استقوى الملكُ الحسين بالمعارضةَ وطبّق معها فنًّ «توزيع الأدوار» !!
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/15 الساعة 01:28
ذكريات و عٍظات (الحلقة الثانية)
* استقوى الملكُ الحسين بالمعارضةَ وطبّق معها فنًّ «توزيع الأدوار» !!
* عندما توارى "رجال الدولة" و فَجَر المأجورون !
* الأعلى صوتا وحِدّة في خطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !!
* "التنفيس" عِلمٌ ومؤسسة احترافية وفنٌ متكامل الأركان !! (1)
من الطبيعي أن تكشف الأحداث الأردنية الكبرى، وخاصة حالات تهديد الأمن والاستقرار كالذي عايناه مؤخرا، عن الإيجابيات والسلبيات في المجتمع.
ومنها، الإختباء والتواري المفضوح حيال حملة الذباب الإلكتروني المدبرة على البلاد، نظاما وامنا واستقرارا.
لا بل والتشفي بها ايضا !!
والمساهمة بطرق شتى في التشكيك بحملة التطعيم الوطني كفرصة تعافٍ وحيدة. والتشكيك بالعلماء الافذاذ الذين يديرون الصراع مع وباء الكورونا عزمي محافظة، فراس الهواري، سعد الخرابشة، نذير عبيدات، بسام الحجاوي، العبد العكايلة وغيرهم كثر.
والطعن في ايمان المؤسسة الدينية الرسمية وخاصة معالي الصديق محمد الخلايلة وزير الاوقاف الذي يعرف كل من اقترب منه حجم التقى والورع ومخافة الله الذي في قلبه وبين عينيه وفي سلوكه وقراراته. لا يتم تناول وجهات النظر، بل يذهبون مباشرة الى الأشخاص وإطلاق أحكام القيمة مثل متآمر جاهل كافر عدو المسجد عدو الاسلام.
وقد هالني انني قرأت سبابا جنسيا مقذعا بحق رجال دين محترمين وقورين. ومِن مَن ؟ مِن بعض الذين يطالبون بفتح المساجد وقت صلاة التراويح والجمعة وغيرها من الصلوات !!. ففي الوقت الذين يطالبون فيه بحل مشكلة البطالة، يضربون الفرص الاستثمارية التي هي معقد رجائنا لحل المشكلة.
ولما استجاب رهط من الكتاب الصحافيين والمثقفين والسياسيين لطلب الفضائيات فبادروا الى ملء "الفراغ الإعلامي" والتغطية على الخطاب الكاذب الملفق الذي ساقه بعض الموتورين، انبرى عدد من "رجال الدولة" الصامتين الى مهاجمة من تكلموا !! حتى انهم جبنوا عن التعرض الى من افتروا وتكلموا بلا توقف ضد بيان الدولة. هذا الحال دائم التكرار في كل المحطات الأردنية الكبرى التي تحتاج الى ابناء الوطن الذين لا يلتفتون الى القرقعة والفغير والزعيق والتلفيق والتكفير والتخوين.
فالوطنيون الطلائعيون مقدامون وليسوا استرضائيين، وهم في الموعد تماما عندما يقتضي الوضع الاصطفاف خلف الشرعية لا خلف الشعبوية. (2) و افرق هنا بين المعارضة الحزبية الدستورية العريقة وبين حزب الكنبة وعدد من المعارضين الأفراد المزيفين ذوي الخطاب البائس الفقير الشتّام اللعّان الذي تعوزه الرفعة في القول وانعدام الحجة، الرخيصين المبتزين الذين يتم كراؤهم لبث السلبية والتشويه والاحباط والعدمية والسواد والإنتقاص.
ومعلوم ان المعارضة الفردية التي بلا نسق ولا تنظيم، هي معارضة استعراض وتشويه وتشويش آيلة الى الفناء والانفثاء. فلا تترك الأجهزة الأمنية، معارضي بلدانها بلا رقابة وبلا ضبط. فالاجهزة الأمنية تمتلك قدرات متابعة فنية وتجربة عميقة وتراثا عريقا من ادوات الإحتواء وتحويل المعارض الصعب إلى مُنفِّس عذب !! و"التنفيس" علم ومهنية ومؤسسة احترافية وفن متكامل الأركان، حتى ان اجهزة التنفيس المحترفة، كثيرا ما تطلق الإشاعات والنكات والتعليقات ضد نظامها لامتصاص الاحتقانات المجتمعية !! ويستحيل ان تعمل «المعارضة الخارجية» دون أخذ الموافقة، من أجهزة الدولة الامنية والسياسية، التي تعمل على ارضها. وتحتاج المعارضة بالتاكيد إلى نفقات، لأن معظم المعارضين ليسوا اثرياء. كما ان الأثرياء منهم، لا ينفقون من حر اموالهم على قضايا عامة !!. وهكذا تضطر المعارضة الى «التنسيق والتعاون» مع الأجهزة الأجنبية. المعارضة والموالاة، تقاليد وعراقة ومصالح ومنظومة وعمق وتراكم وعمل جماعي منظم طويل الأجل. المعارضة الراشدة ضرورة وليست ضررا. وهي مصل ومضاد قانوني وأخلاقي ضد الفساد والإستبداد. ومن قال ان صناعة المعارضين والقادة وتخليقهم، تتم دائما في دوارق الشعب وفي أرحام النمو السياسية الطبيعية ؟ سياسيا، الصوت العالي لا يؤسس موقفا قابلا للنمو، و لا يؤثث خطابا وطنيا يجتمع الناس عليه. ولا يصلح حجة. وكنا نعتبر الأعلى صوتا والأكثر حدة في بياناته وخطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !! اما الحط من قدر الوطن، والتنمر على مؤسساته، اذا لم يكن عملا تخريبيا، فإنه سيكون تشويشا وتشويها، ولن يكون ابدا عملا سياسيا وازنا. المعارضة الوطنية نسقٌ وبرنامجٌ وجهدٌ ونضالُ طلائع جماعي تراكمي شاقٌ طويلُ الأجل، يجيدها اولو العزم ذوو الخلق والتكوين الديمقراطي والقدرة على مشاق العمل الجماعي واكلافه وقيوده. وسوى ذلك من معارضة افراد، هي معارضة مايكروفونات وبيانات وعظية استاذية موقوتة، تغري صاحبها وتستدرجه الى فخ الاستعراض الذي يستطيبه و «يسخسخ» عليه.
حضر شفيق الكمالي رئيس اتحاد الكتاب العرب، واضع النشيد الوطني العراقي «أرض الفراتين» انتخابات رابطة الكتاب الأردنيين في أواخر السبعينات، وبعد انتهاء عملية الفرز وفوزنا برئاسة الدكتور محمود السمرة، دعونا ضيفنا إلى عشاء في مطعم البستان، وهناك قال الرجل: لم أرَ أذكى منكم. لقد فرزتم واحدا منكم، ليلعب دور المعارضة في اجتماع الهيئة العامة اليوم.
قلنا له: ان المعارض الأهوج الذي تقصده هو ضدنا. ومن حظنا انه على تلك الدرجة من الفعفطة والنطنطة.
ولأننا نعرف نظامنا السياسي، المشهود له بالكفاءة والحنكة والخبرة، فعلينا ان ندقق في «الشخصيات» الذين يعتلون صهوة المعارضة، ذوي الأصوات العالية والشعارات المدوية، لمعرفة من تم فرزه ليقوم بالدور.
و ما هو معلوم للسياسيين ذوي التجربة: أن المعارضة الفردية show. (3) قال وهو يؤشر بسبابته الغليظة على كرسيه الوثير: انتم تعارضون من اجل الوصول الى هذا الكرسي !
قلت له: ولكنك تجلس على الكرسي بدون ان تكون معارضا !! كنا نقف على مدخل قبة مجلس النواب استعدادا للدخول الى الجلسة: طاهر المصري، عبدالرؤوف الروابدة، علي ابو الراغب، عوض خليفات، صالح رشيدات، عبدالرحيم العكور، مفلح الرحيمي وحمزة منصور. كنت اقرأ مسودة بيان «لضب الشّكَل وفض النشب»، الذي من المؤكد ان ينجم عن مناقشة عاصفة تدور حول تعرض النائب عبد المنعم ابو زنط للاعتداء في أحد المساجد.
انضم الينا النائب ابراهيم زيد الكيلاني وزير الأوقاف في حكومة مضر بدران، فوجه لي كلاما مازحا قائلا: «اراك متنشطا اخي ابو عمر، ملحّق تصير وزير ؟!». فرد عليه سريع البديهة عبدالرؤوف الروابدة قائلا: لماذا تستكثر على الرجل ما ابحته لنفسك؟. انتم السابقون وهم اللاحقون. الملاحظ ان بعض المواطنين يلجأون اليوم إلى التعميم واعتبار كل من تولى منصبا حكوميا، شخصا متهما فاسدا لصا حراميا مليارديرا. هكذا... "صَم لَم" ولكنهم يشيرون بالاحترام إلى شخصيات تولت مسؤوليات عامة كبرى مثل وصفي التل وهزاع المجالي وشفيق ارشيدات واحمد الطراونة وعبد الوهاب المجالي واسحق الفرحان وخليل السالم وحكمت الساكت واحمد عبيدات وعبد خلف داودية ومحمد عودة القرعان وسليمان عرار وابراهيم الحباشنة وذوقان الهنداوي وعبد الله غوشة ومحمود السمرة وناصر الدين الأسد ومحمد اديب العامري وغيرهم عشرات المئات. وبالتأكيد ليس كل مسؤول و وزير ملاكا نقيا عفيفا.
وعلى حد علمي، فإن ابناء الوطن الذين جاءوا من المعارضة قدموا نماذج استقامة تقتدى. وانا لا أعرف منهم فاسدا.
واضرب امثلة: خالد الكلالدة، مازن الساكت، عبدالله العكايلة، فارس النابلسي، عبد الكريم الدغمي، سمير حباشنة، مصطفى شنيكات، كمال ناصر، محمد فارس الطراونة، سليم الزعبي، بسام حدادين، موسى المعايطة، بسام العموش، حسين مجلي ومحمد العوران وكثيرون غيرهم. (4) لا يوجد نظام سياسي في العالم، يبحث عن معارضة سياسية تنشر غسيله الوسخ وتشهّر به وتؤلب عليه وتفضح ممارساته وتصمه بما فيه وبما ليس فيه.
ولا توجد معارضة سياسية في العالم، تهوى المعتقلات والزنازين والتعذيب والمنع من العمل والمنع من السفر والمنع من احتلال المناصب اللائقة بها. في حقبة الخمسينات والستينات كان برنامج (ال سي. آي. ايه) لمكافحة الشيوعية يدفع 20 ألف دولار، على كل ورقة استنكار لعضو من أعضاء الاحزاب الشيوعية. فكانت الأنظمة السياسية في العالم الثالث، تسعى للحصول على أوراق استنكار الحزب الشيوعي، من الشيوعيين ومن غير الشيوعيين!! لتحصل مقابل ذلك على ملايين الدولارات، وعلى سمعة انها تقف سدا منيعا ضد انتشار الأفكار الشيوعية. لقد مارست المعارضة السياسية الأردنية نوعي المعارضة التقليديين:
المعارضة السرية الانقلابية «المسلحة وغير المسلحة»، المرتبطة بأنظمة حكم خارجية كسوريا والعراق وليبيا ومصر والاتحاد السوفياتي، التي عملت في صفوف القوات المسلحة، فاستدعت مقاومة استخبارية اردنية عنيفة، انطبق عليها قانون نيوتن الثالث: «لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في القوة، مضادٌ له في الاتجاه».
ومن هنا يصدق القول على الأنظمة السياسية ان الرشد يقابله الرشد وان الدم يستسقي الدم. ورغم ذلك فقد تميزت مواجهة المعارضة الأردنية بأنها لم تَرقَ الى حدود الاغتيالات والاعدامات والخطف والإخفاء والدهس بالخيل كما حصل لمئات المعارضين المصريين والعرب، وابرزهم الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي عام 1960، باستثناء حالة اردنية واحدة في تاريخنا السياسي مارسها خبير أمني ألماني طرده الملك الحسين بسببها هي حالة الشيوعي الشركسي عبدالفتاح تولستان التي وقعت في 24 شباط 1962. والمعارضة السياسية الثانية، هي المعارضة الحزبية الإصلاحية العلنية، التي رفعت شعار «اردن وطني ديمقراطي»، الذي نادى بعودة الحياة النيابية وإلغاء الاحكام العرفية وتشريع الأحزاب السياسية واطلاق الحريات العامة، بدل شعار المعارضة القديم العقيم الذي لا يمكن تحقيقه: «الإطاحة بنظام الحكم». لقد انتقلت المعارضة السياسية الأردنية من «معارضة الحكم» الى «معارضة الحكومات»، بهديٍ من مناخ الإنفتاح والمصالحة، الذي كانت اول من دعت اليه في منتصف الثمانينات، منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن (مجد). وبهدي مؤثرات هبة نيسان 1989 وانتخاباتها. والمناخ الذي وفّره الميثاق الوطني عام 1991 بمشاركة أعضاء من الأحزاب المحظورة كالحزب الشيوعي ومجد وحزب الجبهة الشعبية والعديد من الشخصيات الوطنية. (5) لقد وفّر مناخُ المصالحة الوطنية دعما كبيرا للنظام السياسي، مكّنه من تحمل تبعات الضغط الهائل، الاقتصادي والسياسي الذي نجم عن قرار الملك الحسين يرحمه الله بانحيازه الى الحل العربي- العربي، لتحقيق انسحاب العراق، الذي استدرجته السفيرة الامريكية غلاسبي لغزو الكويت، بدلا من الانضواء في الحملة الامريكية ضد العراق، المشهورة باسم «حفر الباطن». لقد سخّر الملكُ الحسين المعارضةَ الأردنية واستقوى بها، ومارس جدلية وتناوب «توزيع الأدوار» معها، بمهارة سياسية إبداعية لا تضاهى. وخاصة مع تنظيم الاخوان المسلمين، مكنته من الحفاظ على جبهة داخلية متماسكة، رغم الأوضاع الاقتصادية المضطربة الناجمة عن الحصار الخانق الاقتصادي والسياسي المضروب على الأردن بصفته من «دول الضد» في الحُكم والشارع الأردنيين، رشدٌ بالغٌ يعتبر المعارضة موقفا اخلاقيا دستوريا حضاريا ثقافيا، من ضرورات الحكم الرشيد وأساسياته وبدهياته. ويعتبرها علامة كرامة ووعي وحيوية شعب. وفي السجل الوطني، ان المعارضين الأردنيين دفعوا ثمن قناعاتهم الباهظ، دون تردد وبإقدام ووعي. والملفت انهم رغم الاعتقال لم يصبحوا حاقدين على بلادهم:
يعقوب زيادين، عيسى مدانات، عبد الرحمن شقير، محمود الموسى العبيدات، حمدي مطر، عزمي الخواجا، عبد العزيز العطي، زياد ابو غنيمة، حمزة منصور، سالم النحاس، عبلة ابو علبة، سمير حباشنة، عرفات الأشهب، تيسير الزبري، هاشم غرايبة، حمدان الهواري، ناهض حتر، ياسين الطراونة، عبدالله الهواري وميشيل وجميل النمري. وكما انتقل معارضون الى صفوف السلطة والموالاة، فقد انتقل موالون الى صفوف المعارضة. وحالة مدير المخابرات الأسبق احمد عبيدات، نموذج على ذلك التحول وعلى القبول الشعبي به والموافقة على انتقاله. لقد بدأ مبكرا، الانفتاحُ السياسي الأردني بين القصر والمعارضة. وتجلّى ذلك حين كلف الملك الحسين، ملك الحداثة والحكمة والحنكة، زعيمَ المعارضة السياسية المرحوم سليمان النابلسي، بتشكيل حكومة إئتلافية حزبية قومية ديمقراطية (تشرين الأول 1956- نيسان 1957)، ضمت «قرامي» رجالات الوطن والمعارضة من الضفتين، مثل شفيق رشيدات وعبد الحليم النمر وعبد الله الريماوي وأنور الخطيب ونعيم عبد الهادي وسمعان داود وصالح المجالي وصالح المعشر وعبد القادر الصالح. وكما في الاردن، فقد تم الانفتاحُ والانفراج في المغرب، حين كلّف الملكُ الحسن الثاني يرحمه الله، المحامي عبد الرحمن اليوسفي، المعارض الاشتراكي، المحكوم بالإعدام برئاسة الحكومة (4 شباط 1998 - 9 تشرين الأول 2002). في تجربة ثمينة تبعها لاحقا اغلاق ملف «سنوات الرصاص» بين العرش والمعارضة، من خلال هيئة الانصاف والمصالحة، التي أعطت فرصة لضحايا الانتهاكات للتعبير على شاشة التلفزيون والاذاعة المغربية عما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وإهدار للكرامة، وما تعرض له ذووهم من أضرار جسيمة مادية ومعنوية، في الفترة من 1956 إلى الفترة 1999.
* استقوى الملكُ الحسين بالمعارضةَ وطبّق معها فنًّ «توزيع الأدوار» !!
* عندما توارى "رجال الدولة" و فَجَر المأجورون !
* الأعلى صوتا وحِدّة في خطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !!
* "التنفيس" عِلمٌ ومؤسسة احترافية وفنٌ متكامل الأركان !! (1)
من الطبيعي أن تكشف الأحداث الأردنية الكبرى، وخاصة حالات تهديد الأمن والاستقرار كالذي عايناه مؤخرا، عن الإيجابيات والسلبيات في المجتمع.
ومنها، الإختباء والتواري المفضوح حيال حملة الذباب الإلكتروني المدبرة على البلاد، نظاما وامنا واستقرارا.
لا بل والتشفي بها ايضا !!
والمساهمة بطرق شتى في التشكيك بحملة التطعيم الوطني كفرصة تعافٍ وحيدة. والتشكيك بالعلماء الافذاذ الذين يديرون الصراع مع وباء الكورونا عزمي محافظة، فراس الهواري، سعد الخرابشة، نذير عبيدات، بسام الحجاوي، العبد العكايلة وغيرهم كثر.
والطعن في ايمان المؤسسة الدينية الرسمية وخاصة معالي الصديق محمد الخلايلة وزير الاوقاف الذي يعرف كل من اقترب منه حجم التقى والورع ومخافة الله الذي في قلبه وبين عينيه وفي سلوكه وقراراته. لا يتم تناول وجهات النظر، بل يذهبون مباشرة الى الأشخاص وإطلاق أحكام القيمة مثل متآمر جاهل كافر عدو المسجد عدو الاسلام.
وقد هالني انني قرأت سبابا جنسيا مقذعا بحق رجال دين محترمين وقورين. ومِن مَن ؟ مِن بعض الذين يطالبون بفتح المساجد وقت صلاة التراويح والجمعة وغيرها من الصلوات !!. ففي الوقت الذين يطالبون فيه بحل مشكلة البطالة، يضربون الفرص الاستثمارية التي هي معقد رجائنا لحل المشكلة.
ولما استجاب رهط من الكتاب الصحافيين والمثقفين والسياسيين لطلب الفضائيات فبادروا الى ملء "الفراغ الإعلامي" والتغطية على الخطاب الكاذب الملفق الذي ساقه بعض الموتورين، انبرى عدد من "رجال الدولة" الصامتين الى مهاجمة من تكلموا !! حتى انهم جبنوا عن التعرض الى من افتروا وتكلموا بلا توقف ضد بيان الدولة. هذا الحال دائم التكرار في كل المحطات الأردنية الكبرى التي تحتاج الى ابناء الوطن الذين لا يلتفتون الى القرقعة والفغير والزعيق والتلفيق والتكفير والتخوين.
فالوطنيون الطلائعيون مقدامون وليسوا استرضائيين، وهم في الموعد تماما عندما يقتضي الوضع الاصطفاف خلف الشرعية لا خلف الشعبوية. (2) و افرق هنا بين المعارضة الحزبية الدستورية العريقة وبين حزب الكنبة وعدد من المعارضين الأفراد المزيفين ذوي الخطاب البائس الفقير الشتّام اللعّان الذي تعوزه الرفعة في القول وانعدام الحجة، الرخيصين المبتزين الذين يتم كراؤهم لبث السلبية والتشويه والاحباط والعدمية والسواد والإنتقاص.
ومعلوم ان المعارضة الفردية التي بلا نسق ولا تنظيم، هي معارضة استعراض وتشويه وتشويش آيلة الى الفناء والانفثاء. فلا تترك الأجهزة الأمنية، معارضي بلدانها بلا رقابة وبلا ضبط. فالاجهزة الأمنية تمتلك قدرات متابعة فنية وتجربة عميقة وتراثا عريقا من ادوات الإحتواء وتحويل المعارض الصعب إلى مُنفِّس عذب !! و"التنفيس" علم ومهنية ومؤسسة احترافية وفن متكامل الأركان، حتى ان اجهزة التنفيس المحترفة، كثيرا ما تطلق الإشاعات والنكات والتعليقات ضد نظامها لامتصاص الاحتقانات المجتمعية !! ويستحيل ان تعمل «المعارضة الخارجية» دون أخذ الموافقة، من أجهزة الدولة الامنية والسياسية، التي تعمل على ارضها. وتحتاج المعارضة بالتاكيد إلى نفقات، لأن معظم المعارضين ليسوا اثرياء. كما ان الأثرياء منهم، لا ينفقون من حر اموالهم على قضايا عامة !!. وهكذا تضطر المعارضة الى «التنسيق والتعاون» مع الأجهزة الأجنبية. المعارضة والموالاة، تقاليد وعراقة ومصالح ومنظومة وعمق وتراكم وعمل جماعي منظم طويل الأجل. المعارضة الراشدة ضرورة وليست ضررا. وهي مصل ومضاد قانوني وأخلاقي ضد الفساد والإستبداد. ومن قال ان صناعة المعارضين والقادة وتخليقهم، تتم دائما في دوارق الشعب وفي أرحام النمو السياسية الطبيعية ؟ سياسيا، الصوت العالي لا يؤسس موقفا قابلا للنمو، و لا يؤثث خطابا وطنيا يجتمع الناس عليه. ولا يصلح حجة. وكنا نعتبر الأعلى صوتا والأكثر حدة في بياناته وخطاباته وهتافاته، مدعاة شبهة !! اما الحط من قدر الوطن، والتنمر على مؤسساته، اذا لم يكن عملا تخريبيا، فإنه سيكون تشويشا وتشويها، ولن يكون ابدا عملا سياسيا وازنا. المعارضة الوطنية نسقٌ وبرنامجٌ وجهدٌ ونضالُ طلائع جماعي تراكمي شاقٌ طويلُ الأجل، يجيدها اولو العزم ذوو الخلق والتكوين الديمقراطي والقدرة على مشاق العمل الجماعي واكلافه وقيوده. وسوى ذلك من معارضة افراد، هي معارضة مايكروفونات وبيانات وعظية استاذية موقوتة، تغري صاحبها وتستدرجه الى فخ الاستعراض الذي يستطيبه و «يسخسخ» عليه.
حضر شفيق الكمالي رئيس اتحاد الكتاب العرب، واضع النشيد الوطني العراقي «أرض الفراتين» انتخابات رابطة الكتاب الأردنيين في أواخر السبعينات، وبعد انتهاء عملية الفرز وفوزنا برئاسة الدكتور محمود السمرة، دعونا ضيفنا إلى عشاء في مطعم البستان، وهناك قال الرجل: لم أرَ أذكى منكم. لقد فرزتم واحدا منكم، ليلعب دور المعارضة في اجتماع الهيئة العامة اليوم.
قلنا له: ان المعارض الأهوج الذي تقصده هو ضدنا. ومن حظنا انه على تلك الدرجة من الفعفطة والنطنطة.
ولأننا نعرف نظامنا السياسي، المشهود له بالكفاءة والحنكة والخبرة، فعلينا ان ندقق في «الشخصيات» الذين يعتلون صهوة المعارضة، ذوي الأصوات العالية والشعارات المدوية، لمعرفة من تم فرزه ليقوم بالدور.
و ما هو معلوم للسياسيين ذوي التجربة: أن المعارضة الفردية show. (3) قال وهو يؤشر بسبابته الغليظة على كرسيه الوثير: انتم تعارضون من اجل الوصول الى هذا الكرسي !
قلت له: ولكنك تجلس على الكرسي بدون ان تكون معارضا !! كنا نقف على مدخل قبة مجلس النواب استعدادا للدخول الى الجلسة: طاهر المصري، عبدالرؤوف الروابدة، علي ابو الراغب، عوض خليفات، صالح رشيدات، عبدالرحيم العكور، مفلح الرحيمي وحمزة منصور. كنت اقرأ مسودة بيان «لضب الشّكَل وفض النشب»، الذي من المؤكد ان ينجم عن مناقشة عاصفة تدور حول تعرض النائب عبد المنعم ابو زنط للاعتداء في أحد المساجد.
انضم الينا النائب ابراهيم زيد الكيلاني وزير الأوقاف في حكومة مضر بدران، فوجه لي كلاما مازحا قائلا: «اراك متنشطا اخي ابو عمر، ملحّق تصير وزير ؟!». فرد عليه سريع البديهة عبدالرؤوف الروابدة قائلا: لماذا تستكثر على الرجل ما ابحته لنفسك؟. انتم السابقون وهم اللاحقون. الملاحظ ان بعض المواطنين يلجأون اليوم إلى التعميم واعتبار كل من تولى منصبا حكوميا، شخصا متهما فاسدا لصا حراميا مليارديرا. هكذا... "صَم لَم" ولكنهم يشيرون بالاحترام إلى شخصيات تولت مسؤوليات عامة كبرى مثل وصفي التل وهزاع المجالي وشفيق ارشيدات واحمد الطراونة وعبد الوهاب المجالي واسحق الفرحان وخليل السالم وحكمت الساكت واحمد عبيدات وعبد خلف داودية ومحمد عودة القرعان وسليمان عرار وابراهيم الحباشنة وذوقان الهنداوي وعبد الله غوشة ومحمود السمرة وناصر الدين الأسد ومحمد اديب العامري وغيرهم عشرات المئات. وبالتأكيد ليس كل مسؤول و وزير ملاكا نقيا عفيفا.
وعلى حد علمي، فإن ابناء الوطن الذين جاءوا من المعارضة قدموا نماذج استقامة تقتدى. وانا لا أعرف منهم فاسدا.
واضرب امثلة: خالد الكلالدة، مازن الساكت، عبدالله العكايلة، فارس النابلسي، عبد الكريم الدغمي، سمير حباشنة، مصطفى شنيكات، كمال ناصر، محمد فارس الطراونة، سليم الزعبي، بسام حدادين، موسى المعايطة، بسام العموش، حسين مجلي ومحمد العوران وكثيرون غيرهم. (4) لا يوجد نظام سياسي في العالم، يبحث عن معارضة سياسية تنشر غسيله الوسخ وتشهّر به وتؤلب عليه وتفضح ممارساته وتصمه بما فيه وبما ليس فيه.
ولا توجد معارضة سياسية في العالم، تهوى المعتقلات والزنازين والتعذيب والمنع من العمل والمنع من السفر والمنع من احتلال المناصب اللائقة بها. في حقبة الخمسينات والستينات كان برنامج (ال سي. آي. ايه) لمكافحة الشيوعية يدفع 20 ألف دولار، على كل ورقة استنكار لعضو من أعضاء الاحزاب الشيوعية. فكانت الأنظمة السياسية في العالم الثالث، تسعى للحصول على أوراق استنكار الحزب الشيوعي، من الشيوعيين ومن غير الشيوعيين!! لتحصل مقابل ذلك على ملايين الدولارات، وعلى سمعة انها تقف سدا منيعا ضد انتشار الأفكار الشيوعية. لقد مارست المعارضة السياسية الأردنية نوعي المعارضة التقليديين:
المعارضة السرية الانقلابية «المسلحة وغير المسلحة»، المرتبطة بأنظمة حكم خارجية كسوريا والعراق وليبيا ومصر والاتحاد السوفياتي، التي عملت في صفوف القوات المسلحة، فاستدعت مقاومة استخبارية اردنية عنيفة، انطبق عليها قانون نيوتن الثالث: «لكل فعل رد فعل، مساوٍ له في القوة، مضادٌ له في الاتجاه».
ومن هنا يصدق القول على الأنظمة السياسية ان الرشد يقابله الرشد وان الدم يستسقي الدم. ورغم ذلك فقد تميزت مواجهة المعارضة الأردنية بأنها لم تَرقَ الى حدود الاغتيالات والاعدامات والخطف والإخفاء والدهس بالخيل كما حصل لمئات المعارضين المصريين والعرب، وابرزهم الشيوعي المصري شهدي عطية الشافعي عام 1960، باستثناء حالة اردنية واحدة في تاريخنا السياسي مارسها خبير أمني ألماني طرده الملك الحسين بسببها هي حالة الشيوعي الشركسي عبدالفتاح تولستان التي وقعت في 24 شباط 1962. والمعارضة السياسية الثانية، هي المعارضة الحزبية الإصلاحية العلنية، التي رفعت شعار «اردن وطني ديمقراطي»، الذي نادى بعودة الحياة النيابية وإلغاء الاحكام العرفية وتشريع الأحزاب السياسية واطلاق الحريات العامة، بدل شعار المعارضة القديم العقيم الذي لا يمكن تحقيقه: «الإطاحة بنظام الحكم». لقد انتقلت المعارضة السياسية الأردنية من «معارضة الحكم» الى «معارضة الحكومات»، بهديٍ من مناخ الإنفتاح والمصالحة، الذي كانت اول من دعت اليه في منتصف الثمانينات، منظمة الجبهة الديمقراطية في الأردن (مجد). وبهدي مؤثرات هبة نيسان 1989 وانتخاباتها. والمناخ الذي وفّره الميثاق الوطني عام 1991 بمشاركة أعضاء من الأحزاب المحظورة كالحزب الشيوعي ومجد وحزب الجبهة الشعبية والعديد من الشخصيات الوطنية. (5) لقد وفّر مناخُ المصالحة الوطنية دعما كبيرا للنظام السياسي، مكّنه من تحمل تبعات الضغط الهائل، الاقتصادي والسياسي الذي نجم عن قرار الملك الحسين يرحمه الله بانحيازه الى الحل العربي- العربي، لتحقيق انسحاب العراق، الذي استدرجته السفيرة الامريكية غلاسبي لغزو الكويت، بدلا من الانضواء في الحملة الامريكية ضد العراق، المشهورة باسم «حفر الباطن». لقد سخّر الملكُ الحسين المعارضةَ الأردنية واستقوى بها، ومارس جدلية وتناوب «توزيع الأدوار» معها، بمهارة سياسية إبداعية لا تضاهى. وخاصة مع تنظيم الاخوان المسلمين، مكنته من الحفاظ على جبهة داخلية متماسكة، رغم الأوضاع الاقتصادية المضطربة الناجمة عن الحصار الخانق الاقتصادي والسياسي المضروب على الأردن بصفته من «دول الضد» في الحُكم والشارع الأردنيين، رشدٌ بالغٌ يعتبر المعارضة موقفا اخلاقيا دستوريا حضاريا ثقافيا، من ضرورات الحكم الرشيد وأساسياته وبدهياته. ويعتبرها علامة كرامة ووعي وحيوية شعب. وفي السجل الوطني، ان المعارضين الأردنيين دفعوا ثمن قناعاتهم الباهظ، دون تردد وبإقدام ووعي. والملفت انهم رغم الاعتقال لم يصبحوا حاقدين على بلادهم:
يعقوب زيادين، عيسى مدانات، عبد الرحمن شقير، محمود الموسى العبيدات، حمدي مطر، عزمي الخواجا، عبد العزيز العطي، زياد ابو غنيمة، حمزة منصور، سالم النحاس، عبلة ابو علبة، سمير حباشنة، عرفات الأشهب، تيسير الزبري، هاشم غرايبة، حمدان الهواري، ناهض حتر، ياسين الطراونة، عبدالله الهواري وميشيل وجميل النمري. وكما انتقل معارضون الى صفوف السلطة والموالاة، فقد انتقل موالون الى صفوف المعارضة. وحالة مدير المخابرات الأسبق احمد عبيدات، نموذج على ذلك التحول وعلى القبول الشعبي به والموافقة على انتقاله. لقد بدأ مبكرا، الانفتاحُ السياسي الأردني بين القصر والمعارضة. وتجلّى ذلك حين كلف الملك الحسين، ملك الحداثة والحكمة والحنكة، زعيمَ المعارضة السياسية المرحوم سليمان النابلسي، بتشكيل حكومة إئتلافية حزبية قومية ديمقراطية (تشرين الأول 1956- نيسان 1957)، ضمت «قرامي» رجالات الوطن والمعارضة من الضفتين، مثل شفيق رشيدات وعبد الحليم النمر وعبد الله الريماوي وأنور الخطيب ونعيم عبد الهادي وسمعان داود وصالح المجالي وصالح المعشر وعبد القادر الصالح. وكما في الاردن، فقد تم الانفتاحُ والانفراج في المغرب، حين كلّف الملكُ الحسن الثاني يرحمه الله، المحامي عبد الرحمن اليوسفي، المعارض الاشتراكي، المحكوم بالإعدام برئاسة الحكومة (4 شباط 1998 - 9 تشرين الأول 2002). في تجربة ثمينة تبعها لاحقا اغلاق ملف «سنوات الرصاص» بين العرش والمعارضة، من خلال هيئة الانصاف والمصالحة، التي أعطت فرصة لضحايا الانتهاكات للتعبير على شاشة التلفزيون والاذاعة المغربية عما تعرضوا له من تنكيل وتعذيب وإهدار للكرامة، وما تعرض له ذووهم من أضرار جسيمة مادية ومعنوية، في الفترة من 1956 إلى الفترة 1999.
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/15 الساعة 01:28