لماذا بعث الله الأنبياء وأرسل الرسل؟
مدار الساعة - علي الصلابي
إنَّ الخلق بحاجة الرسل ليبلّغوهم ما يُحبّه الله ويرضاه، وما يغضب منه ويأباه، وكثير من العصاة والمنحرفين ضلّوا في متاهات الشقاوة، هذا مع وجود الأنبياء عليهم السلام، فكيف تكون الحال لو لم يُرسل الله تعالى رسلاً مبشرين ومنذرين.
فالرسل بُعثوا يُهذّبون العباد، ويُخرجونهم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ويُحرّرونهم من رقّ عبودية المخلوق، إلى حرية عبادة رب الأرباب الذي أوجدهم من العدم، وسيفنيهم بعد الوجود، ويبعثهم بعد الفناء، ليكونوا إما أشقياء، وإما سعداء.
ولو تُرك الناس هملاً دون إنذار وتخويف، لعاشوا عيشة ضنكاً، في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وعادات منحرفة، وأخلاق فاسدة، وأصبحت الحياة مجتمعُ غاب، القويّ فيهم يأكل الضعيف، والشريف فيهم يذلّ الوضيع، وهكذا.. فاقتضت حكمته جلّ وعلا ألا يخلق عباده سُدى، ولا يتركهم هملاً، قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً﴾ (القيامة: 36).
ومن رحمته جلّ وعلا بهم، أن منّ عليهم إذ بعث فيهم رسلاً مبشرين ومنذرين يتلون عليهم آيات ربهم، ويُعلّمونهم ما يصلحهم، ويُرشدونهم إلى مصدر سعادتهم في الدنيا والآخرة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين.
أ- إنّ الغاية العظمى التي أوجد الله الخلق لأجلها هي عبادته، وتوحيده، وفعل محابّه، واجتناب مساخطه:
قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذاريات، 56)، فلا يستطيع الإنسان أن يعرف حقيقة العبادة؛ من فعل ما يُحبّه الله ويرضاه، وترك ما يكرهه الله ويأباه، إلا عن طريق الرسل الذين اصطفاهم الله من خلقه، وفضّلهم على العالمين، وجعلهم مبرّئين من كلّ عيب مشين، وكلّ خلق معيب، وأيّدهم بالمعجزات والحجج والبراهين، وأنزل عليهم البيّنات والهدى، وعرّفهم به، وأمرهم أن يدعوا الناس إلى عبادته وحده حقّ العبادة.
ب- إقامة الحجة على البشر بإرسال الرسل:
– كما قال تعالى: ﴿رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً﴾ (النساء، 165).
– قال تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (الإسراء، 15).
– قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى﴾ (طه، 134).
فالله سبحانه وتعالى أرسل الرسل؛ ليقطع دابر الكافرين، فلا يعتذروا عن كفرهم بعدم مجيء النذير، وليعلم علم ظهور، وإلا فهو تعالى يعلم -بالعلم الأزلي- من يطيعه ممن يعصيه، وليقيم على عباده الحجة الدامغة، فيحيى من حيَّ عن بيّنة، ويهلك من هلك عن بيان وبرهان.
ج- إنَّ الناس لا يدركون بعقولهم كثيراً من الغائبات، فهم بحاجة لمن يعلمهم ذلك:
لا يعرف الناس الغائبات ولا يدركونها، مثل معرفة أسماء الله وصفاته، ومعرفة الملائكة والجن والشياطين، ومعرفة ما أعدّ الله للطائعين في دار رضوانه وكرامته، وما أعدّ للعاصين في دار سخطه وإهانته، لذا فإنّ حاجتهم إلى من يعلّمهم هذه الحقائق، ويُطلعهم على هذه المغيّبات ضرورية.
وقد امتدح الله تعالى عباده الذين يؤمنون بالغيب، فقال تعالى: ﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ﴾ (البقرة، 13)، فلو لم يبعث الله الرسل، لما عرف الناس هذه الأمور الغيبية، ولما آمنوا إلا بما يُدركونه بحواسّهم، فسبحان الخلّاق العليم الذي منّ على عباده ببعثة الأنبياء والمرسلين.
د- الخلق بحاجة إلى القدوة الحسنة، ممن كمّلهم الله بالأخلاق الفاضلة، وعصمهم من الشبهات والشهوات النازلة:
إنّ الأنبياء هم نبراس الهدى، ومصابيح الدجى، يقتدي بهم الخلق، ويتخذون من سيرتهم وحياتهم قدوة يسيرون على منوالهم حتى يصلوا إلى دار السلام، ويحطّوا رحالهم في ساحة ربّ الأنام.
فالرسل هم قدوة الأتباع، والأسوة الحسنة لمن أطاع، في العبادات، والأخلاق، والمعاملات، والاستقامة على دين الله. قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً﴾ (الأحزاب، 21).
هـ – الرسل عليهم السلام جاءوا لإصلاح النفوس، وتزكيتها، وتطهيرها، وتحذيرها من كلّ ما يُرديها:
لقد بُعثوا لدلالة الخلق على الطريق المستقيم، وإرشادهم إلى المنهج القويم وتوجيههم نحو الأخلاق الحميدة، وتنفيرهم من المساوئ الذميمة. قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (الجمعة، 2).
وقد أوضح ابن تيمية حاجة العباد إلى بعثة المرسلين في مواضع شتى من كتبه. فمن ذلك قوله: والرسالة ضرورية للعباد، لا بدّ لهم منها، وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كلّ شيء، والرسالة روح العالم، ونوره، وحياته، فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور، والدنيا مظلمة ملعونة إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة. وكذلك العبد ما لم تُشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها، فهو في ظلمة، وهو من الأموات. قال تعالى: ﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا﴾ (الأنعام، 122)، فهذا وصف المؤمن، كان ميتاً في ظلمة الجهل، فأحياه الله بروح الرسالة ونور الإيمان، وجعل له نوراً يمشي به في الناس، وأما الكافر فميِّت القلب في الظلمات.
وقال ابن تيمية: “والرسالة ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة، فإنّ الإنسان مضطر إلى الشرع، فإنه بين حركتين، حركة يجلب بها ما ينفعه، وحركة يدفع بها ما يضرّه، والشرع هو النور الذي يُبيِّن ما ينفعه وما يضرّه، والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه الذي من دخله كان آمناً. وليس المراد بالشرع التمييز بين الضارّ والنافع بالحسّ، فإن ذلك يحصل للحيوانات العجم، فإن الحمار والجمل يميّز بين الشعير والتراب، بل التمييز بين الأفعال التي تضرّ فاعلها في معاشه ومعاده، كنفع الإيمان والتوحيد والعدل والبر والتصديق والإحسان والأمانة والعفة والشجاعة والحلم والصبر والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وصلة الأرحام، وبرّ الوالدين، والإحسان إلى المماليك والجار، وأداء الحقوق، وإخلاص العمل لله، والتوكل عليه، والاستعانة به، والرضا بمواقع القدر به، والتسليم لحكمه، والانقياد لأمره، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وخشيته في الغيب والشهادة، والتقرب إليه بأداء فرائضه واجتناب محارمه واحتساب الثواب عنده، وتصديقه، وتصديق رسله في كل ما أخبروا به، وطاعته في كل ما أمروا به، مما هو نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته، وفي ضد ذلك شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته.
ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، فمن أعظم نعم الله على عباده وأشرف منة عليهم أن أرسل إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، وبيَّن لهم الصراط المستقيم، ولولا ذلك لكانوا بمنزلة الأنعام والبهائم، بل أشرّ حالاً منها، فمن قبِل رسالة الله واستقام عليها، فهو من خير البرية، ومن ردَّها وخرج عنها فهو من شرّ البرية، وأسوأ حالاً من الكلب والخنزير والحيوان البهيم.
إن حاجة الناس إلى الرسل لا تماثلها حاجة، واضطرارهم إلى بعثتهم لا تفوقها ضرورة، فهم في أشد حاجة، وأعظم ضرورة، وهذا ما وضّحه ابن تيمية بقوله: وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسول كحاجتهم إلى الشمس والقمر والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب، بل أعظم من ذلك، وأشدّ حاجة من كلّ ما يقدّر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط بين الله وبين خلقه في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عباده.
فاضطرار العباد إلى المرسلين لا يُعادله اضطرار، وحاجتهم إلى المبشرين والمنذرين لا تماثلها حاجة.
وقال ابن قيم الجوزية: فإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح لا في الدنيا ولا في الآخرة إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل إلا من جهتهم، ولا يُنال رضى الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاؤوا به، فهم الميزان الراجح الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأخلاق والأعمال، وبمتابعتهم يتميّز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير، وما ظنّك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عين، فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء ووضع في المقلاة، فحال العبد عند مفارقة قلبه لما جاء به الرسل كهذه الحال، بل أعظم، ولكن لا يحسّ بهذا إلا قلب حيّ، “وما لجرحٍ بميتٍ إيلام” .
والرسل هم قادة للبشر يسيرون بهم على طريق الخير، ويهدونهم إلى سبيل الرشاد، ويجنبونهم سبل الغواية والضلال، وهم قدوة للناس في أخلاقهم وعبادتهم، وطريقة حياتهم، وقد أمر الله سبحانه باتباعهم والسير على طريقهم فقال: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام:90).