المجمعُ يستذكر مناقب المرحوم العلَّامة الدكتور محمد حمدان في موسمه الثّقافيّ الثّامن والثّلاثين (صور)
مدار الساعة - عقدَ مجمعُ اللّغة العربيّة الأردنيّ يوم الخميس السّابع عشر من كانون الأوّل، ضمن فعاليات موسمه الثّقافيّ الثّامن والثّلاثين، بالتّعاون مع مبادرة (ض) إحدى مبادرات مؤسّسة وليّ العهد، جَلْسَتَيْنِ في ذكرى الرّاحِل الكبير العلَّامة الأستاذ الدكتور محمّد حمدان، عن بُعْد عبر تقنية الاتّصال المرئيّ.
وألقى رئيسُ المجمع الأستاذُ الدكتور خالد الكركي، كلمةً في ذكرى حمدان، المجمعيّ الكبير، والأكاديميّ المتميّز، والوطنيّ الممتدّ من يافا إلى عمّان، الذي غادر ذات فجرٍ مع ساعة السّرى بعد زمان من العطاء والصَّبر والامتداد إلى أرض الأمّة والعالم، وقال: أظنّه عرّج على يافا، وعلى قريته الأولى، ثمّ سلَّم، ووصلَ في الظّهيرة للوداع... فلماذا غبت!! أمَا وعدْتَنا بيافا يا أبا أحمد، أتدري ما يجري بعد رحيلك... لقد استباحنا الحزن على فلسطين يوم استباحنا الآخرون ونحن ما زلنا عند قول الشاعر:
لكلّ شيء إذا ما تمّ نقصان
أقول: "رجلٌ طِينهُ من العنبر الوردِ..."
وكأن التوحيدي الكبير أشار إليه وإلى من هم في مثل مودّته:
"الصديق آخرُ هو أنت"
"أبو أحمد"، هو كما نحبّه، "صاحب المعالي" في الحكومات، "الأستاذ الرئيس"، وهو الأستاذ الجامعي والرئيس، والعالِم في حضوره البعيد على امتداد زمانٍ توالت فيه الفصول على هذا الصاحب العزيز.
صاحبي أبا أحمد؛ "صاحبي"!! نقرأ في كتاب الله الكريم: "ثاني اثنين إذ هما في الغار إذْ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" صدق الله العظيم.
وقالت العرب:
"بكى صاحبي لمّا رأى الدّرب دونه"
إلى أن نادى مالك بن الريب: "فيا صاحبي رحلي"
وكأنّ "كُثيراً" كان يردّ عليه: "خليلي هذا ربع عزّة..."
أبا أحمد، أكتب عن حضورِكَ، وقد افتقدتك في غيابك الطارئ الأخير فناديت يوم افتتاح مؤتمر المجمع:
يعزّ عليّ حين أدير عيني أفتش في مكانك لا أراكا
ولو أنّي استطعتُ خفضت طرفي فلم أبصرْ به حتى أراكا
أبا أحمد، تلك يافا على مرأى وردة من القلب، وليس من حقي أن أنافسك عليها، ولا أن أجرح التذكّر الذي في روحك عنها، لكنني، وقد عاينت سطوراً لياقوت الحموي منشورة في مقدمات "تهذيب اللغة للأزهري" (الهروي) عن مدينة هَراة؛ وهي إحدى المدن العظيمة –آنذاك- في خراسان: "ولم أرَ بخراسان عند كوني بها سنة 607 مدينةً أجلّ ولا أعظم ولا أفخر ولا أحسن ولا أكثر أهلاً منها. فيها بساتين.. ومياه.. وخيرات.. محشوّة بالعلماء... وقد أصابتها عين الزمان، ونكبها طوارق الحدثان، وجاءها الكفّار من التتر فخرّبوها حتى أدخلوها في خبر كان، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون. وذلك في سنة 618هـ...".
أرأيت أيها العالم، تلك مدينتك الأولى، وهل ترى معي كيف أن "محشوة" هذه لم تقع في نص أجمل ممّا هي عليه الآن!!
أعود إلى التذكر..
ها نحن معاً ذات مساء في قصرِ بسمان العامر، نتقاسم التعليم والثقافة، معنا أكاديميون أو قلة من هذا "الجنس" في العلماء، والدّنيا لا تهدأ من حولنا، فتعلمت منك صبر العالم وأناقته ودقّته... ومرّ زمان يصل إلى عقدين ونصف،
كنّا معاً في المجمع.. كلّ شيء خطر بالبال إلّا أن تُعلِّمَ درساً جديداً في خُلُق العلماء.. أنا رئيس للمجمع بعددٍ من الأصوات مقبول، أما أنت فنائب للرئيس بالأصوات كلّها.. سامحك الله يا أبا أحمد... والله ما رأيتُ نفسي قبلك في أمر... لكنّ فرحي كان هائلاً، لأنني حين كنا رفيقَي سفر إلى الرّياض عرفت أن الرئيس الأول في الوفد لا يخفى على العلماء هناك، وكنتَ أنت الرئيسَ والصاحبَ والصديق...
وها أنت، لا زلت فينا، تمدّ قنطرة نحو يافا، وتُعلي مسجداً شرقيّ البلاد، ومدرسة غربيّها، وتقرأ أسئلتي الحائرة في السياسة والديمقراطية والتكنوقراط، فما عُدت أعرف وصفاً لنا نحن الذين خرجنا من المدارس البسيطة وواجهنا غبار الطرق، وهجير الاستعباد، ثم غلبت الحيرة عليهم في تصنيف أبناء الفلاحين، فقد كبروا، وتجاوزت أسئلة المرحلة إلى وعيهم العالي، بينما الجامدون والجاحدون والخائفون يقودون قطار المرحلة العثمانية بالعقلية نفسها إلّا من بدّل العثماني بآخر بريطاني..
لقد امتدّ هذا الزمان الشقيّ بنا حتى رأينا الأمة وقد تشظّت، وحين أطلّ الربيع كثرت مناجل قوى الضدّ (بين رجعي ومستلبٍ وعميل) حتى ماتت السنابل وهي بعدُ في أوّل النهار..
فيا صاحبي، أنا لا أتذكر شيئاً عنك الآن، فلسنا من الماضي، ولسنا في رحابه، نحن ما نزال كما أنت، عقلٌ يتوهّج بين أيدينا في الجامعات التي كنت بين من جعل رايات الإبداع والحرية فيها حاضرة، ونحن وعيٌ لا يمكن تجاوز دوره، فجيلنا هو الذي نقل الوطن وأجزاء من أرض الأمة، إلى الوعي الوطني والقومي في مواجهة بقايا الزمن العثماني الذي ظلّ فينا على الرغم من ثورة العرب، وأجهز على ادعاءات الاستعمار في بلادنا يوم تكشّف وجهه القبيح فيما وقع لفلسطين.
نحن بعض هذا، وهذا ليس في باب الادعاء، بل هو في باب الضرورة يوم اختلطت الأمور، ووقع الاضطراب الذي نحن فيه.. ورأينا أمّهات العواصم تحت سيطرة العلوج.. هل تتذكر بيروت وبغداد أم نسينا ذلك!!
أيّها المعلّم، دُلّني على المزيد من صفحات الرّضا، ومعنى الحياة ويوم دار حوار حول قول (ديوجين): "يكون الأسد حبيساً، ولكن لا يجعله الحبس عبداً"، ويوم كنّا نرى الحريّة حريّة الأمة "قاب قوسين أو أدنى".
بإيقاعك العذب وأنت شيخ بين العلماء، وعالمٌ بين الشيوخ، أيّها الجدول العذب منذ أوّل زمان في يافا إلى زمانك في عمّان، وما بين هذا وذاك... زمان الوحدة بين ضفّتي النهر، وصبغ ذلك الزمان من رؤى، وتاريخ، وآمالٍ عِذاب.
كنت سأبدأ من اليرموك وأنت تلمّ جراحها، وتهدهد أجزاءها، أو من الهاشمية وأنت تجلب لها نهراً ما تزال تغرف منه، وما غابت عنك الأندلس ولا عنّي..
وما نزال بأوجاعنا العذبة نستغيث، وأرى في صمتك المهيب حكمة أراها أيضاً في ساعات غضبك النبيل؛ سواء أكنا في المجمع، أم في لجان المناهج، أم في مجلس الوزراء... ومهما استبد بنا السؤال الصعب: هذه الأمة إلى أين.. وأتذكر أن العربي عمر فاخوري قد نشر كتاباً سنة 1913م وهو في التاسعة عشرة عنوانه: "كيف ينهض العرب".
وقد نشرت بحثاً فيه منذ ثلاثين عاماً، لذلك، أقترح، من منبر هذه المؤسّسة العزيزة، أن تعقد المؤسسة مؤتمراً بهذا العنوان، وأضيف أن الكتاب الذي غاب سبعين عاماً موجود، وأنّ الفتى الذي حُكِمَ بالإعدام ثمّ اختفى حتّى جلاء الاتّحاد والتّرقّي يستحق التّكريم.. لا أقول إن المؤتمر عنه، بل عن أزمة الأمّة، ومن كان لا يدرك بعد أنّها في أزمة، فالدّعوة له بالرحمة والغفران..
فسلام على الصادقين اليتامى في أرض الأمة،
سلام ما هبّت الرّيح حباً وجنوباً،
سلام لشهداء فلسطين والأردن منذ أن خرجت كتائب العرب في الثورة، ويوم أن خرجت ثلاث جنازات من سجن عكا... وامتد الغناء الحزين: "من سجن عكا طلعت جنازة"
سلام إلى أن تستيقظ الأغلبية الغافلة أو الممتدة في رمال النسيان،
أقول:
ما زال النفط يتسرب من بين أصابعنا،
والورد يذبح في شوارع مدننا
والجيل الغاضب يسكب على الدم نجيعاً ويزيد،
وقد دهمتنا أدواء الأمية والعامية، والإرهاب، والتطرف، والانغلاق، والفتاوى التلفزيونية، والتغريب والاستلاب...
والأمرُ له علاج واحد في ثلاثة: "الحريّة- والوعي- والعلم"
لذلك لا بدّ أن نبدأ الدرس الأول: "تعليم الحرّيّة للمضطهدين"
والدرس الثاني: إذا الشعب يوماً أراد الحياة.
والدرس الثّالث: كتابه في الشهداء.
والدّرس الرابع: اللّغة المقدّسة.
والدرس الخامس: خطبة محيي الدين بن الزكي يوم تحرير القدس بحضور صلاح الدين، وهناك دروس ودروس... والله أعلم.
أيّها الصاحب، لقد سبقْتنا إلى كثيرٍ مما كنّا نتمنى..
وأنا واحد من هؤلاء،
لذلك أقول لك:
"ما حيلتي وخطاي أقصرُ من خطاك"!!
وكان الذي سبقت إليه في سبيل وطنٍ تعلّمنا من حركة الزمان على الجغرافية أنّه في قلب أمّة عظيمة، وأن الذين توحّدوا في التّعليم من خرّيجي الكلّيّة العربيّة والسّلط الثّانويّة قد مهّدوا لإنجاز في التّعليم والوعي هائل.
أمّا الذين توحّدوا من أهل القرى والمدارس الطّينيّة على ضفّتي النّهر فكان عليهم عبء الامتداد الأفقيّ للوطن والأمّة، وهم –كما نحن- أبناء رجالٍ كلُّ واحد منهم كان "حرّاث الأرض" و"حرّاث المنايا".
ولكَ التّحيّة والسّلام".
وفي الجلسة الأولى، التي ترأّسها الأستاذ الدكتور إبراهيم بدران، تناول الأستاذ الدكتور محمد أبو قديس وزير التعليم العالي والبحث العلمي، في بحثه المعنون بـ"محمد حمدان قيمة وقامة وطنية" محطّاتٍ مِن سيرة المرحوم حمدان العلَم العربي الكبير الذي أفنى حياته في خدمة العلم والتعليم والتنمية والعمل الإنساني بكل معانيه وفروعه.
أمّا البحث الثّاني الذي قدّمه الأستاذ الدكتور ضياء الدين عرفة، الأمين العام للمجلس الأعلى للتكنولوجيا، المعنون بـ"في مشهد بالقرب من العلامة محمد حمدان وومضات من تاريخ عمله الأكاديميّ"، فقدّمَ فيه شهادةً لصاحب المعالي الأستاذِ الدكتور محمد أحمد حمدان بعد زمالة ثُلثِ قرنٍ من تاريخ عمله الأكاديميّ.
وقال: "نجتمع اليوم في مجمع اللغة العربية الأردنيّ في موسمه الثقافي لعام 2020م؛ لتكريم شخصية استثنائية بكلّ ما هو إيجابيّ؛ فهو عَلَـَمٌ من أعلام الفكر، ومنارة في التربية والثقافة والمعرفة والبيان والإرادة وفن الإدارة، وهو قبل كلّ هذا إنسانٌ نبيلٌ وعالِمٌ جَليلٌ، العطاءُ الجزيلُ سَجيّتُه، والتنوع العلمي ميزتُه، والسلوك الحميدُ صفته؛ وهو العالم الأردني العروبي الذي عشق لغة أجداده، وآمَنَ أنَّها ركنٌ أساسٌ من أركان الأمة العربية، ولا يمكن أن تتقدم إلّا بها، واستعرض أهم إنجازاته وإسهاماته في إنشاء بعضِ مؤسسات التعليم العالي، وبعضِ مدارس القطاع الخاص.
وتناول البحث الثّالث المعنون بـ"مواقف ووقفات مع أبي أحمد رحمه الله" للأستاذ الدكتور موسى النّاظر، جانبًا من مآثر الدكتور محمد حمدان -رحمه الله– ورصيده الزاخر في الخدمة العامة.
وتحدث عن معرفته به معلمًا مبدعًا في الرياضيات ومتعلّمًا لها متفوقاً، وإنسانًا رفيع الخلق، كريم العطاء، سيد المشورة في الرأي.
وفي الجلسة الثانية، التي ترأّسها الأستاذ الدكتور فتحي ملكاوي، بدأ الأستاذ الدكتور عدنان عوض ببحثه المعنون بـ"الأستاذ الدكتور محمد حمدان العالِمُ... والإنسان"، الذي تحدّث فيه عن الدكتور محمد حمدان الذي كان له في وطننا الأردن صولات وجولات في مجال تطوير هذا البلد المعطاء والارتقاء به، هذا إضافة إلى شهرته على الساحتين العربية والعالمية، وصنّف إنجازاته في العناية بالمعلم والعلم والمجتمع، إلى محاور عدة: الإصلاح التربوي، وتطوير الموارد البشرية، واستعمال التكنولوجيا في التعليم، وربط التعليم الجامعي بتطوير جميع متطلبات نمو المجتمع وازدهاره، وتوفير البيئة المناسبة للقائمين على التعليم والبحث العلمي، وتوفير الفرصة لغير المتفرغين لإكمال تعليمهم العالي، ودراسة مشاكل المجتمعات والتعاون الوطني والإقليمي والدولي للتوعية والحلول، وأخلاقيات البحث العلمي، وعلى الأخص البحوث الحيوية.
وقدّم البحثَ الأخير المعنون بـ"شهادة ابن"، الأستاذُ الدكتور أحمد حمدان من الجامعة الأردنية، تحدث فيه عن الراحل، الأب، والأخ، والصديق، والمربي ، والمثل الأعلى ، والرفيق...وقال: "هو من علمني أن أحترم كل الناس وأن أُحسن معاملتهم مهما كانت مكانتهم الاجتماعية والاقتصادية، ليس هذا حسبُ، بل أن أعامل الضعيف منهم أحسنَ من القوي، لأنّ الحياة قد قست عليه وهو بحاجة إلى من يهوّن عليه ذلك، فكان يبحث عن طرق لمساعدة كل من حوله حتى لو كان ذلك على حساب راحته وفي بعض الأحيان صحته".
وتابع: "إن محمد حمدان مثل حي على أنّ مَن يجدّ ويجتهد ينال مراده. وفي زمن قد طغت عليه الوساطة والمحسوبية، نحن بأشد الحاجة لمثل هذا المثل الذي يبعث الأمل في روح الشباب الذي لا وساطة له...".
وسيواصل المجمع فعاليّاتِ موسمه الثّقافيّ ضمن محاضرات سيعلن عنها تباعاً على صفحته عبر موقع الفيسبوك: (https://www.facebook.com/jomajma/) وموقعه الإلكترونيّ: (http://arabic.jo/).