توثيق الحقوق في الإسلام
مدار الساعة - الوثيقة أو التوثيق في الأمر: هو ما يحكم به ويستند إليه لضمان الحق، وأساسه مستمد من كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة، ونجد أطول آية في القرآن الكريم آية الدين وما ذلك إلا لأهميتها الكبرى في حياة الأمة الاقتصادية والاجتماعية، ولا سيما في شأن المعاملات المالية. قال سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾ سورة البقرة[282].
قال أبو نصر السمرقندي رحمه الله:” إني لما رأيت كِتْبَة الوثائق مشروعة، وفيها أنواع من المصالح للعباد، أحدها وهي أعظمها طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فإن الله تعالى أنزل في الأمر بها أطول آية هي قوله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ﴾[1]
وكان من هدي الإسلام وجوب الوفاء بالعهد والميثاق وسواء في الأحوال الشخصية مثل النكاح وما يتعلق به أو في المعاملات كالبيع والشراء والقرض ونحوها، مما تتم بين الأفراد والجماعات، والدول، والهيئات والشركات بل وفي كل ما من شأنه الاستيثاق حتى ما بين الإنسان وربه من الميثاق.
وقد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت آية الدين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن أول من جحد آدم، عليه السلام، أن الله لما خلق آدم، مسح ظهره فأخرج منه ما هو ذارئ إلى يوم القيامة، فجعل يعرض ذريته عليه، فرأى فيهم رجلا يزهر، فقال: أي رب، من هذا؟ قال: هو ابنك داود. قال: أي رب، كم عمره؟ قال: ستون عاما، قال: رب زد في عمره، قال: لا إلا أن أزيده من عمرك وكان عمر آدم ألف سنة، فزاده أربعين عاما، فكتب عليه بذلك كتابا وأشهد عليه الملائكة، فلما احتضر آدم وأتته الملائكة قال: إنه قد بقي من عمري أربعون عاما، فقيل له: إنك قد وهبتها لابنك داود. قال: ما فعلت. فأبرز الله عليه الكتاب، وأشهد عليه الملائكة”.[1]
ويقول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله أثناء ذكره الفوائد المستفادة من آية الدّين: ومنها:” مشروعية الوثيقة بالحقوق، وهي الرهون والضمانات التي تكفل للعبد حصوله حقه، سواء عامل براً أو فاجراً، أميناً أو خائناً فكم في الوثائق من حفظ حقوق، وانقطاع منازعات.”[3]
وسيرة الرسول عليه الصلاة والسلام الصحيحة طافحة بتوثيق كثير من المعاملات وخاصة ذات خطر منها، ككتابته عليه الصلاة والسلام لتميم الدارى وأصحابه وقد روي ذلك من طرق متعددة تثبت صحة الكتابة، ومن نصها: “بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أنطى محمد رسول الله لتميم الداري وأصحابه، إني أطيتكم عين حبرون والرطوم وبيت إبراهيم بدمنهم وجميع ما فيهم نطية بتة ونفذت وسلمت ذلك لهم ولأعقابهم من بعدهم أبد الأبد، فمن آذاهم فيها آذاه الله، شهد أبو بكر بن أبي قحافة وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان”. [4]
وكذا ديدان الصحابة رضي الله عنهم جار على هذا المنوال واستفاض ذلك في سيرهم، وقد انعقد إجماع الأمة الإسلامية العملي عليه حتى يوم الناس هذا، وأصبح أمر التوثيق من المعلوم في الدين بالضرورة.
وسائل التوثيق
ومن تدبر نصوص الوحيين وتأمل أقوال أهل العلم بالفقه يلاحظ أن حقيقة التوثيق لا تكاد تخلو من مقاصد ثلاثة أساسية:
- التوثيق يراد به متانة الحق: مثل الإقرار والكتابة والبينة، وكل هذه الوسائل تؤكد ثبوت الحق لصاحبه تفاديا لجحد ونحوه.
- التوثيق يراد به حماية الحق في الذمة: مثل الرهن والضمان والكفالة، بحيث يتمكن استفاء الحق عن طريق هذه الوسائل عند العجز.
- التوثيق يراد به إحقاق الحق لصاحبه: مثل الحجر والحبس ونحوهما، ومثل هذا النوع يرجع إليه في آخر المطاف لاستفاء الحق.
حكم التوثيق
قد يعتري التوثيق بعض أحكام التكليف الخمس فيكون واجبا حتما مثل توثيق الزواج بشهود[5] أو ما يرثه الإنسان من التركة أو في البيع والشراء، وعندما يخشى من التقاطع والتنازع والخصوم الذي قد يؤدي إلى أكل أموال الناس بالباطل، وفي مثل هذا الحال يتعين التوثيق سدا للذريعة.
يقول الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله في تفسير آية المداينة:” أمره تعالى بكتابة الديون. وهذا الأمر قد يجب، إذا وجب حفظ الحق، كالذي للعبد عليه ولاية، كأموال اليتامى، والأوقاف، والوكلاء، والأمناء.[6]
وقد يحرم التوثيق إذا كان في أمر محرم كبيع الخمر أو في كل ما يخالف الشرع.
وحاصله حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سألت أمي أبي بعض الموهبة لي من ماله، ثم بدا له، فوهبها لي. فقالت: لا أرضى حتى تشهد النبي صلى الله عليه وسلم فأخذ بيدي، وأنا غلام، فأتى بي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أمه بنت رواحة سألتني بعض الموهبة لهذا. قال: ” ألك ولد سواه ؟ ” قال: نعم. قال: فأراه قال: ” لا تشهدني على جَور” وقال أبو حريز عن الشعبي ” لا أشهد على جَور”[7].
ويفهم من الحديث تحريم الاستيثاق فيما ليس عليه أمر الدين من العقود بل يعتبر فاعل ذلك مرتكب الاثم، وإنما يكون التوثيق سائغا في كل أمر مشروع من المعاملات والعقود التى تعقد بين الناس.
وكذا يندب التوثيق في القليل من المعاملات – مما لا مشقة فيه- والكثير استجابة لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِه ﴾ سورة البقرة [282].
وكان ابن عمر رضي الله عنهما إذا باع بنقد أشهد، وإذا باع بنسيئة كتب وأشهد[8]
بل الواقع المشاهد يدعو إلى تأكيد توثيق المعاملات نظرا لفساد الأخلاق وقلة الأمانة ونكران الحقوق ونحوها، ولا يليق بالناس أن يستنكفوا من أمر التوثيق.
الآثار المترتبة على التوثيق
للتوثيق آثار كثيرة، وكان من أهمها صيانة الحقوق لأربابها وإثباتها عند التجاحد. وقد يترتب عليه بعض الآثار التبعية، ومن ذلك:
أ – منع تصرف الراهن في المرهون ببيع أو إجارة أو هبة، ويعتبر تصرفا باطلا؛ لأنه – كما يقول ابن قدامة – تصرف يبطل حق المرتهن من الوثيقة غير مبني على التغليب والسراية فلم يصح بغير إذن المرتهن.
ب – ثبوت ولاية مطالبة الكفيل بما على الأصيل، فيطالب الكفيل بالدين بدين واجب على الأصيل، ويطالب الكفيل بالنفس بإحضار المكفول بنفسه إن لم يكن غائبا، وإن كان غائبا يؤخر الكفيل إلى مدة يمكنه إحضاره فيها فإن لم يحضر في المدة ولم يظهر عجزه للقاضي حبسه إلى أن يظهر عجزه له.
ج – ثبوت ولاية مطالبة الكفيل الأصيل إذا كانت الكفالة بأمره وأدى الكفيل ما على الأصيل.
د – بيع المرهون في الرهن إذا عجز من كان عليه الدين عن وفائه”.[9]
فهذه الآثار تدعو لطمأنينة القلب وللثقة التامة بعدم ضياع الحقوق لأربابها، ومعلوم أن توثيق المعاملات يحقق المصلحة العامة في المجتمع إذ يشجع الناس على مساعدة الآخرين في مقابل ضمان حقوقهم، وخاصة في عقود التوثيقات كالرهن والضمان والكفالة والحوالة.