الإنسان والعمران واللسان
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/10 الساعة 12:50
مدار الساعة - صدر عن “المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات” كتاب للمؤلف المغربي إدريس مقبول بعنوان:” الإنسان والعمران واللسان: رسالة في تدهور الأنساق في المدينة العربية”، وهو قراءة عابرة للتخصصات لأمراض المدينة، تلتزم قدرًا أكبر من الجرأة، وقدرًا أقل من الانغلاق في تجاوزها حدود القطاعات المعرفية الصارمة وفي مقاربتها المادي وغير المادي من أعراض مرض التمدن في الفضاء المدني، من أجل بحث العلاقة بين اللساني والاجتماعي.
يحاول الكتاب أن يقدم تفسيرًا لعدد من الظواهر التي باتت اليوم علامة واضحة ومؤشرًا دالًّا على “مرض المدينة”، وعلى “تشوهات حياتنا المدنية” التي تعتبر نتيجة طبيعية للإقبال على المدينة من دون تخطيط أو تفكير.
ويعتبر إدريس مقبول أكاديمي مغربي. يعمل مديرا لمركز ابن غازي للأبحاث والدراسات الاستراتيجية. حاصل على شهادة الدكتوراه في اللسانيات العامة واللسانيات العربية من جامعة محمد بن عبد الله بفاس. وقد حصل على عدد من الجوائز، منها الجائزة العربية للعلوم الاجتماعية والإنسانية من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بقطر (2015). من مؤلفاته: الأسس الإبستمولوجية والتداولية للنظر النحوي عند سيبويه، وسيبويه معتزليًّا: حفريات في ميتافيزيقا النحو العربي، والأفق التداولي، وسؤال المعنى، وما وراء السياسة، والمخفي والمعلن في الخطاب الأمريكي، والحوار الحضاري: دراسة في النظام المعرفي والقيمي القرآني.
علامات المدينة
يتألف هذا الكتاب (224 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من قسمين يضمَّان سبعة فصول. في القسم الأول، “من سيميولوجيا التدفق إلى سوسيولوجيا العزلة”، أربعة فصول. وفي الفصل الأول، “المدينة وتدفق العلامات”، يقول المؤلف إن التدفق هنا مفهوم رقمي ينتمي إلى عالم الاتصالات، لكنه يتسع ليشمل جميع الديناميات المتجهة “من تدفق المال، كما تصف أرديس باترفيلد المتخصصة بأدب جيفري تشوسر، وتدفق الأضواء على النحو الذي يشبّهه فيه الكاتب الألماني ألكسندر كلوغه بفوضى الحواس: ’تمامًا مثل الأضواء بين المدن، مثل تدفقات الأضواء، وكل جانب من المدينة يؤثر بكمية الأضواء الناتج عنه على الجانب الآخر‘، وتدفق البشر على نحو ما وصف روب شيلدز، أو كما رسم الغيطاني إحساسه الداخلي بالدينامية المتدفقة في فضاء مدينة نيويورك: ’تدفق البشر في الشوارع كثيف، كلهم مسرعون، رغم أنهم جمع فإنهم فرادى‘. التدفق هنا عددي ويفتقر إلى الرابطة وإلى المعنى، ولهذا كان كل من قصدها غريب، وعندما يصبح الكل غرباء، ينتفي الإحساس بالغربة”. الهوية والرمز
يرى المؤلف في الفصل الثاني، “هوية الفضاء ودينامية الرمز”، أنه كان للمدينة العربية في التاريخ الوسيط طابع عمراني وهوية عمرانية يعكسان فلسفة الوجود والإنسان ورؤيتها النسبية المنسجمة لقيم الجمال والآخر والأخلاق، ولتنظيمٍ مركَّب لقطاعات الاقتصاد والتجارة والصناعة والفلاحة وغيرها، إضافةً إلى انسجام ذلك مع مناخ الجغرافيا العربية الذي كان ملهمًا لكثير من الإبداعات الهندسية؛ إذ كان المسجد الجامع في قلب المدينة، ولم يكن رمزًا للعبادة والتنسك فحسب: “إنما كان بمركزيته كذلك رمزًا لمركزية سلطة العلم والمعرفة التي تحتل من المدينة قلبها، وحوله تتوزع وتنتشر في خطط متناغمة عنقودية، لها نظامها الداخلي المضمر، تتوفر على نهايات مغلقة تنتهي بأسوار تشكل درع المدينة وحصنها في وجه الغزاة”. وبحسب المؤلف، كان الجامع المقابل العمراني لهندسة الأغورا اليونانية التي احتلت المركز من قلب المشروع الحضاري اليوناني. أما اليوم، وأمام انتكاسة الفكر والذوق والجمهور العربي والسياسة العربية، انتكس التخطيط، بل بات هناك تخطيط لا يؤشر إلى هوية محددة، فهو الفوضى بامتياز. تناقضات سوداء
يرى المؤلف في الفصل الثالث، “آلة المشاعر السوداء”، أنّ المدينة العربية الحديثة تصنع المتناقضات السخيفة، بل إنها تستفيد منها وتتغذى عليها؛ فـ “وراء كل الأوضاع المختلة وغير الطبيعية أكداس من مشاعر الغضب والحقد على النازحين، إنهم سبب كل آلام المدينة وفاقتها. وتسري هذه المشاعر الهوجاء والسوداء في شرايين المدينة، تلاحق ضحاياها في جميع الهوامش والأطراف وعند الملتقيات كلها، تُسَبِّبُ جروحًا غائرة وتمحو بقايا الشعور بالانتماء إلى المكان، تذكّرهم بأنهم غرباء باستمرار ولو حازوا بطاقات هوية وشهادات سكنى في أحد أحياء المدينة التي تستثقلهم”. وهذه الصورة المختزلة التي تتكرر في عدد من الدول العربية، بحسب المؤلف، هي تفصيل بالصوت والصورة وبلغة الأرقام للحظة الطرد التمييزية والعنصرية تجاه الريف: “هذا الريف المختلف الذي حولته السياسات التنموية إلى مجرد مجال منسي تنخره الأمية والعصبيات القبلية، وتحكمه السلطة بأدوات عتيقة، وتديره الإدارة المحلية بعقلية استغلالية وانتهازية لا حدود لها… يلتقي التحكم بطبائع الانتهازية ليصنعا مأساة الريف على مرأى ومسمع من المدينة القريبة التي أوصدت أبوابها ونوافذها ونامت بلا اكتراث”. المجتمع والعزلة
يرى المؤلف في الفصل الرابع، “إنسان معزول وسط الزحام”، أنّ المدينة مجال للتعايش الثقافي، وهي في قلب ذلك نُظم من الإدارة والتفكير والمواقف والقيم، أو هي نمط حياة خاص قبل أن تكون جغرافيا مملوءة أو ديموغرافيا حية؛ “إنها مساحة للتواصل بين القيم المدنية والفكرية التي تتساند من أجل ترسيخ مستوى من العيش المشترك المبني على التربية وعلى الاحترام والتسامح الذي يجمع المعتقدات كافة وحقوق الإنسان والخضوع لسلطة القانون. وهي بهذا المعنى تتجاوز الصورة البسيطة والتبسيطية التي تقرر إمكانية اندماج سهل لثقافة الريف التي تتحكم فيها الطبيعة والأعراف والتلقائية في ثقافة المدينة أو ذوبانها غير المشروط فيها”. ويضيف المؤلف قوله إن الهجرة واقع تاريخي، وستبقى كذلك إلى الأبد، “لكنها تتحول إلى مشكلة اجتماعية فعلًا حين يجري السعي إلى حلها عن طريق الإدماج الحضري القسري، أو ما يسميه أحد رواد مدرسة شيكاغو، روبرت إزرا بارك، عملية الانصهار، لأن الثقافة التي يحملها المهاجر القروي تتميز بهيمنة التقاليد والأعراف، وهي تختلف تمامًا عن الثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والرأي العام والقانون الوضعي”. علم نفس العمران
يشتمل القسم الثاني، “من علم نفس العمران إلى الاقتصاد السياسي للسان”، على ثلاثة فصول. ويشير المؤلف في الفصل الخامس، “انسدادات وتحولات”، إلى أن الدراسات والبحوث التي اهتمت بسوسيولوجيا الجيرة في المدينة وتأثيراتها وتأثراتها تفيد أن منطق الحاجة والتعارف هو الذي يحكم علاقات الجوار في الفضاءات التقليدية، “ولهذا تكون قيمة الجوار أكثر وظيفية ووضوحًا في الفضاءات الشعبية، حيث يحتاج الناس بعضهم إلى بعض، وتزداد هذه القناعة رسوخًا إذا ما عايَنَّا غيابها الكُلِّي في الأحياء البرجوازية، التي تبدو كأنها في غنى عن مثل هذه القيم الاجتماعية، ما يعني أنها قيم مرتبطة بالحاجة وتتولد عنها، فساكن الحي البرجوازي لا يعرف هوية جاره، بصرف النظر عن مدة إقامته إلى جواره، أي جهل تام بمن لا يفصله عنه سوى جدار”. ويضيف المؤلف قائلًا: “لعل المال والحياة المادية المدينية يفسران هذا الانكماش الاجتماعي وهذا البرود في العلاقة. كما أننا نتصور أن تدفق المال في المدينة، باعتباره تدفقًا لعنصر يتميز بصفته المحايدة والمجردة، يميل إلى إعطاء طابع هو نفسه مجرد ومحايد للعلاقات بين سكان المدينة، مساهمًا كذلك في تنامي الفردية”. هوامش المقاومة
يلفت المؤلف الانتباه في الفصل السادس، “أطر السيطرة الرمزية وهوامش المقاومة الصاعدة”، إلى أن في المدينة العربية الحديثة “يمكن أن نكتشف من دون عناء أن وضعية التفوق اللغوي للألسنة الأجنبية (وهو من أعراض مرض التمدن) واضحة بكل تأكيد، باعتبارها نتيجة التردي والتراجع اللذين تعرفهما اللغة الوطنية والقومية في الواقعين الوظيفي والمعيش، وهو في الواقع تخريب أصاب الجهاز العصبي ونتجت منه تمثلات مُشوَّهة عن الذات والعالم، وهناك من يرده إلى طبيعة ما يرافق اللسان المُعْتَبَر متفوقًا من صورة أثيرية ذات غواية خاصة، تجعل من تفوق اللغة الخرافي تفوقًا بالتعدية للمتكلم بها، لأن اللغة المتفوقة، ولتكن الفرنسية أو الإنكليزية على سبيل المثال، أصبحت سمة مصاحبة للثقافة والفكر والقوة، إلى درجة أن الشخص المثقف في المجتمع المديني، أو الحاصل على مستوى تعليمي عال ولا يتحدث باللغة الإنكليزية يُنظر إليه بشيء من الانتقاص، وربما يمارَس ضده الإقصاء”. ويرى المؤلف أن من أعراض مرض التمدن ما يصاحب نفسية الناطقين بغير لغتهم القومية لأسباب عدة، “كالخوف من السخرية أو الخجل أو إخفاء الانتماء القومي أو ذهنية التظاهر التي تغلب على بعض النخب”. التلوث السائل
يردُّ المؤلف في الفصل السابع، “تراجيديات العنف الحضري والتلوث السائل”، جزءًا من التلوث البصري إلى أسباب معرفية قبل أن تكون ذوقية، فـ “التلوث المعماري المنتشر، والمعمم اليوم، ما هو إلا نتيجة لما يسمّيه رفعت الجادرجي ’الإقحام الشكلي الفاسد‘، وهو عنوان تردّي ثقافة العمران في المجتمع بأسره؛ فمن بين أهم أسباب انتشار هذا التلوث، جهل المؤدين المصنعين والمصممين والمتلقين العلاقة الجدلية البنيوية بين المادة والشكليات المتوافقة مع خصائصها، جهلًا معرفيًا وحدسيًا، وقد عمَّ هذا الجهل، لا بين الطبقات العامة فحسب، بل كذلك بين غالب المتعلمين، وبينهم المعمار الأكاديمي، وبقدر ما يعم هذا الجهل قادة المجتمع، كرجال السلطة واللاهوت والتجارة مثلًا، يعم انتشار التلوث ويتفاقم، وبهذا القدر نفسه يفسد الذوق”. ويضيف إلى ذلك المؤلف قوله: “التلوث البصري هو نتاج فساد بصري يُورث أمراضًا بصرية هي جزء من أعراض مرض التمدن التي تُضاعف اضطراباتنا النفسية والعصبية، وتؤشر على انحدار حاد في الذوق العام”. وفي خاتمة بعنوان “استعادة الأمل”، يرى المؤلف أن الأنساق العمرانية هي أنساق سيميائية ذات بُعد ثقافي بالدرجة الأولى، أي إنها تحيل إلى الإنسان وثقافته في أخص خصوصياته، وهي حين تنتقل من دون وعي من سياق حضاري إلى آخر توزع استبدادها وقهرها على الذين انساقوا في لحظة انزلاق حضاري إلى ومضة علامة يجهلون عواقب تبنيها. المصدر : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
يتألف هذا الكتاب (224 صفحة بالقطع الوسط، موثقًا ومفهرسًا) من قسمين يضمَّان سبعة فصول. في القسم الأول، “من سيميولوجيا التدفق إلى سوسيولوجيا العزلة”، أربعة فصول. وفي الفصل الأول، “المدينة وتدفق العلامات”، يقول المؤلف إن التدفق هنا مفهوم رقمي ينتمي إلى عالم الاتصالات، لكنه يتسع ليشمل جميع الديناميات المتجهة “من تدفق المال، كما تصف أرديس باترفيلد المتخصصة بأدب جيفري تشوسر، وتدفق الأضواء على النحو الذي يشبّهه فيه الكاتب الألماني ألكسندر كلوغه بفوضى الحواس: ’تمامًا مثل الأضواء بين المدن، مثل تدفقات الأضواء، وكل جانب من المدينة يؤثر بكمية الأضواء الناتج عنه على الجانب الآخر‘، وتدفق البشر على نحو ما وصف روب شيلدز، أو كما رسم الغيطاني إحساسه الداخلي بالدينامية المتدفقة في فضاء مدينة نيويورك: ’تدفق البشر في الشوارع كثيف، كلهم مسرعون، رغم أنهم جمع فإنهم فرادى‘. التدفق هنا عددي ويفتقر إلى الرابطة وإلى المعنى، ولهذا كان كل من قصدها غريب، وعندما يصبح الكل غرباء، ينتفي الإحساس بالغربة”. الهوية والرمز
يرى المؤلف في الفصل الثاني، “هوية الفضاء ودينامية الرمز”، أنه كان للمدينة العربية في التاريخ الوسيط طابع عمراني وهوية عمرانية يعكسان فلسفة الوجود والإنسان ورؤيتها النسبية المنسجمة لقيم الجمال والآخر والأخلاق، ولتنظيمٍ مركَّب لقطاعات الاقتصاد والتجارة والصناعة والفلاحة وغيرها، إضافةً إلى انسجام ذلك مع مناخ الجغرافيا العربية الذي كان ملهمًا لكثير من الإبداعات الهندسية؛ إذ كان المسجد الجامع في قلب المدينة، ولم يكن رمزًا للعبادة والتنسك فحسب: “إنما كان بمركزيته كذلك رمزًا لمركزية سلطة العلم والمعرفة التي تحتل من المدينة قلبها، وحوله تتوزع وتنتشر في خطط متناغمة عنقودية، لها نظامها الداخلي المضمر، تتوفر على نهايات مغلقة تنتهي بأسوار تشكل درع المدينة وحصنها في وجه الغزاة”. وبحسب المؤلف، كان الجامع المقابل العمراني لهندسة الأغورا اليونانية التي احتلت المركز من قلب المشروع الحضاري اليوناني. أما اليوم، وأمام انتكاسة الفكر والذوق والجمهور العربي والسياسة العربية، انتكس التخطيط، بل بات هناك تخطيط لا يؤشر إلى هوية محددة، فهو الفوضى بامتياز. تناقضات سوداء
يرى المؤلف في الفصل الثالث، “آلة المشاعر السوداء”، أنّ المدينة العربية الحديثة تصنع المتناقضات السخيفة، بل إنها تستفيد منها وتتغذى عليها؛ فـ “وراء كل الأوضاع المختلة وغير الطبيعية أكداس من مشاعر الغضب والحقد على النازحين، إنهم سبب كل آلام المدينة وفاقتها. وتسري هذه المشاعر الهوجاء والسوداء في شرايين المدينة، تلاحق ضحاياها في جميع الهوامش والأطراف وعند الملتقيات كلها، تُسَبِّبُ جروحًا غائرة وتمحو بقايا الشعور بالانتماء إلى المكان، تذكّرهم بأنهم غرباء باستمرار ولو حازوا بطاقات هوية وشهادات سكنى في أحد أحياء المدينة التي تستثقلهم”. وهذه الصورة المختزلة التي تتكرر في عدد من الدول العربية، بحسب المؤلف، هي تفصيل بالصوت والصورة وبلغة الأرقام للحظة الطرد التمييزية والعنصرية تجاه الريف: “هذا الريف المختلف الذي حولته السياسات التنموية إلى مجرد مجال منسي تنخره الأمية والعصبيات القبلية، وتحكمه السلطة بأدوات عتيقة، وتديره الإدارة المحلية بعقلية استغلالية وانتهازية لا حدود لها… يلتقي التحكم بطبائع الانتهازية ليصنعا مأساة الريف على مرأى ومسمع من المدينة القريبة التي أوصدت أبوابها ونوافذها ونامت بلا اكتراث”. المجتمع والعزلة
يرى المؤلف في الفصل الرابع، “إنسان معزول وسط الزحام”، أنّ المدينة مجال للتعايش الثقافي، وهي في قلب ذلك نُظم من الإدارة والتفكير والمواقف والقيم، أو هي نمط حياة خاص قبل أن تكون جغرافيا مملوءة أو ديموغرافيا حية؛ “إنها مساحة للتواصل بين القيم المدنية والفكرية التي تتساند من أجل ترسيخ مستوى من العيش المشترك المبني على التربية وعلى الاحترام والتسامح الذي يجمع المعتقدات كافة وحقوق الإنسان والخضوع لسلطة القانون. وهي بهذا المعنى تتجاوز الصورة البسيطة والتبسيطية التي تقرر إمكانية اندماج سهل لثقافة الريف التي تتحكم فيها الطبيعة والأعراف والتلقائية في ثقافة المدينة أو ذوبانها غير المشروط فيها”. ويضيف المؤلف قوله إن الهجرة واقع تاريخي، وستبقى كذلك إلى الأبد، “لكنها تتحول إلى مشكلة اجتماعية فعلًا حين يجري السعي إلى حلها عن طريق الإدماج الحضري القسري، أو ما يسميه أحد رواد مدرسة شيكاغو، روبرت إزرا بارك، عملية الانصهار، لأن الثقافة التي يحملها المهاجر القروي تتميز بهيمنة التقاليد والأعراف، وهي تختلف تمامًا عن الثقافة الحضرية التي تتميز بسيادة الفردانية والرأي العام والقانون الوضعي”. علم نفس العمران
يشتمل القسم الثاني، “من علم نفس العمران إلى الاقتصاد السياسي للسان”، على ثلاثة فصول. ويشير المؤلف في الفصل الخامس، “انسدادات وتحولات”، إلى أن الدراسات والبحوث التي اهتمت بسوسيولوجيا الجيرة في المدينة وتأثيراتها وتأثراتها تفيد أن منطق الحاجة والتعارف هو الذي يحكم علاقات الجوار في الفضاءات التقليدية، “ولهذا تكون قيمة الجوار أكثر وظيفية ووضوحًا في الفضاءات الشعبية، حيث يحتاج الناس بعضهم إلى بعض، وتزداد هذه القناعة رسوخًا إذا ما عايَنَّا غيابها الكُلِّي في الأحياء البرجوازية، التي تبدو كأنها في غنى عن مثل هذه القيم الاجتماعية، ما يعني أنها قيم مرتبطة بالحاجة وتتولد عنها، فساكن الحي البرجوازي لا يعرف هوية جاره، بصرف النظر عن مدة إقامته إلى جواره، أي جهل تام بمن لا يفصله عنه سوى جدار”. ويضيف المؤلف قائلًا: “لعل المال والحياة المادية المدينية يفسران هذا الانكماش الاجتماعي وهذا البرود في العلاقة. كما أننا نتصور أن تدفق المال في المدينة، باعتباره تدفقًا لعنصر يتميز بصفته المحايدة والمجردة، يميل إلى إعطاء طابع هو نفسه مجرد ومحايد للعلاقات بين سكان المدينة، مساهمًا كذلك في تنامي الفردية”. هوامش المقاومة
يلفت المؤلف الانتباه في الفصل السادس، “أطر السيطرة الرمزية وهوامش المقاومة الصاعدة”، إلى أن في المدينة العربية الحديثة “يمكن أن نكتشف من دون عناء أن وضعية التفوق اللغوي للألسنة الأجنبية (وهو من أعراض مرض التمدن) واضحة بكل تأكيد، باعتبارها نتيجة التردي والتراجع اللذين تعرفهما اللغة الوطنية والقومية في الواقعين الوظيفي والمعيش، وهو في الواقع تخريب أصاب الجهاز العصبي ونتجت منه تمثلات مُشوَّهة عن الذات والعالم، وهناك من يرده إلى طبيعة ما يرافق اللسان المُعْتَبَر متفوقًا من صورة أثيرية ذات غواية خاصة، تجعل من تفوق اللغة الخرافي تفوقًا بالتعدية للمتكلم بها، لأن اللغة المتفوقة، ولتكن الفرنسية أو الإنكليزية على سبيل المثال، أصبحت سمة مصاحبة للثقافة والفكر والقوة، إلى درجة أن الشخص المثقف في المجتمع المديني، أو الحاصل على مستوى تعليمي عال ولا يتحدث باللغة الإنكليزية يُنظر إليه بشيء من الانتقاص، وربما يمارَس ضده الإقصاء”. ويرى المؤلف أن من أعراض مرض التمدن ما يصاحب نفسية الناطقين بغير لغتهم القومية لأسباب عدة، “كالخوف من السخرية أو الخجل أو إخفاء الانتماء القومي أو ذهنية التظاهر التي تغلب على بعض النخب”. التلوث السائل
يردُّ المؤلف في الفصل السابع، “تراجيديات العنف الحضري والتلوث السائل”، جزءًا من التلوث البصري إلى أسباب معرفية قبل أن تكون ذوقية، فـ “التلوث المعماري المنتشر، والمعمم اليوم، ما هو إلا نتيجة لما يسمّيه رفعت الجادرجي ’الإقحام الشكلي الفاسد‘، وهو عنوان تردّي ثقافة العمران في المجتمع بأسره؛ فمن بين أهم أسباب انتشار هذا التلوث، جهل المؤدين المصنعين والمصممين والمتلقين العلاقة الجدلية البنيوية بين المادة والشكليات المتوافقة مع خصائصها، جهلًا معرفيًا وحدسيًا، وقد عمَّ هذا الجهل، لا بين الطبقات العامة فحسب، بل كذلك بين غالب المتعلمين، وبينهم المعمار الأكاديمي، وبقدر ما يعم هذا الجهل قادة المجتمع، كرجال السلطة واللاهوت والتجارة مثلًا، يعم انتشار التلوث ويتفاقم، وبهذا القدر نفسه يفسد الذوق”. ويضيف إلى ذلك المؤلف قوله: “التلوث البصري هو نتاج فساد بصري يُورث أمراضًا بصرية هي جزء من أعراض مرض التمدن التي تُضاعف اضطراباتنا النفسية والعصبية، وتؤشر على انحدار حاد في الذوق العام”. وفي خاتمة بعنوان “استعادة الأمل”، يرى المؤلف أن الأنساق العمرانية هي أنساق سيميائية ذات بُعد ثقافي بالدرجة الأولى، أي إنها تحيل إلى الإنسان وثقافته في أخص خصوصياته، وهي حين تنتقل من دون وعي من سياق حضاري إلى آخر توزع استبدادها وقهرها على الذين انساقوا في لحظة انزلاق حضاري إلى ومضة علامة يجهلون عواقب تبنيها. المصدر : المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مدار الساعة ـ نشر في 2021/04/10 الساعة 12:50