د. منذر الحوارات يكتب.. عالم بين إدارتين.. ترامب بادين
كتب الدكتور منذر الحوارات
بين رجلين وجد العالم نفسه بشكل دراماتيكي مضطراً للتعايش لأقلمة ذاته حسب معطى كل منهما، فالآفل دونالد ترامب قدم من عالم يضج بالمال والنساء والعقار وتلفزيون الواقع، يحتقر السياسة والسياسيين وتمثل واشنطن بالنسبة له مستنقع لذلك الفساد، وهو الذي جعل في أولوية أهدافه محاربة هذه البؤرة والتصدي لها وهي في النهاية استطاعت ان تهزمه وتبعده عن المسرح، أما القادم جوزيف بايدن، فهو إبن صميم لتلك المؤسسة السياسية، فقد بداء الحياة السياسية كأصغر سيناتور وأصبح الآن اكبر رئيس للولايات المتحدة وحاصل على أعلى رقم تصويتي في تاريخ امريكا، وما بين الحدثين كان في صميم السياسة وجزء اصيل من نخبها، وجزء من البيروقراطية العتيدة في واشنطن، وبالتالي فبمقدار ما كان سلفه متمرداً وعاصفاً في قراراته بل ومستهجنناً، فليس من المتوقع ان يكون بايدن انقلابياً وذو توجهات راديكالية، وإن كان مدعوماً من اليسار التقدمي او المتطرف في الحزب الديمقراطي، الذي بداء يطالب بثمن هذا الدعم، لكن ليس من المتوقع من رئيس قادم من يمين الوسط ان ينحني لهذا التيار سوى ببعض المكاسب المحسوبة بدقة،،اذاً فمن المتوقع ان يعيد الرئيس المنتخب عجلة السياسة الى مسار واشنطن التقليدي.
لكن حالة التشظي الامريكية تطرح على الرئيس المنتخب ملفات معقدة، فهل يستطيع تجاوز مطباتها؟ فأول مواجهاته ستكون مع جائحة كورونا التي تفتك من دون هوادة بالمواطنين وتحتل فيها البلد المركز الاول على مستوى الاصابات والوفيات، وثاني موجهاته مع حالة الانقسام العميق الذي تعيشه الامة الامريكية، والتي عبرت عن نفسها بهذه الانتخابات، فمن صوت لترامب لم يصوت فقط للحزب الجمهوري بل لترامب كممثل لفئة من المجتمع ترفض النخبة السياسية الحالية وتريد ان تقتلعها من جذورها، وهؤلاء سيبقون على ولائهم لدونالد ترامب، لذلك هو يجهزهم منذ الآن من خلال اصراره على ان الانتخابات مزورة وأنه هو الفائز لتعزيز جذور الشك في الرئيس المنتخب وبالتالي المؤسسة السياسية المنتجة له وهو بذلك يضع الارضية المواتية لصراع يستمر لأربع سنوات قادمة يخوض فيها الانتخابات تحت مسمى استعادة شرعيته التي خسرها بسبب التزوير، اما مصوتو بايدين فهم ايضاً ليسوا في جلّهم مؤيدين للحزب الديمقراطي بل في جزء مهم منهم رافضين لظاهرة ترامب الخارج عن لباقة المؤسسة السياسية الامريكية، وكلا الطرفين يرى في الآخر عدواً وليس منافساً سياسياً وطبعاً هذه كارثة تحل في اهم بلد ديمقراطي، فهل يستطيع بايدن رأبها ؟ هذا مرهون بالمستقبل، ويواجه الرئيس ايضاً تحدي الاقتصاد المنكمش، وتراجع دور امريكا كأمة تهيمن على العالم.
ليس هذا فحسب فأمام بايدن تحديات على مدار الكرة الارضية، فالهيمنة الامريكية المطلقة على العالم في طريقها للتراجع، والاقتصاد الامريكي الاقوى لا يبدوا انه سيحافظ على تلك المكانة طويلاً، وحتى القوة الامريكية المهيمنة مرشحة لأن تتراجع ولو قليلاً لصالح قوى صاعدة اخرى، يضاف تراجع مقدرة امريكا لأن تكون الطرف المهيمن في حل الصراعات الدولية،كما ان مكانة امريكا كنموذج يحتذى كأمة ملهمة في مجال الحريات وحقوق الانسان بات محل جدل كبير، كل تلك تغيرات وتحديات سيواجهها بايدن، فهل يستطيع تغيير قرارا تترامب وإعادة بعض المكانة لأمريكا كدولة متزنة ؟ لا يكفي طرح السؤال بل لابد من المرور على تلك الملفات وتفحص امكانية احداث اي تغييرفيها من قبل الادارة الجديدة .
لنبدأ من المنظمات الدولية التي انسحب منها دونالد ترامب، فهذه قرارات سهلة يمكن العودة عنها، اتفاقية باريس للمناخ، منظمة الصحة العالمية بشروط عدم الانحياز، الاونروا، قد تتأخر العودة لليونسكو بسبب ارتباط ذلك الخروج بانتقاداتها المستمرة لإسرائيل،
اما الاستحقاقات المعقدة فتبدأ من الصين القوة الرئيسية التي تهدد التفوق الامريكي سواء الاقتصادي او العسكري، لكن المعضلة هنا أن جوزيف بايدن لا يزال ينظر الى ان روسيا هي التحدي الاستراتيجي لأمريكا، وهو بقناعته هذه قد يناقض الاستراتيجية الامريكية التي أتبعت ايام نيكسون حينما كان الاتحاد السوفيتي في أوج قوته ففي حينها ركزت الجهود الامريكية على احتواء الصين كي لا تكون في صف الاتحاد السوفيتي في مواجهة امريكا والآن الصين في ذروة صعودها يحاول العقل الاستراتيجي الامريكي تحييد روسيا كي لا تكون شريكاً للصين في مواجهة الولايات المتحدة، فهل تنجح المؤسسة الامنية بإقناع بايدن بتغيير أولوياته؟ حتى الان التعيينات لطاقمه لا ترجح ذلك .
لكن يبدو ان الملفات العالقة مع الصين ستفرض نفسها على اي رئيس امريكي مهما كان توجهه فالعجز التجاري لصالح الصين يؤدي بشكل يومي الى تسريح آلآف العمال، فترامب الذي آمن بضرورة تصحيح هذا الخلل من خلال طرح فكرة امريكا اولاً، ووضع رسوم وجمارك على المنتج الصيني وتحصل من وراء ذلك عَلى مكاسب مهمة، وكانت قناعة ترامب الدائمة ان ذلك الخلل يضر بالاقتصاد وبالتالي لا بد من إجراءات حاسمة، اما بايدن فقناعته تركز على ان تلك الاجراءات تضر بالمستهلك فهل يذهب الى إلغائها تحت بند حرية التجارة الذي يتبناه، او يبقيه كما هو وبحسب ما يقول دونالد ترامب بعدالة التجارة ؟ لا زال الامر في اطار التخمينات، وأمام بايدن المعضلة الامنية لبحر الصين وجنوب شرق آسيا والتي حُددت معالمها سابقاً بضرورة الوجود الامريكي كضامن لجميع الامم في هذه المنطقة المعقدة والمتخمة بالقوى الصاعدة والطامحة، حيث يمر من بحر الصين ٦٠٪ من حجم التجارة الدولية، فالبحر الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة طوال عقودا بعد الحرب العالمية الثانية بات الان معرضاً للاختراق من قبل قوة الصين البحرية والصاروخية الصاعدة، فهل تغامر الادارة بتعريض حلفائها للخطر، فحرية الملاحة اصبحت ليست رهناً بقوة واحدة بل يتزاحم فيها شريك ومنافس آخر، فمضيق تايون، وتايوان بذاتها، والديمقراطية في هونج كونغ كل تلك ستصبح تحت رحمة الصين الصاعدة بقوة، فهل تستثمر الولايات المتحدة قضايا حقوق الانسان في الايغور وتايوان وهونج كونج وتستخدمها كسلاح تقيم بواسطته تحالفاً دولياً من اروبا والهند واليابان وكوريا الجنوبية لمواجهة هذا التغول الصيني وإن كان في ذلك شك فهي فكرة واردة .
اما التحدي الايراني فقد تركه دونالد ترامب على مستوى كبير من التعقيد وزادته اسرائيل تعقيداً باغتيال عالم نووي ايراني لكي تضع العراقيل في وجهه الادارة القادمة بخلق جو من التوتر لا يمكن تجاوزه الى طاولة حوار بسهولة، لكن هل صحيح ان العودة الى اتفاق ٢٠١٥ امر سهل ؟، ليس الامر بهذه السهولة فدون ذلك قوى سياسية في الكونغرس ستعيق هكذا توجه، يضاف الى ذلك ان مجموعة العقوبات تكونت على طبقات من الصعب إلغائها بسهولة إلا بإتفاق شامل، يتضمن البرنامج الصاروخي الايراني ودور ايران التوسعي في المنطقةوهذا فعلاً ما اعلنته ادارة بايدن منذ ايامها الاولى، بالتالي فإن العودة للإتفاق السابق أمر شبه مستحيل، وحتى الاتفاق الجديد ستشترك فيه قوى اقليمية اقصيت في المرة السابقة من حلبات النقاش.
كيف سيتعامل بايدن مع السعودية ودول الخليج ؟ رغم كل ما يُقال عن موقف بايدن من هذه الدول، لكن الاستراتيجة الامريكية ستبقيها دوماً في مكانة مهمة بالنسبة للولايات المتحدة، كما ان لديها الذكاء والمقدرة على التعامل مع اي رئيس امريكي مهما كانت توجهاته من خلال جماعات ضغط في عمق المؤسسة السياسية الامريكية، سيركز بايدن على حقوق الانسان والحريات للضغط عليها وهذا الامر سينطبق على مصر ايضاً، وربما يذهب بايدن بشكل جادة لإنها حرب اليمن خصوصاً بعد ان علت الاصوات في واشنطن على ضرورة وضع حدلها.
الشرق الاوسط والقضية الفلسطينية تراجعت من حيث المكانة والاهمية منذ عهد أوباما واستمر كذلك في عهد ترامب، فالنفط اصبح متوفرًا في امريكا وأمن اسرائيل في احسن اوقاته، وهما العنصرين الرئيسيين الذين شدا امريكا للمنطقة دائماً، يضاف ان الرغبة الأمريكية تضاءلت للانخراط في صراعات المنطقة، مما يؤشر على انتهاء الحروب الامريكية هنا، اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فترامب اراد انهاء الملف برمته وفق التصور الاسرائيلي، بالضغط على جميع الاطراف للقبول بما عُرف بصفقة القرن او خسارة الولايات المتحدة كحليف، بحيث دفعت هذه السياسة اطراف عربية لبدء مسيرة التطبيع مع كيان الاحتلال، وبالتالي بدء مرحلة جعل اسرائيل طبيعية في المنطقة، وتحويل الصراع العربي الاسرائيلي الى قضية محلية داخلية اسرائيلية فلسطينية، أما بايدن فيؤمن بفكرة ادارة الصراع وهي السياسة الامريكية القديمة وربما يعيد الدعم للسلطة الوطنية ويعيد ممثلية منظمة التحرير وربما الدعم للأونروا، ويعيد منظومة المحادثات إلى مسارها السابق، بدون الوصول الى حلول، وفِي الاثناء تستمر اسرائيل في بناء المستوطنات وقضم الارض، ويستمر ايضاً قطار التطبيع بين اسرائيل والدول العربية، وتستمر القضية بالتآكل رويداً رويداً مالم يظهر متغير يقلب الطاولة على الجميع ليس اقله انتفاضة سلمية جديدة تغير المعادلة من جديد.
اما بالنسبة لتركيا فمتفق على انها دولة مثيرة للمتاعب بالنسبة للساسة في واشنطن، وبايدن بالذات يتبنى وجهة نظر سلبية تجاه اردوغان، مما قد يدفعه الى تفعيل التعاون مع الاتحاد الاوروبي لفرض عقوبات على تركيا، وقد يلجأ ايضاً الى وضع شروط على بقاء تركيا في حلف شمال الاطلسي وهذا مرهون بمدى قناعة جو بايدن بأن الحلف ما زال يحظى بأهميته السابقة، وفي هذا السياق فقد يعيد فكرة الدعم الامريكي للأكراد لكن دون الوصول بهم للحصول على كيان مستقل في سوريا، التي سيحاول ايضاً التركيز فيها على وضع حدّ للتدخل التركي وربما الايراني وهذا مرهون بتطور الملف النووي الايراني، اما العراق فطالما آمن بأن العراق لن يستقر إلا بتقسيمه لثلاث مناطق بصيغة فيدرالية لكن حالة الفراغ الجيوسياسي الذي تركه غياب العراق في المنطقة حتمت ربما على العقل السياسي الامريكي بشكل عام تغيير تلك الاستراتيجية لمصلحة عراق موحد مركزي لسد الثغرة التي خلفها غيابه، وبالتالي ربما لا نشهد عودة من ادارة بايدن لفكرة التقسيم .
تلك المعطيات تلقي بظلال من الشك على تفاؤل بايدن بأن فريقه جاهز لقيادة العالم، الذي تغير كثيراً واصبح يعج بقوى صاعدة وطامحة وأمم متمردة لن تقبل بقيادة احد رغم افتقار العالم لقيادة خلال السنوات الماضية، فأمريكيا بذاتها تغيرت في داخلها واصبحت رغبتها في القيادة أقل من ذي قبل، وهي ايضاً لم تعد تمتلك كل مقوماتها السابقة التي قادت بها العالم، الذي يرجح ان يدخل في مرحلة من عدم الاستقرار وغياب التوازن وربما الفوضى.