عندما قال رئيس الوزراء الأسبق نادر الذهبي: لا نريد مصاري

مدار الساعة ـ نشر في 2021/01/08 الساعة 15:58
مدار الساعة - تحت عنوان "نادر الذهبي، رئيس الوزراء الأردني الأسبق" كتب السفير الليبي في الاردن محمد البرغثي: - المهندس نادر الذهبي، شخصيةٌ أردنية تحظى بالاحترام، مهندسٌ تخصص فى هندسة الطيران، فهو حاصلٌ على ماجستير فى هذا المجال من جامعة (كراننفيلد) ببريطانيا، وعلى ماجستير فى إدارة الأعمال من جامعة (أوبورن) بأمريكا، عمل لفترة طويلة بالجيش العربي، تولى العديد من الوظائف كان أبرزها: وزيراً للنقل، وزيراً للسياحة والآثار، رئيساً تنفيذياً للخطوط الملكية الأردنية، رئيساً لسلطة العقبة الاقتصادية. - تعرفتُ على دولة نادر الذهبي عندما كان رئيساً للحكومة الأردنية، وبالتحديد خلال اللقاء الذى تم بيننا فى مكتبه مساء الأحد 11 مايو 2008، وكان اللقاء مُخصصاً للبحث فى العلاقات الليبية الأردنية وسُبل تطويرها وتعزيزها، بدأ حديثه قائلاً: "لا نريد مصاري" ثم أضاف: "لستٌ ميالاً إلى أسلوب المساعدة المالية المباشرة، لأنها تخلق حالة من الاتكال على الآخرين، ولا بد للأردن أن يعتمد على نفسه قدر الإمكان. المساعدة المهمة التى يمكن أن تُقدمها ليبيا تتمثل فى توجيه جزء من استثماراتها للاردن، حيث أن هذا النوع من التعاون يعود بالفائدة على كلا الطرفين، كذلك فتح السوق الليبي وتقديم التسهيلات اللازمة للصناعات الأردنية الجيدة، والتى تُسوق فى أسواق عالمية". لقد أدركتُ
من خلال هذا اللقاء أن الرجل يملك طريقة فى التفكير، تتميز عما هو مألوف. - وصل المهندس نادر الذهبي إلى رئاسة الحكومة، عبر جسر نجاحاته، من خلال رئاسته للخطوط الملكية الأردنية، ورئاسته لسلطة العقبة الاقتصادية. جمعتني بالرجل العديد من اللقاءات أثناء توليه منصبه، أُتيحت ليّ الفرصة خلالها للاطلاع على أولوياته ومعرفة أسلوب عمله فى إدارة الحكومة، لاحظتُ عند زياراته الميدانية المتعددة للمحافظات، وأثناء تلقيه الطلبات، حريصاً على توضيح ما يُمكن عمله وتحقيقه وما لايمكن، حسب الامكانات المتاحة، بعيداً عن رفع سقف التوقعات، وقد أوجد هذا الخطاب حالة من المصداقية بين الحكومة والمواطن، كما بُذل جهداً لزيادة التبادل التجاري البيني العربي وخاصة مع دول الجوار، وعند حدوث الأزمة المالية العالمية 2008، قام مُعظم الأردنيين بسحب اموالهم من المصارف، عندئذ أتخذت حكومته قراراً بضمان جميع الودائع فى المصارف، هذا القرار حافظ على المؤسسات المصرفية من الانهيار، وتوقف طلب الودائع وزاد من احتياطيات العملات الأجنبية. - عملتُ مع دولة نادر الذهبي على عقد الدورة الثالثة للجنة العليا الليبية الأردنية المشتركة، والتى لم تلتئم منذ تسع سنوات، حيث تم التمهيد لإنعقاد هذه اللجنة من خلال لجنة فنية تشكّلت على مستوى الخبراء من كلا الجانبين، عقدت اللجنة اجتماعاتها فى طرابلس في الفترة من 19 إلى 23 إبريل 2009، ظهرت خلال الاجتماع نقاط إختلاف، منها: أن الجانب الليبي يرفض دخول الشاحنات الأردنية الى ليبيا، وكذلك يرفض تسويق الدواء الأردني فى الأسواق الليبية، أتصلتُ برئيس الوزراء الليبي لمعرفة أسباب الرفض، فوجدته مُصراً على موقف الرفض، تحدثتُ فى الأمر مع العقيد معمر القذافي وقلتُ له: "بالنسبة للدواء الأردني، هناك المئات من المرضى الليبيين يعالجون فى الأردن ويستخدمون الدواء الأردني، كما أن الدواء الأردني يُصدر الى الأسواق الاوروبية والأمريكية، أما دخول الشاحنات الأردنية فهى تقوم بنقل بضائع للقطاع الخاص فى كلا البلدين". العقيد القذافي يُصدر تعليماته بالاستجابة للطلبات الأردنية، وبالفعل أجتمعت اللجنة العليا الليبية الأردنية فى الفترة من 4 إلى 5 مايو 2009 حيث تم الاتفاق على الآتي: الإطار القانوني للتعاون ويشمل الوثائق التى تم التوقيع عليها خلال هذه الدورة، وتضم (12) إتفاقية ومذكرة تفاهم وبرنامج تنفيذي، وبقيت وثائق تمت مناقشتها، توطئة لتوقيعها فى الفترة القادمة، وعددها تسع اتفاقيات ومذكرة تفاهم وبرنامج تنفيذي. - الثلاثاء 5 مايو 2009 العقيد معمر القذافي يستقبل دولة نادر الذهبي رئيس الوزراء الأردني والوفد المرافق له، فى بداية اللقاء نقل دولة الرئيس سلام وتحيات الملك عبدالله الثاني ابن الحسين، وأطلعه بإيجاز على نتائج زيارة الملك الى أمريكا، كما قدم له الشكر على تذليل العقبات أمام اجتماع اللجنة العليا. - تحدث العقيد القذافي قائلاً: "أنا صاحب فكرة اللجان العليا المشتركة بين الدول العربية، حيث يجتمع رؤساء الوزراء والوزراء لمناقشة المواضيع الثنائية، وسنعمل على أن تكون إجتماعات لثلاثة دول أو أكثر، وتنتهى بمجلس رؤوساء وزراء الدول العربية، لرسم الاستراتيجيات وبحث التعاون". - القضية الفلسطينية كانت الملف السياسي الأبرز فى هذا اللقاء، حيث أشار العقيد القذافي إلى فكرته الداعية الى حل (الدولة الواحدة) قائلاً: "لا يوجد (حل الدولتين) كيف تكون هناك دولة فلسطينية بدون جيش؟ وهناك دولة إسرائيلية لديها سلاح نووي، وتسيطر على الحدود، وكيف ستتوقف المستوطنات، وإذا توقفت المستوطنات فهى فى أراضٍ فلسطينية، وماذا عن حق العودة، وهل الإدارة الأمريكية جادة فى الحل السلمي وتستطيع ذلك؟ وهل لديها تصور؟ أم أنها تنتظر أفكار". - وجه العقيد القذافي إنتقاده الى المبادرة العربية: "المبادرة العربية هى أن نعترف بإسرائيل، مقابل إعادة جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967، هذا غير مقبول "، وأشار العقيد القذافي فى حديثه أثناء اللقاء إلى حركة حماس قائلاً: "كيف تكون هناك منظمة مثل حماس، تتحدث باسم الدين؟ هذا موضوع غير مقبول، لو أن حماس تتحدث عن مقاومة الإحتلال فأنا معها وأؤيدها، ولكن إذا كانت تستغل الدين فهذا أمر غير مقبول، ماذا نقول للفلسطينيين المسيحيين الذين يريدون تحرير فلسطين، وماذا بخصوص الفلسطينيين الموجودين فى الأردن ولبنان وسوريا وحتى ليبيا، نريدهم أن يعودوا إلى فلسطين". - لقد حرصتُ أن يقوم دولة الرئيس نادر الذهبي، بزيارة المركز الوطني للتطوير الإقتصادي، والذى يرأسه الدكتور محمود جبريل آنذاك، وبالفعل تم التنسيق مع الدكتور جبريل، الذى رحب بالزيارة، وتم إستقبال رئيس الوزراء الأردني فى مقر المركز، حيث عُقد لقاء ضم عدداً من الخبراء، قدّم الدكتور محمود جبريل شرحاً وافياً عن المركز، الذى يُشرف على برامج البنية التحتية والتي تبلغ أكثر من ألف مشروع، تحدث الدكتور جبريل قائلاً: "إن الهدف الأهم هو تطوير الموارد البشرية، حيث أن أي دولة لديها مصادر ثلاث كأضلاع المثلث وهى: القوى البشرية، الموارد، المعرفة، وهناك دول عربية مثل الأردن وتونس ليس لديها موارد مادية، ولكنها نجحت فى تطوير القوى البشرية من خلال المعرفة، ومع الأسف هناك دول نفطية لديها موارد مادية كبيرة، ولكنها لم تستطع تطوير الموارد البشرية"، وعلى مائدة الغداء التى أقيمت على شرف رئيس الحكومة الأردنية، داخل المركز الوطني للتطوير الاقتصادي، تم إستكمال الحوار حول إمكانيات التعاون بين ليبيا والأردن، فى مجال تطوير القدرات البشرية. - الثلاثاء 5 مايو 2009، أُتخذت كافة الترتيبات للتوقيع على محضر الاجتماع، وعلى الاتفاقيات بين الجانبين الليبي والأردني، وأثناء وقوفي مع رئيس الوزراء الأردني ورئيس الوزراء الليبي، حيث كنا نتبادل أطراف الحديث، إنتظاراً للحظةالتوقيع، فوجئت برئيس الوزراء الليبي الدكتور البغدادي المحمودي، يدعو رئيس الوزراء الأردني لإجتماع عاجل على إنفراد، عُقد اللقاء فى مكتب رئيس الوزراء وأستمر حوالى 15 دقيقة. - تم التوقيع على الاتفاقيات، عدتُ صُحبة دولة رئيس الوزراء الأردني، ونحن فى السيارة وفى طريق العودة الى الفندق، حدثني المهندس الذهبي قائلاً: "أريد أن أحدثك عن ما دار فى هذا الاجتماع المغلق، لقد حدثني عن معارض ليبي اسمه (فتحي الجهمي)، وذكر بأن له أخاً مُقيماً فى أمريكا، تربطه علاقة بنائب الرئيس الأمريكي (جو بايدن)، وأنهم يريدون إرساله للعلاج فى الأردن، ويٌفضل أن يكون بعيداً عن وسائل الإعلام، إلى أن يُغادر الى أمريكا، وطلب مساعدة الأردن فى حصوله على التأشيرة الأمريكية، وأوضح ليّ بأن هذا الشخص قد عمل مُحافظاً وكان مُسالماً، إلا أنه ودون أي مُقدمات بدأ يعارض بشدة من داخل ليبيا، وهناك دعم له من قبل بعض منظمات المجتمع المدني فى أمريكا، وأضاف: لا نريد أن نصنع منه بطلاً، لم نرغب فى إرساله الى مصر لأن الأمور هناك (فلتانة)، لأنه يمكن أن يبقى هناك ويتحدث للإعلام المصري المُعارض". - أوضح ليّ دولة المهندس الذهبي، بأنه لم يعطى إجابة، ووعده بأنه سيجُيبه بعد العودة الى عمان، لم يحدثني الدكتور البغدادي فى الأمر، ولم يصلني أي إجراء رسمي عبر السفارة. - تعرفتُ على المهندس فتحي الجهمي فى طرابلس حيث كان يُقيم، تلقيتُ دعوة على الغداء فى بيته الكائن بحي (بن عاشور)، وكان وقتها في وضع أقرب إلى الإقامة الجبرية، وكما ذكر ليّ بأنه تعرض للتهديد والضرب، على أثر إنتقاده للنظام فى جلسة لمؤتمر شعبي، وعلى مائدة سمك عامرة فى بيت الجهمي، عرفتُ الرجل شخصية واعية، ناقداً للأوضاع السياسية، بشكل لاذع وساخر، حاضر البديهة، صاحب نكته ؛ يُجيد روايتها بلهجة مصرية مُحببة. دعوتُ الرجل أن يزورني عندما يأتي الى بنغازي، وبالفعل زارني فى بيتي، وعلى مائدة سمك أيضاً، أستمعتُ الى الرجل طويلاً، وفى تقديري بأن ما كان يطرحه كان ينبغي أن يُسمع، وكانت هناك حاجة الى وجود عقل واع، يستمع الى أفكار الرجل المعارضة، ويتعاطى معها بإيجابية واحترام. أخبرني بأنه سيأتي خلال الفترة القادمة للإقامة فى مدينة بنغازي، وبالفعل فوجئتُ ذات يوم بزيارته ليّ فى مكتبي بمجلة الثقافة العربية، حيث كنتُ رئيس تحرير لها، وفى ذلك اليوم جلس الجهمي فى صالون المجلة، ودون ترتيب فتح حواراً مع بعض الزملاء من أسرة تحرير المجلة، ليتحدث معهم موجهاً إنتقاداته اللاذعة للنظام، وقد أستمر فى تردده على المجلة، وكان مواظباً لفترة من الزمن على حضوره لندوة الخميس التى كانت تُعقد بالمجلة. - أبلغتني السلطات الأردنية بأنها وافقت على مجئ المهندس فتحي الجهمي للعلاج، وبالفعل وصل المهندس الجهمي الى عمان وأُدخل الى وحدة العناية الحثيثة بالمركز العربي الطبي، بتاريخ 6 مايو 2009، لقد حرصتُ على متابعة حالته الصحية، من خلال الاتصال المستمر والدائم مع الدكتور فارس سليم مدير المركز العربي الطبي، الذى أوضح ليّ بأن الرجل فى وضع صحي حرج، ويحتاج الى معجزة إلهية لإنقاذه، وفى 21 مايو 2009 توفي المهندس فتحي الجهمي بعمان، قدمتُ العزاء الى إبنه الذى كان يرافقه، وقام القسم القنصلي بإتمام كافة الإجراءات المُعتادة المتعلقة بالجثمان، وتم نقله للدفن فى ليبيا. - كتبت صحيفة الشرق الأوسط الصادرة فى لندن، فى عددها 11125 بتاريخ 14 مايو 2009: "وصل الجهمي بشكل غير مُعلن الى عمان على متن طائرة طبية خاصة برفقة بعض أفراد أسرته، حيث خضع على الفور لعملية لإزالة المرارة، بعدما نجحت المساعي التى يقودها سيف الاسلام فى إقناع السلطات الليبية بحاجة الجهمي إلى تلقي العلاج خارج ليبيا، وعبر الهاتف تحدث محمد الجهمي شقيق فتحي الجهمي للجريدة من مقره من مدينة (تشيملسفورد) بولاية (ماساتشوستس) الأمريكية، أن الحالة الصحية لشقيقه مُقلقة للغاية، وأضاف لدى إعتقال شقيقي كانت حالته الصحية جيدة، وبعد سنوات من الحبس والتعذيب والعزل عن العالم ورفض السلطات الليبية توفير الرعاية الصحية وصل الى الوضع الحرج حالياً، وتساءل: أين كانت الرعاية الصحية قبل وصوله إلى الأردن ؟ وأضاف: الآن بعدما فقد الوعي وبات على فراش الموت، مالذى يعنيه ذلك، الآن يتحدثون عن الدور الإنساني، هذا غير صحيح، جاءوا إلينا فى الوقت الضائع قبل إطلاق الحكم صفارته بثوان، كانت لديهم فرصة العام الماضي، وهم أعلنوا أنهم سيطلقون سراحه لكنهم لم يفعلوا شيئاً، لابد أن يكون هناك شفافية فى التعامل واحترام حقوق الإنسان. وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية (هيلاري كلينتون) قد أثارت قضية الجهمي وحقوق الإنسان خلال لقاء 21 ابريل الماض مع معتصم القذافي فى واشنطن، وأعتقل الجهمي منذ 2004 لإقدامه على توجيه إنتقادات الى نظام القذافي ودعوته الى الديموقراطية واجتماعه مع مندوب رسمي أجنبي، علماً بأنه كان يعالج لما يزيد عن عام تحت المراقبة فى مستشفى حكومي فى طرابلس ". - أحفظُ لدولة الرئيس نادر الذهبي، انه كان أميناً وحريصاً على تنفيذ توجيهات الملك عبدالله الثاني أبن الحسين، المتصلة بالتنسيق المستمر مع السفير فى كل ما يتعلق بالعلاقات الليبية الأردنية. لقد عرفتُ دولة المهندس الذهبي، رجلاً هادئاً ذكياً، رصيناً فى تفكيره، نبيلاً فى خُلقه، عميقاً فى فهمه، على مستوى عال من المصداقية فى التعامل، وعقب مُغادرة (أبو أمجد) رئاسة الحكومة، كسبتُ أخاً كبيراً وصديقاً عزيزاً، فقد حافظنا على هذه الصلة الطيبة، عبر لقاء عشاء أسبوعي يجمعنا، يمثل فرصة للحديث وتبادل الآراء والأفكار. لدولته كل التقدير والاحترام.
مدار الساعة ـ نشر في 2021/01/08 الساعة 15:58