الوزير السابق امين محمود يكتب: مشروع الاستيطان اليهودي في قبرص
كتب: الـوزير السابـق اميـن محمـود
يعود اهتمام اليهود باستيطان جزيرة قبرص الى عام ١٨٧٨ حينما قامت بريطانيا باحتلال الجزيرة واخضاعها لادارتها بالرغم من بقاىها تابعة اسميا للسلطنة العثمانية ، ففي ذلك العام كتبت صحيفة الجويش كرونيكل Jewish Chronicle مقالا اشارت فيه متسائلة الى انه طالما ان قبرص كانت فيما مضى مقرا لجالية يهودية مزدهرة ، فما الذي يمنع من تكرار ذلك ? وها هي الان موضع اهتمام ليهود سورية الكبرى ( بما فيها فلسطين ) ، اذ يرغب الكثيرون منهم للهجرة اليها نظرا لقناعتهم بما تقدمه من اغراءات معيشية واستثمارية تماما كتلك الاغراءات التي سبق وقدمتها لليهود القدامى ، فهي تبعد مسافة يوم واحد في البحر عن *ارض الميعاد *، اضافة الى انها - في نظرهم - تتيح لهم الفرصة من جديد كي يعيشوا في ظل اجواء متسامحة ومشابهة لتلك الاجواء التي نشاوا وتربوا عليها وذلك دون ان يكلفوا انفسهم مشقة الهجرة الى اصقاع ومناخات ناىية ويضطروا الى التخلي عن نهج حياتهم واسلوب معيشتهم ( نقلا عن. اسعد رزوق، اسرائيل الكبرى ، ص ١٥٧ ) .
وكان الهدف من وراء هذا المقال على ما يبدو ، ابراز العلاقة التاريخية بين قبرص واليهود واقناعهم بامكانية الاستيطان في قبرص من جديد كي تصبح.
بمثابة قاعدة تحت الحماية البريطانية ، ينطلق منها اليهود بعد تجميع قواهم البشرية وخاصة تلك الموجودة في اوروبا الشرقية للتغلغل في فلسطين فيما بعد والاستيلاء عليها .
وقد تجددت النداءات اليهودية ثانية للاستيطان في قبرص عام ١٨٩٥ وذلك حينما تازمت العلاقات بين مصالح بريطانيا والعثمانيين حول الجزيرة الى حد جعل الحكومة البريطانية تفكر في اخلاىها .
ففي خلال. هذه الفترة الصعبة ارتفعت اصوات في بريطانيا تدعو الى انشاء كيان استيطاني يهودي في قبرص يكون خاضعا للحماية البريطانية ويعمل في خدمة مصالح الامبراطورية في شرقي المتوسط .
وقد تزعم هذه الدعوة احد الصهاينة المتحمسين ويدعى ديفيد تريتش David Treitsh الذي اصبح فيما بعد من كبار اعضاء المنظمة الصهيونية العالمية واقترن اسمه بمشروع فلسطين الكبرى التي كانت بالنسبة له تضم اضافة الى فلسطين كلا من قبرص وشبه جزيرة سيناء ، وقد شارك في تحرير المجلة الشهرية الالمانية الشرق والغرب OST und Oest التي كانت تهتم بالامور المتعلقة باوضاع اليهود ، ثم قام عام ١٩٠٢ بتاسيس مجلة فلسطين Palastina الشهرية .
( لمزيد من المعلومات حول هذا الشخص انظر : Oscar Rabinowitz , A Jewish Cyprus Project ) .
لقيت فكرة الاستيطان اليهودي في قبرص في هذه الفترة صدى ايجابيا لدى الزعيم الصهيوني تيودور هرتزل ...*...فبينما كانت جزيرة قبرص موضع اهتمام تريتش * كما يقول رابينوفيتش : * كانت الفكرة نفسها تراود هرتزل على الرغم من الاف الاميال التي كانت تفصل بينهما * ( Rabinowitz , p. 5 ) . ففي اثناء زيارة هرتزل عام ١٨٩٦ اقترح عليه عزت العابد احد مستشاري السلطان عبد الحميد ان يبحث عن قطعة ارض اخرى غير فلسطين لتوطين اليهود فيها ، وكان رد فعل هرتزل كما دونه في مذكراته ان * قبرص كانت اول ما فكرت به * ( Herzl, Diaries, vol 1 ,383 ) .
وقبيل انعقاد الموتمر الصهيوني الاول عام ١٨٩٧ ، ارسل.تريتش يطلب من هرتزل بالحاح اثارة مسالة قبرص امام المؤتمرين ، غير ان الاخير طلب منه التريث لان * الوقت الحاضر غير مناسب للبحث في ذلك * .
ولم يمض عام على الطلب التي تقدم به تريتش حتى وجدنا هرتزل يعلن خلال الموتمر الصهيوني الثاني المنعقد عام ١٨٩٨ بانه بات من الضروري اعطاء الحركة الصهيونية اهدافا اقليمية قريبة المنال مع الاحتفاظ بفلسطين كهدف نهائي ، وقال هرتزل : * ان الجماهير اليهودية البائسة بامس الحاجة الى مساعدات عاجلة وتنشد اهدافا يسهل تحقيقها بسرعة ... ولذا فلربما تمكنا من مطالبة بريطانيا بمنحنا جزيرة قبرص لنستوطن فيها * ( ibid ) .
وفور انتهاء الموتمر اقترح هرتزل على تريتش ان يناقش موضوع الاستيطان اليهودي في قبرص مع المسؤولين في جمعية الاستعمار اليهودي التي كان قد اسسها البارون موريس دي هيرش عام ١٨٩١ في باريس ، وكان الهدف من انشائها هو تسهيل الهجرات اليهودية الوافدة من روسيا وغيرها من بلدان اوروبا الشرقية وتوطينهم في المستعمرات الزراعية المقامة على الاراضي التي اشترتها الجمعية وخاصة تلك الاراضي الواقعة في كل من كندا والولايات المتحدة والارجنتين والبرازيل . غير ان اراء تريتش لم تجد في البداية اذانا صاغية لدى المسؤولين في الجمعية ، فقام بعرض افكاره الداعية الى الاستيطان في قبرص على صفحات جريدة دي فيلت الناطقة باسم الحركة الصهيونية وذلك عشية انعقاد الموتمر الصهيوني الثالث حيث.اشار فيها الى ان * ظروف العمال اليهود الروس البائسة تستدعي ايجاد حل سريع وها هي ابواب قبرص مفتوحة لهم*.( Rabinowitz , p. 13 ) .
ويبدو ان دعوة تريتش وافكاره الاستيطانية قد وجدت المؤيدين اليها في اوساط الحركة الصهيونية وارتفعت اصوات تشير الى ان الحصول على قبرص يضمن للمهاجرين اليهود الحصول على الجنسية البريطانية ، وبالتالي يسهل عليهم الانتقال الى فلسطين متى ارادوا ذلك . ولم تتورع تلك الاصوات عن الاستناد الى التلمود مشيرة الى ان قبرص جزء لا يتجزا من *ارض الميعاد * الممتدة عبر فلسطين الكبرى . وكان يتزعم هذا الاتجاه رجل الدين اليهودي الالماني ارون ماركوس الذي سبق واقترح على هرتزل عام ١٨٩٦ تكوين جيش من متطوعي يهود اوروبا الشرقية للاستيلاء على اي بقعة استيطانية ضمن ارض الميعاد للبدء في توطين الهجرات اليهودية الوافدة من روسيا واوروبا الشرقية .
وقد استغل تريتش فرصة انعقاد الموتمر الصهيوني الثالث عام ١٨٩٩ ليطرح من جديد مسالة الاستيطان في قبرص .
وقد تهيات له الفرصة لذلك لدى مناقشة نشاطات المصرف اليهودي في فلسطين وسوريا ، فاشار تريتش الى ان ادخال سوريا ضمن نشاطات المصرف يشكل تعديلا لما سبق ان اقره الموتمر الصهيوني الاول في هذا الصدد، اذ قال : * ان استعمالنا تعبير سوريا وفلسطين يشير الى ادراكنا الفطري ان المقصود بهذا التعبير هو ارض الميعاد او فلسطين الكبرى ... وكما يقولون اليابسة تفرق اما البحار فتوحد ، ولا شك انكم الان تعرفون انني افكر في قبرص * ( Rabinowitz , p. 15 ) . غير ان تريتش ما لبث ان جوبه مشروعه بمعارضة من العديد من اعضاء الموتمر ، وذلك بحجة ان البدء في استيطان قبرص قد يضع العراقيل لاحقا امام عملية الاستيطان في فلسطين .
ولكن تريتش لم يابه بذلك واستمر في مشروعه وتمكن بمساندة من هرتزل بتاليف لجنة في برلين ضمت عددا من كبار الصهاينة ، كان من بينهم ديفيد فولفزون David Wolffsohn ( يهودي ليتواني تولى رئاسة المنظمة الصهيونية بعد وفاة هرتزل وكان من اشد المتحمسين لمشروع فلسطين الكبرى ) واوتو فاربورغ Otto Warburg (يهودي الماني ساهم في تاسيس الجامعة العبرية وتولى ايضا رئاسة المنظمة الصهيونية خلال الفترة ١٩١١-١٩٢٠ ) ، وتم الاتفاق على ان يقوم تريتش بجولة في اوروبا الشرقية بينما يتجه فاربورغ الى قبرص ، على ان يلحق به تريتش بعد ان يكون قد جمع عددا كافيا من المتطوعين اليهود للهجرة الى الجزيرة .
وقد الح تريتش على هرتزل بانه ان الاوان للافصاح علنا عن حقيقة المشروع الاستيطاني للحركة الصهيونية الذي يشمل فلسطين وما جاورها من البلدان الممتدة من النيل الى الفرات بما فيها جزيرة قبرص ، وذلك لاستيعاب اكبر عدد ممكن من ابناء * الشعب اليهودي * ( Herzl, Diaries , vol 111 , p, 882 ) . ولكن هرتزل كان يدرك ان الاستجابة لنداء تريتش والكشف عن حجم الرقعة الاستيطانية التي تسعى الحركة الصهيونية للحصول عليها، سيثير العديد من المصاعب والتحديات من جانب الدولة العثمانية والسكان المحليين , اضافة الى ان التبني العلني لمقترح تريتش في هذه المرحلة والتوجه نحو استيطان قبرص قبل الاستحواذ على فلسطين سيثير عليه ايضا نقمة جماعة احباء صهيون الذين كانوا يعارضون اي مشروع استيطان يهودي بديلا عن فلسطين ، ولذا فان هرتزل اثر في هذه المرحلة اتباع اسلوب التاييد الضمني لمشروع قبرص حتى يتسنى له التغلب على العقبات التي تواجه البدء في تنفيذه.
وقد قام هرتزل عام ١٨٩٩ باتصالات شخصية مع بعض المسؤولين العثمانيين ليطلعهم فيها على اتجاه بعض الزعماء الصهاينة لعقد اتفاق مع بريطانيا بغية السماح لهم بالاستيطان في قبرص نظرا لتردد الدولة العثمانية في تلبية مطالب حركتهم الاستيطانية في فلسطين . ويبدو ان هرتزل كان يحاول من وراء هذه الاتصالات جس نبض العثمانيين لمعرفة رد فعلهم لموضوع الاستيطان اليهودي في قبرص خاصة وان الجزيرة كانت لا تزال تابعة لهم اسميا على الاقل .
وفي اواخر عام ١٨٩٩ لحق تريتش بفاربورغ للقيام بدراسة اوضاع الجزيرة ، ومعرفة قدرتها على استيعاب المهاجرين اليهود ، ولدى انتهائه من هذه الدراسة رفع مذكرة الى المندوب السامي البريطاني هناك ، عرض فيها ملخصا لافكاره ومشاريعه حول مستقبل الجزيرة ومدى الفاىدة التي تعود على بريطانيا من جراء السماح لليهود بالاستيطان فيها ، وطالب الحكومة البريطانية بتقديم جميع التسهيلات الممكنة لتحقيق هذا الغرض .
وقد حوت المذكرة مجموعة من الاقتراحات دارت حول حصول اليهود على امتيازات انشاء وتشغيل الخطوط الحديدية وامتياز استخراج الملح عن طريق استئجار البحيرات المالحة لقاء رسم رمزي . كما اشارت المذكرة الى مزايا زراعة التبغ ، وجدوى انشاء منتجعات صحية تصبح مقصدا للسياحة العلاجية مما يساهم في تدفق العواىد المادية والارباح للمساهمة في بناء اقتصاد قوي في الجزيرة .
وتحدثت المذكرة ايضا على انه فيما لو وافقت الحكومة البريطانية على مشروع الاستيطان اليهودي في قبرص فان رؤوس الاموال اليهودية ستتدفق على الجزيرة لتنفيذ جميع هذه المشاريع وغيرها . كما ركزت هذه المذكرة على اهمية الدور الذي بامكان هولاء المستوطنين القيام به لخدمة المصالح البريطانية وتعزيزها في منطقة شرق البحر المتوسط .
وقد اشار تريتش في مذكرة اخرى كان قد قدمها الى جمعية الاستعمار اليهودي بانه من الافضل عدم استيطان الجزيرة بكاملها خلال الفترة الاولى ، واقترح ان يتم التركيز بادىء الامر على النصف الشرقي من الجزيرة متخذين من خليج فماغوستا نقطة انطلاق لنشاطهم ، وذلك لان هذه المنطقة تعتبر من اخصب اجزاء الجزيرة واقلها استصلاحا في تلك الفترة .
وقد تمكن تريتش اخيرا من اقناع المسؤولين في الجمعية بان يتكفلوا بالانفاق على مجموعة يتفق عليها من متطوعي يهود رومانيا يفدون للجزيرة مع اسرهم وذلك للبدء بتجارب استيطانية فورية . ولكن فاربورغ اقترح على الجمعية الاكتفاء ببضع عشرات من المتطوعين فقط في هذه المرحلة لجس نبض السكان الاصليين في الجزيرة ومعرفة ما ستكون عليه ردود فعلهم .
غادر تريتش قبرص في منتصف ديسمبر عام ١٨٩٩ للقيام باتصالات واسعة مع كبار الراسماليين اليهود في محاولة منه لاقناعهم بالتخلي عن سياسة الحذر والترقب التي اتخذوها ازاء مشروع قبرص .
وقد نجح في اقناع ٢٥٠ متطوعا شابا مع اسرهم من يهود رومانيا وروسيا وذلك للتوجه الى قبرص كمجموعة اولى بهدف الاستيطان في الجزيرة على ان تليها مجموعات اخرى من المتطوعين اليهود كل بضعة شهور بحيث لا يسببون احراجا للحكومة البريطانية او الدولة العثمانية ولا ردود فعل معادية من اهل البلاد . غير ان هذه المحاولات الاستيطانية تعرضت لهجوم شديد من جانب جماعة احباء صهيون الذين تمكنوا من اقناع الراسماليين اليهود بوقف مساعداتهم المادية للمشروع واتهموا تريتش بالتغرير بالمهاجرين اليهود مما جعل هولاء يبدون تذمرهم وتخوفهم من انقطاع سبل المعيشة. امامهم ، فاضطر تريتش الى طرد هولاء المتذمرين تماما كما فعل فريدمان في مدين قبل ذلك بعشرة اعوام . وكان هذا ايذانا بفشل المحاولة الاولى للاستيطان اليهودي في قبرص وعاد المتطوعون اليهود من حيث جاءوا ( Rabinowitz p. 17 ) .
وبالرغم من فشل محاولة تريتش الاولى ، فان هرتزل لم يتخل نهائيا عن فكرة استعمار قبرص . ففي عام ١٩٠١ اخذ يقوم باتصالات مع الحكومة الالمانية بعد ان سرت اشاعات بان بريطانيا تنوي التخلي لالمانيا عن قبرص مقابل حصولها على بعض المستعمرات الالمانية في شرق افريقيا . وقد حاول هرتزل اقناع الحكومة الالمانية بالسماح لليهود بالاستيطان في قبرص تحت حمايتها اذا ما تم حصولها على قبرص .
وقد اشار هرتزل الى ذلك في مذكراته بقوله : * سوف نتجمع في قبرص ، وفي يوم من الايام سنذهب الى ارض اسرائيل وناخذها بالقوة ، وفيما لو انتقلت قبرص للنفوذ الالماني ، فسوف اعمل على تسوية المسالة عن طريق اقراننا المتنفذين من يهود المانيا ، وسوف اعلن للمؤتمر القادم عن مشروع قبرصي جديد ، ربما استطعت الحصول على دعم له من الراسماليين اليهود الكبار ... فقبرص ليست سوى مسافة خطوة من فلسطين ( Herzl , Diaries, p.1123 ) . وقد بين هرتزل المزايا التي يمكن لالمانيا الحصول عليها من جراء استيطان يهودي في قبرص ، حيث سيوفر المستوطنون لالمانيا قاعدة للتوسع الالماني في منطقة الشرق العربي ، بالاضافة الى استعدادهم للقيام بعمليات عسكرية وقت الضرورة للدفاع عن المصالح الالمانية في المنطقة ( ibid ) .
على ان حماس هرتزل لامكانية التعاون مع المانيا سرعان ما تلاشت بعد ان تبين له ان بريطانيا لن تتخلى عن الجزيرة ، ولذا فقد اتجه ثانية صوب لندن . ومما شجع هرتزل على القيام باتصالات جديدة مع الحكومة البريطانية اعلان ستين عضوا من اعضاء مجلس العموم عن تاييدهم للصهيونية. وقد اعتبر هرتزل هذا مؤشرا لتعاطف الراي العام البريطاني مع المسالة اليهودية . ولعل رغبة الانجليز في وقف هجرات يهود اوروبا الشرقية الى بلادهم هو الذي دفع غالبيتهم الى التعاطف مع الحركة الصهيونية املا في ان تتمكن هذه الحركة من ايجاد بقعة مناسبة تستقطب الهجرات اليهودية اليها ( Walter Laquer , A History of Zionism , p. 121 ) . وقد بدا هرتزل خلال عامي ١٩٠٢-١٩٠٣ القيام باتصالات دبلوماسية وسياسية للحصول من بريطانيا على براءة الاستيطان في قبرص وقد تمكن رىيس تحرير جريدة الجويش كرونيكل ليوبولد غرينبرغ Leopold Greenberg ، في الثاني والعشرين من اكتوبر عام ١٩٠٢ من ترتيب مقابلة بين هرتزل وجوزيف تشامبرلين وزير المستعمرات البريطاني الذي كان هرتزل يرى فيه الرجل الوحيد الذي كان باستطاعته مساعدته في توطين اليهود في احدى البقاع الاستيطانية ضمن الممتلكات البريطانية . وقد دار البحث في الاجتماع حول المخططات الصهيونية فيما يتعلق بقبرص والعريش وشبه جزيرة سيناء ، حيث ابدى تشامبرلين موافقته المبدئية على فكرة انشاء مستعمرة يهودية تتمتع بحكم ذاتي اما في قبرص واما في سيناء .
وبالنسبة لقبرص بالذات ابدى تشمبرلين تخوفه من نتاىج معارضة السكان القبارصة للمشروع الصهيوني ، لا سيما ان غالبية السكان من اليونان المسيحيين الذين ستتبنى قضيتهم لا محالة كل من اليونان وروسيا وستثيران مشاكل كبيرة لبريطانيا يصعب عليها مواجهتها بسهولة . وقد المح تشمبرلين ايضا الى ان حكومته المحافظة لا تستطيع احلال اليهود محل سكان مسيحيين لهم ارتباطات وثيقة بالعالم الاوروبي . ولذا فقد اقترح تشمبرلين على هرتزل تحديد بقعة اخرى من الممتلكات البريطانية * لا يوجد بها سكان مسيحيون بيض ، فعندئذ يمكن التحدث بشانها * . غير ان هرتزل استعمل خطة اخرى لاقناع تشمبرلين بالتخلي عن مخاوفه تجاه الوجود اليهودي في قبرص . وقد وصف هرتزل هذه الخطة في مذكراته بقوله : * ... نعمل على تكوين شركة براسمال كاف تغري المسيحيين القبارصة ببيع اراضيهم باسعار مرتفعة ويهاجرون بعدها الى اثينا او كريت او اي من الاراضي اليونانية . اما بالنسبة للمسلمين فسنضظرهم للرحيل ومغادرة الجزيرة نهائيا * (Herzl , Diaries , vol 1V ,p. 1361 ) . ( وهنا تبدو النظرة العنصرية والذهنية الاستعمارية على ابشع صورها ، اذ يفترض هرتزل ان القبارصة مسيحيين كانوا ام مسلمين سيهجرون ديارهم بمجرد التلويح لهم اما بالقوة واما بصرر المال ).،
ويقول هرتزل ايضا انه انه اقترح على تشمبرلين اخفاء اي اتفاق قد يتم بينهما حول قبرص خوفا من اية ردود فعلية سلبية قد تنشا ، * ... فليس كل شيء في السياسة يذاع على الملا ... النتاىج فقط ، او اي شيء يحدث وتكون ثمة فاىدة في اذاعته * ، واضاف هرتزل مشيرا الى ان * اكثر فصول المسرحية اثارة تلك التي تدور وراء الكواليس * . (Ibid ) . ويبدو ان تشمبرلين وافق على خطة هرتزل بالنسبة لقبرص ، ولكنه اشترط عليه التركيز اولا على بناء المستوطنات اليهودية في العريش وسيناء ، حتى اذا ما نجحت هذه التجربة وثبتت جديتها ، واذا ما ابدى السكان القبارصة اليونان حينها استعدادا للسماح لليهود بشراء جزء من اراضيهم لبناء مستوطنات يهودية شبيهة بغية انعاش الاقتصاد في جزيرتهم ، فان الحكومة البريطانية لن تمانع في ذلك .
ولدى تسرب انباء المقابلة بين تشمبرلين وهرتزل تحمس تريتش من جديد واخذ في مطلع عام ١٩٠٣ يقوم باتصالات مع المندوب السامي البريطاني في قبرص في محاولة منه لاقناعه بالسماح للمستوطنين اليهود بالتوجه من جديد لقبرص . وقدم له تريتش اقتراحا بتكوين شركة استثمارية يهودية تعمل على تطوير الجزيرة وانعاشها ، وتقوم هذه الشركة بارساء دعائم نهضة زراعية شاملة مقابل حصولها على قطعة مناسبة من الارض تستوطنها كفاءات يهودية عالية الخبرة تجلب معها الخير للجزيرة ( Rabinowitz , pp. 74-75 ) . ولكن المسؤولين البريطانيين اثروا على ما يبدو ان يكون اتصالهم مع هرتزل دون غيره .
والرد الوحيد الذي حصل عليه تريتش هو موافقة المندوب السامي البريطاني على السماح لليهود بشراء عدد محدود من الدونمات على ان يتم ذلك بشكل فردي لا جماعي . وهكذا ايقن تريتش ان لا جدوى في متابعة مشروع قبرص وراى من الافضل غض النظر عنه في تلك المرحلة ، واخذ بعدها يوجه مساعيه لدعم هرتزل في العمل من اجل بناء مستوطنات يهودية في منطقة العريش وسيناء .