت: «قال لي رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ذات يوم: هل عندكم شيء؟ قالت: قلت: يا رسول الله، ما عندنا شيء، قال: فإني صائم» .
ولحديث معاوية أنه قال على المنبر: يا أهل المدينة أين علماؤكم سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: «اليوم هذا يوم عاشوراء ولم يكتب علينا صيامه وأنا صائم فمن شاء منكم فليصم ومن شاء فليفطر» .
فذهب الجمهور مذهب الترجيح، ورجحوا حديث حفصة على غيره من الأحاديث، وذهب أبو حنفية مذهب الجمع، ففرق بين النفل والفرض، فحمل حديث حفصة على الفرض، وحديث عائشة ومعاوية على النفل ، وإنما فرق أبو حنيفة بين الواجب المعين والواجب في الذمة، لأن الواجب المعين له وقت مخصوص يقوم مقام النية في التعيين، والذي في الذمة ليس له وقت مخصوص، فأوجب إذن التعيين بالنية.
المسألة الثالثة: هل النية واجبة لكل يوم من رمضان؟
اختلف الفقهاء هل يجب تعيين النية كل يوم من أيام رمضان أم تكفي نية واحدة للشهر كله؟
المذهب الأول: أن كل يوم يفتقر إلى نية، في جميع أنواع الصيام، سواء نية صوم رمضان أو صوم القضاء أو الكفارة أو النذر أو التطوع. وبه قال جمهور الفقهاء، ومنهم أبو حنفية.
واحتج الجمهور بأن كل يوم عبادة مستقلة، لا يرتبط بعضها ببعض، ولا يفسد بعضها بفساد بعض، بخلاف الحج وركعات الصلاة.
المذهب الثاني: أنه تجزئ نية واحدة عن الشهر كله، فإذا نوى المسلم صيام رمضان من أول ليلة؛ كفاه، وهو مذهب مالك، ورواية عن أحمد وإسحاق بن راهويه.
ولأنه نوى في زمن يصلح جنسه لنية الصوم، فجاز، كما لو نوى كل يوم في ليلته.
واحتج مالك بأنه عبادة واحدة فكفته نية واحدة كالحج وركعات الصلاة.
المسألة الرابعة: تعيين نية الفريضة
كما اختلف الفقهاء في وجوب تعيين نية الفريضة على مذاهب:
المذهب الأول: أنه لا يصح صوم رمضان ولا غيره إلا بتعيين النية، وهو مذهب جمهور الفقهاء. واستدلوا بحديث:” إنما الأعمال بالنيات”، وبالقياس على صوم القضاء.
المذهب الثاني: لا يجب تعيين النية في رمضان، فلو نوى الصيام مطلقا، فرضا أو تطوعا في رمضان، صح صيامه، إن كان مقيما، وكذلك النذر المتعين في زمان معين، لا تجب فيه النية. وهو مذهب أبي حنفية.واستدل أبو حنفية بالقياس على الحج.
سبب الاختلاف:
وسبب الاختلاف هو أن الجمهور يرون أن الواجب في تعيين النية هو تعيين شخصها، كالصلاة مثلا، فلا يكفي أن ينوي الإنسان أن يصلي فقط، بل لابد من تعيين: هل سيصلي العصر، وعصر أي يوم، أم المغرب أم العشاء أم غيرها.
ويرى أبو حنفية أن الواجب تعيين جنس العبادة، ولا يشترط تعيين شخصها، يعني يكفي أن ينوي الصيام مطلقا، أما الجمهور فلابد عندهم من تعيين نوع الصيام. ومثال ذلك أنه يكفي في الوضوء تعيين جنس العبادة، وهو رفع الحدث، لأي شيء كان من العبادات التي لا تصح إلا بالوضوء؛ كالصلاة وقراءة القرآن والطواف.
تحرير محل النزاع:
النية هي إرادة الفعل، وكما هو معلوم عند الفقهاء أن النية لا يشترط فيها التلفظ بها، بل النية محلها القلب، ولما كانت النية محلها القلب، وهو أمر غيبي لا يطلع عليه الآخرون، فتبقى أن الإرادة تحصل بأي فعل يدل عليها، ومن ذلك:
- النية العامة للصيام، فمطلق النية يكفي في وقوعها.
- كما يدل على النية والإرادة قيام الإنسان بالتسحر كل ليلة من ليالي رمضان، في أي جزء من الليل.
- كما يقوم مقامها ويدل عليها أن ينوي التسحر، وإن لم يستطعه، لنسيان أو نوم أو غيره، فكل ما يدل على النية يقوم مقامها من قول أو فعل.
- ولا يفهم من كلام الفقهاء من اشتراط النية كل ليلة – مع الخلاف الوارد فيها- أنه لابد للإنسان أن يتلفظ بالنية، فمجرد العزم والإرادة، واستصحاب أمارات النية كافية في وقوعها، ولعل مثل هذا التفسير يخفف الخلاف الواقع بين الفقهاء في مسألة النية وما يلحقها.