جودت المحيسن يمضي بصمت
بالرغم من أن الموت حق ومن غير المحتمل ان ينجو احدنا من المنية ان دنت الا ان خسارة البعض لا تعوض فمع رحيلهم تشعر بان الزمن قد تغير فعلا وان العالم اقل أُنسا واكثر وحشة. اليوم انتابني هذا الشعور وانا أطالع نبأ رحيل اقدم نواب الاردن الاحياء واكثر الرجال الذين عرفتهم صدقا وصمتا وسكينة. لقد فجعني خبر رحيل الرجل الذي كان موضع حبي واحترامي وتقديري. كنت اسعد كلما سنحت لي فرصة اللقاء به او النجاح في اقناعه بان يقول لي شيئا عن الماضي الذي يعي ادق تفصيلاته ويعرف طباع اللاعبين ومزاياهم وبعض نكاياتهم.
لقد حاولت مرارا ان احرضه على ان يكتب مذكراته او يلقي محاضرة يتحدث فيها عن تفاصيل مسيرة بلدنا خصوصا في الايام التي كان فيها صوتا عاليا من اصوات الشعب الداعية الى مزيد من الحريات ومشاركة المرأة والمواطنة المتساوية البعيدة عن الشللية والمحاصصة.
قلة هم الرجال الذين لم تبدلهم الايام وجودت المحيسن كان احدهم وربما اكثرهم تجسيدا لصورة السياسي الملتزم بالقيم والاخلاق التي نشأ عليها جيل الثوار والمناضلين فلا مواربة ولا تجميل للمواقف التي لا تتفق مع المنطق والمصلحة العامة. كالعديد من رجالات الاردن الاوائل بقي العم والشيخ والحكيم ابو اكرم نموذجا يذكرنا بما ينبغي ان يكون عليه المواطن ورجل الدولة الحقيقي يعرف الاشياء بقلبه واحساسه ولا تغره المظاهر ولا يحرص على ارضاء هذا او استمالة ذاك.
كاحد ابناء عائلة المحيسن التي تناوبت على تمثيل قضاء الطفيلة منذ نشأة الدولة في مجالس النواب ترشح المرحوم جودت المحيسن الى المقعد النيابي عن الطفيلة وفاز به في العام 1954 وفي اكثر مراحل الحياة السياسية الاردنية اثارة ووعيا. لقد جاء ترشح الشاب الحقوقي الذي مارس العمل في العديد من المواقع الحكومية لينتقل من دائرة التفكير والتنظير الى دائرة العمل والتأثير فاصبح نائبا مميزا وفاعلا له رأي في كل ما يطرح دون مقايضة او اشتراطات.
قبل ان ينخرط المرحوم في العمل النيابي كان قد تحصل على درجة الليسانس في القانون من جامعة دمشق وشارك رفاقه العرب احلامهم ليتشبع فكره وروحه بالاحلام القومية التي راودت الشباب العربي في تلك الحقبة. ولانه صوت صادق رجولي نقي ترشح مرة اخرى بعدما حل المجلس ودعي لانتخابات جديدة في 1956 ليفوز ويشارك في امواج الحياة السياسية التي سجلها التاريخ السياسي ذلك العام.
في الطفيلة التي ظل اهلها يستذكرون ارواح شهدائهم واسهامات آبائهم في بناء الوطن وتأسيس الدولة والذود عن وجودها وكيانها يحظى المرحوم وقبله رجالات هذا الجزء العزيز من الاردن من امثال مصطفى باشا المحيسن وذياب وصالح العوران ومحمد بن بطاح المحيسن وفرحان الشبيلات بتقدير عميق لم تسهم في التخفيف منه الايام ولا الظروف .
الشيخ جودت موسى المحيسن احد اعمدة الطفيلة ورجالات الاردن يرحل عن الدنيا بعد ان اعطى لبلاده ولمحافظته الهاشمية والامة والاجيال الكثير. على مدى اكثر من تسعة عقود بقي ابو اكرم مخلصا لمبادئه وملتزما بقوانين وتقاليد صارمة فهولا يجيد التملق ولا ينصت للاصوات المدعية التي تنسب لنفسها الكثير من الاعمال والانجازات.
الرحمة لروحك يا صديقي وآسف انني لم اتمكن من مشاهدتك قبل الرحيل.
الغد