التسخير الرباني لآدم عليه السلام قبيل الهبوط إلى مكان خلافته
مدار الساعة - هيأ الله آدم للأرض قبلَ أن يهبط إليها، فإنه لما كانت الحياة على هذا الكوكب الجديد كوكب الأرض تقتضي معرفة أحواله وماضيه، وكيفية التعامل معه وأساليب العيش والأكل والشرب والزراعة والعمل، والطبخ وطرائقه، والسعي في الأرض بما يقيم حياة الإنسان، ويحقق مبدأ الخلافة فيها وعمارتها، فقد هيأ الله سبحانه وتعالى لآدم ذلك كله. وكان أول ذلك ومبدأه تعليمه أسماء الأشياء الواردة في قوله تعالى: ﴿وَعَلَّمَ ءَادَمَ ٱلۡأَسۡمَآءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمۡ عَلَى ٱلۡمَلَٰٓئِكَةِ فَقَالَ أَنۢبُِٔونِي بِأَسۡمَآءِ هَٰٓؤُلَآءِ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ﴾ [البقرة: 31]. ويدخل من ضمن المقصود بذلك أسماء الأشياء والمخلوقات وأسماء الأفعال كالقيام والقعود والحركة والسكون وغير ذلك وكان ذلك إشارة واضحة إلى أن آدم هو المنوط به عمارة الأرض والإقامة فيها. جاء في تفسير ابن كثير: عن أبي موسى قال: إن الله حين أهبط آدم من الجنة إلى الأرض علَّمه صنعة كل شيء، وزوده من ثمار الجنة فثماركم هذه من ثمار الجنة، غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
إن آدم عليه السلام هو أصل البشرية الذي بثَّ الله منه الناس، فتكاثرت ذريته وانتشرت في الأرض كما قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡس وَٰحِدَة وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالا كَثِيرا وَنِسَآء﴾ [النساء: 1]. وذرأ منهما-أي من آدم وحواء-رجالاً كثيراً ونساء ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف أصنافهم وألسنتهم وألوانهم ولغاتهم، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر. وهذا يؤكد حقيقة الوجود البشري على الأرض بخلاف ما تفتريه النظريات الغربية الإلحادية التي تنفي هذه البداية، وتنطلق من مادية الكون، ومبدأ الصدفة الساقط عملياً وواقعياً، والمتناقض مع العقل والفطرة، لاسيما نظرية دارون التي تفترض تسلسل الخلق بطريقة تعسفية متناقضة.
إن الذين يقولون إن الخلق تمَّ صدفة، ويتم بالصدفة هم جاهلون بحقيقة العلم، وفي جوهر الإيمان، أيُّ صدفة تلك التي تملك القدرة على خلق بويضة من مبيض المرأة تنزل إلى الرحم في وقت لا يعلمه إلا الله وحده؟
ومن ثم يأتيها الإخصاب من حيوان منوي خلقه الله تعالى ضمن ملايين الحيوانات المنوية في الكيس الحامل لهذه الحيوانات بالجهاز التناسلي للرجل ثم يحدث الإخصاب وتكوين العلقة؛ فالمضغة وكساء العظم لحماً، ثم إنشاء الإنسان، ليولد ليكون من الميلاد ذكراً أو أنثى، ومن ثم شعوباً وقبائل، لذلك لا يمكن أن تكون صدفة، لأن الصدف لا نظام لها. وبالنسبة لخلق الإنسان، فله نظام حكيم وضعه إله قادر خالق قدر لكل خلق زماناً ومكاناً وهدفاً. إنه يخلق على هدى وعلى قدر، إن الإحصاء المادي هو دليل إيمان بالله تعالى إن التعداد السكاني يزداد، ولو أردنا معرفة تعداد سكان الأرض في القرنِ السابق لوجدناهم أقل بكثير من زماننا هذا، ولو عدنا إلى الوراء لأكثر من قرن لوجدنا التعداد ينقص أكثر، ولو استمرت عملية قياس السكان بالقياس إلى الأزمان الماضية فلا بدَّ أن نصل إلى آدم وحواء ليثبت صدق قوله تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيۡءٍ خَلَقۡنَا زَوۡجَيۡنِ لَعَلَّكُمۡ تَذَكَّرُونَ﴾ [الذاريات: 49]، هذا من أمر خلق آدم وحواء.
1- الأرض منزلنا الكبير:
الأرض كل الأرض لبني الإنسان ولذرية آدم عليه السلام، انتقلوا فيها ومشوا في مناكبها وضربوا طولاً وعرضاً حيث شاءوا، ولكنا نرى الإنسان ينحرف عن هدايات الله عز وجل، يظلم ويفسد ويضع الحدود (قديماً وحديثاً).
لماذا صنعنا التعقيدات في السفر والتنقل والترحال؟ ولماذا عوقنا اتصال البشر بعضهم ببعض، إلا ما كان تنظيماً تقتضيه المصلحة الظاهرة والضرورة القاهرة!
2 – الأرض ليست لنا وحدنا:
لنا شركاء فيها ذوي أرواح تتحرك وتحس مثلنا وتحيا وتموت وتتضمنها معنا بعض الأحكام الفقهية والتشريعات الربانية، حين هبط آدم كانت الطيور والحيوانات والديناصورات، والله أعلم، قد سبقته إلى الأرض، وقد عرفها وعرف أسمائها وتعامل معها وفق توجيه الله له، وعرف تحريم إيذائها أو التحريش بينها أو استهدافها لغير حاجة ومن بعده عاتب الله أحد أنبيائه على قتل نملة بوحي من السماء، وجعل في شريعة خاتم الرسل أن المرء قد يدخل الجنة في كلبٍ سقاه أو يدخل النار في هرٍ حبسه
كيف يمكن تغيير مشاعري الجامدة نحو الأرض التي أسكنها؟ وإني أحب بيتي وسكني الخاص، وكيف لي أن لا أحب أرضي!؟ ورسول الله يقول: أحدٌ جبل نحبه ويحبنا[1]، هو شعور دفءٍ وحميمة حتى مع الصخر.
كان عمر (رضي الله عنه) يُقَبّلَ الحجر الأسود، ويخاطبه فيقول: إني أعلم أنك حجر لا تضرُّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت النبي (صلى الله عليه وسلم) يُقبلك ما قبلتك.
كيف نضفي شيئا من الروح والوجدان على أرضنا ومنزلنا الكبير ونحقق العبودية الشاملة لله عز وجل فيها قبل الرحيل منها؟
أينما كنت تذَّكر أنك في مملكتك وأنَّ من حولك يمتُّون إليك بسبب ونسب فبادر بالوصل والابتسامة، والكلمة الطيبة والعمل الطوعي، والإحسان ولو بالقليل، كما فعل موسى عليه السلام حين ورَدَ ماء مدين ولا تحجب عنهم هدىً دلك الله عليه، وخيراً أرشدك الله إليه، فوالله لأن يهدي بك الله أحد لهو خير لك من الدنيا وما فيها، ومن أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعا.
حياتنا في منزلنا الكبير -الأرض-فيها الحرث والبناء والإعمار والصنيعة والتناسل والمعرفة، منحنا الله عز وجل أعماراً يتذكر فيها من تذّكر وجعلَ للفرد أجلاً وللأمة والدولة أجلاً لا يتقدم ولا يتأخر، فنحن البشر أساس الحضارة والتشييد والحضارة تقوم لتنفعنا وتعطينا وتُسَّهل عيشنا لا لتقتلنا وتفنينا.
غرس الله في فطرتنا حب منزلنا الكبير الأرض وحب الحياة، ورزقنا القدرة على التعلم وكسب المعرفة ومقاسات التجربة وتحصيل الخبرة. وطلب الله من الإنسان الإعمار والبناء على سبيل الوجوب، كبناء المساجد والمرافق الضرورية ومالا يتحقق للإنسان العيش والخصوصية والستر إلا به، أو على سبيل الاستحباب فيما يسهل على الناس تحقيق مصالحهم الدنيوية والأخروية من الأبنية والطرقات والجسور وسواها. أو على الإباحة ككل بناء لا نص على تحريمه أو إسراف فيه.
طلب منا الله عز وجل الإعمار المادي الذي يكفل حق الطريق حساً ومعنىً، وحق الخصوصية ألا تنتهك، وحق الصحة، كما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة بجوار المسجد لتمريض سعد بن معاذ. وقد بينت الشريعة الحقوق المتعددة، ومنها:
– حق الجزية: حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه.
– حق الأمن: من أصبح أمناً في سربه معافى في جسده عنده طعام يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها.
– حق الجوار: مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه.
– حق الجمال: حتى يحاكي الإنسان في الأرض صورة الجمال الذي رآه آدم في الجنة وحكاه الوحي من الخضرة والماء والغرف وغيرها.
– حق العلم: بما هو أجمل وأكمل وأوسع وأعظم والعلم موهبة زوَّد الله بها آدم عليه السلام، لذا خاطبه الشيطان وأغراه بالخلود والملك العريض.
– حق العدل بين الناس: فالأرض وُضعت للأنام، وتسلط الجبارين المتكبرين على مواقعها الجميلة، وتركهم الضعفاء للعشوائيات والبلدان الفقيرة والنامية مع نهب ثرواتها وتركها فريسة للمرض والجوع والجهل، هو مما نها عنه الله وأنكره عليهم، فقال تعالى: ﴿وَسَكَنتُمۡ فِي مَسَٰكِنِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَيَّنَ لَكُمۡ كَيۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ﴾ [إبراهيم: 45].
المؤمن متنقل بين فضل الله في الضرب في الأرض وبين رحمته في التعبد والخشوع، وهو يقول في دعائه: ﴿يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي ٱلدُّنۡيَا حَسَنَة وَفِي ٱلۡأٓخِرَةِ حَسَنَة وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ﴾ [البقرة: 201]. وهو مؤتمن على هذا الكوكب البهي حفاظاً على سلامته وأمنه وعلى جماله وزينته وعلى نظافته وطيبه ولم لا وهو صادر عن الرب الكريم.