ثانية واحدة من الحب!
مدار الساعة - لماذا يندر أن نجد أدبا سعيدا؟ سؤال يفرض نفسه بإلحاح وينتظر الإجابة.. هل الحزن جزء أصيل من نسيج هذا الكون؟ قدر على فرسان الأرض!! لماذا يبدو الندى وكأنه دموع؟ وتبكي السماء حين تجود بالمطر؟ وتحزن الشمس حزنها الكبير قبل الغروب؟ وتنطفئ المصابيح وتسرقنا العتمة وينسفنا الحزن ويعيد تشكيلنا من جديد.
الحب!! لماذا كلما وجدناه فقدناه؟ تذهب اللمسة الحانية.. ممن شاطرتك الحزن ومنحتك الأمان، بعدها تبكي الروح بكاء مستمرا حتى نستيقظ على دموعنا في الصباح..
باختصار: لماذا تفشل قصص الحب في معظم الأحيان؟ ونادرا ما نسمع عن قصة حب ناجحة.. هل العيب فينا أم في الحب، أم في عالم لا يتقبل وجودا روحيا خالصا؟
وهل نحن بحاجة إلى أن نتعلم معنى الحب من جديد؟ القيمة القصوى ليد تشتمل على كل ما في الكون من فرح؟
سؤال سأحاول إجابته من خلال قراءتي الخاصة لمجموعة أحمد بهجت القصصية “ثانية واحدة من الحب”.
نافذة مفتوحة
الكتابة الحميمة هي الدرس الأهم الذي تعلمته من أحمد بهجت.. أن يسمح الكاتب لقارئه بالاقتراب حتى يسمع صوت أنفاسه، يطل من نافذته المفتوحة على عالم الروح.. فيطالع لحظات ضعفه وأوقات تحيره.. قصص حبه، دموعه، هيامه وحسرته.
لم أقتنع أبدا بهؤلاء الجالسين على مقاعد عالية.. يرتدون ملابس السهرة كاملة وهم يكتبون، ويلقون -من عل- بالحكم والحلول الجاهزة.
مع أحمد بهجت تعرف على الفور قصته الحقيقية من فرط ما يثقل الحروف من ألم.. هذه القصة عن حبه الضائع.. هذا اليوم الذي كان يقود فيه سيارته شاعرا بكل الرضا في العالم، وهو يستمع إلى الموسيقى الخفيفة حتى كأنه يسبح وسط بحر دافئ في يوم من أيام الصيف الهنية.. على يمينه سيارة صغيرة وقديمة، لم يكد يراها حتى انقبض قلبه بعنف، واختلت عجلة القيادة في يده.
كانت هي: المرأة التي أحبها كما لم يحب رجل امرأة.. لم يكن ما يجمعهما صداقة أو عشقا أو تفاهما، بل كان (مريضا) بها على الدوام.
كانا معا يكوّنان ذرة واحدة خلقها الله، وأي خصام بينهما يعني تحطيم هذه الذرة، وتحطيم الذرة يؤدي للانفجار النووي والإشعاعات المهلكة، وهذا ما كان يحسه حين يبتعد عنها أو تهجره.
يذكر إحساسه بها حينما وقفا جوار النيل، كانت تبكي دون أن يعرف لماذا تبكي.. كان هذا هو لقاؤهما الثاني، وكانت تسمع اعترافه أنه مريض بها، وتصور أن بكاءها جزء كوني لازم للخليقة.. كانت كل دمعة من دموعها تغسل روحه وتطهره من كل خطاياه، وخطايا النوع الإنساني، بدءا من قتل قابيل لهابيل، وانتهاء بظلم الإنسان وامتهان آدميته.
في البدء تصور أنها استغرقت أجيالا طويلة لتولد.. كان يُخيّل إليه أن قدميها ولدتا في عصر حتحور، وتم إنشاء ساقيها الرخاميتين في عصور الدولة القديمة، ثم جاء الرومان واليونان فأضافوا لها ضلعا، ثم مسح المسيحيون وجهها بالزيت، وعطروا صدرها بالمر وخشب الصندل.. ثم تقاتل المماليك في أزقة القاهرة القديمة، وولد بعد قتالهم أطفال عديدون، كانت جدتها هي تلك البنت الخجول التي تلصق وجهها في ستائر المسجد هناك.
كيف يحب الرجل امرأة بهذا القدر وتطاوعها نفسها أن تتركه؟ سؤال كثيرا ما حيره، والحقيقة أن إجابته واضحة لكنه -مثل كل الحالمين- لم يفطن إليه.. هذا الحب كان حتما أن يفشل بسبب المشاعر غير المتكافئة بين رجل يشعر بحبيبته مثل نداء كوني، وامرأة لا ترقى ملكاتها الوجدانية لهذا النوع من الحب.. ملكة متوجة تريد أن تعمل خادمة، أو صورة في الحلم تريد دور دادة في الحياة!
اعتدنا أن يفشل الحب بسبب فتور المشاعر، أو تغير القلوب، لكن الرومانسية المفرطة قد تؤدي لنفس النتيجة.. ما أتعس امرأة يصر حبيبها أن يجعلها كاهنة في قدس الأقداس، بينما تريد هي أن تؤدي دورها في امتداد الحياة.. حياة واقعية مع دفء رجل، وبهجة أطفال، لا أن تصبح أسطورة بين صفحات كتاب!!
التطلع للاكتمال
وأحيانا يأتي الحب بعد موعده.. نتسوله طيلة عمرنا، ونبحث عنه في كل مكان.. ندق جميع أبواب المدينة، نطيل التحديق في الوجوه، ونرسل أرواحنا في المساء تتحسس كل الأرواح.. حتى إذا أغلق الأمل بابه، وارتفعت أعلام اليأس، ورمقنا غروب الشمس الأخير فوجئنا بالحب في غير الأوان.
في فندق (النعص) كان لقاؤه مع نصفه الآخر الذي تأخر طويلا.. كان قادما من دوامة العمل حتى سقط إلى الأرض والدنيا تدور حوله، قال له الطبيب:
– أنت تبذل مجهودا لا يبذله شاب في العشرين.. أنت في الأربعين الآن.. اترك كل شيء وسافر.. ابتعد عن زوجتك وأولادك وهمومك.
وها هو الآن يسكن في فندق (النعص) الذي يبعد عن بيروت مسافة ساعة في طريق جبلي صاعد.. في الصباح الباكر وقف في شرفة غرفته، وخيل إليه أنه يشهد أول شروق على وجه الأرض.. الأشجار عارية من الثمار، والربيع لم يبدأ حضوره بعد.. الضباب يبدو مثل فراء حول جسد امرأة.. والغابات شعر مجدول مغسول بالمسك، وحضور الصمت يملأ المكان.
قالت الفتاة وهي تبتسم:
– هل تسمح لي أن أشاركك مائدتك؟ أخاف أن أجلس وحدي في هذا المطعم الكبير.
أحيانا يأتي الحب بعد موعده.. نتسوله طيلة عمرنا، ونبحث عنه في كل مكان.. ندق جميع أبواب المدينة، نطيل التحديق في الوجوه، ونرسل أرواحنا في المساء تتحسس كل الأرواح.. حتى إذا أغلق الأمل بابه، وارتفعت أعلام اليأس، ورمقنا غروب الشمس الأخير فوجئنا بالحب في غير الأوان.
في البدء كانت تعامله باحترام كأنه والدها.. كانت في السابعة عشرة وهو في الأربعين.. فهم أنها تقضي أيامها في هذا الفندق لتركز في استذكارها.. طالبة مصرية في جامعة بيروت.. تنحدر من أسرة نصفها مصري ونصفها لبناني.. إن شعرها الأشقر وبشرتها الوردية تنتمي للساحل الفينيقي، أما عيناها العسليتان العميقتان فتجري من دموعها مياه النيل.
لم تكن تثرثر، كان عدد كلماتها قليلا، ومفعما بالافتتان بالحياة.. اليوم هو السبت، نفس اليوم الذي صادف فيه عماد الدين النسيمي الشاعر الصوفي الأذربيجاني قصة حبه: “في يوم السبت صادفت امرأة تشبه ضفائرها عود السرو الأنيق.. فاض الهيام وشاعت قصتي في أرجاء العالم.. يوم الاثنين فتحت مكنون قلبي لتلك الحسناء مقوسة الحاجبين.. في الثلاثاء خرجنا للصيد، كنت أنا صيد الجميلة ذات الثغر البرعمي.. في الأربعاء انشق قلب البلبل غيرة حين رأى حسنها، ويوم الخميس نصحتها ألا تفشي سرنا لأصحاب الخير والشر.. وفي يوم الجمعة تيسر للنسيمي وصل حبيبته”.
قالت له يوم الأحد: أحس الكآبة حينما أدخل الفندق ولا أجدك في حديقته.. في الاثنين قالت له: أنت عجوز كأشجار الأرز، لكني أهرم حين أبتعد عنك، في الثلاثاء قالت: أحبك، كلا لم أحبك بعد.. يوم الأربعاء أحس أن خدها المتورد يبعث الخجل في أوراق الورد.. وجاء عليهما المساء وهما يجلسان في الحديقة.. لم يكن أحدهما قد أكل من شجرة التفاح بعد.. وبدت لهما النجوم أقرب مما هي في الواقع، وخيل إليه أنه لو مد يده لاحترقت.. قالت له: هل يرضيك أن أشعل أصابعي العشرة لك؟
في اليوم التالي وجد ورقة مكتوبة على مائدة الغداء:
– “سيدي، هل تسمح لي أن أكون جارية لرجل لا يمكن أن يكون سواك؟”.
وقامت القيامة داخله من فتنة عينيها، ثقل صدره، وبكى بلبل هناك.. كم عانى النسيمي المسكين من محنة الفراق!! وكم عانى هو حين جاءت ليلة يعد فيها حقائبه، ويفكر في عشرات الأمور التافهة.. التاكسي، الطائرة، الوزن الزائد، الجمارك.. يجر جسدا ميتا، لكنه كان يعلم أن روحه هناك.. في فندق (النعص) إلى الأبد.
الحزن النبيل
وتنتهي القصة ولا تنتهي مشاعره الرقيقة النادرة، وقدرته المدهشة على التعبير عنها.. تلك هي خصائص أدب أحمد بهجت بعالمه الصوفي الرقيق الذي يدفع بك مباشرة في قلب الوجود.. ويشعرك بالحزن النبيل وشيء من شجن.. يقنعك أن هذا العالم جميل ومهمتك أن تجعله أجمل.. ينفث في روعك أنك يجب أن تؤمن بالحب، تلك الشرارة المقدسة، الهبة الربانية القادمة من عالم الروح، لا تباع ولا تشترى، مثل سائر الأشياء النفيسة.
ويبقى السؤال بلا إجابة واضحة: هل الحزن نسيج أصيل في هذا الكون؟ والفقد مصير العاشقين إلى الأبد؟ سؤال سمعته مرارا ولم أعرف حتى الآن إجابته: لماذا لم نعد نشاهد هذه الأيام قصة حب ناجحة؟