عبدالهادي راجي المجالي يكتب: الدولة وزلمها.. أزمة وعي

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/26 الساعة 22:37
مدار الساعة - خاص - كتب - عبدالهادي راجي المجالي قبل أكثر من عامين ربما.. كنت في مأدبا، نودّع طارق مصاروة.. وطارق صديقي الذي أحبني وأحببته، كان مثل الندى في مأدبا حين يعانق شبابيك العاشقات.. وترسم واحدة منهن (دويرة) عشق - كما يقول مظفر النواب - منتظرة أن يحمل لها الطريق خطى حبيب غاب عن الشباك.. حضر الجميع ولم تحضر الدولة، قلنا في داخلنا يومها إن حكومات (غراب البين) ليس مطلوباً منها أن تحضر أصلاً، فمن ماتوا على هوى الأردن يكفيهم أن يحضر الأردن فقط... حين يرحلون. ويومها تهامسنا أنا وصديقي وقلنا، الدولة لا تحترم زلمها.. فعلاً هي كذلك تماماً وهذا الوصف دقيق جداً.. ودعوني أخبركم كيف؟ محمد حسنين هيكل لم يكن قلماً في مشروع عبدالناصر، بل كان عقلاً.. كان رأيه أهم من رأي وزير الإعلام، وأهم من رأي الدوائر الضيقة.. محمد حسنين هيكل يشبه طارق عزيز في العراق، طارق أيضا جاء من الصحافة من جريدة الجمهورية.. ولكنه لم يكن قلماً في ديوان صدام حسين بل كان عقلاً.. ومنظرا في البعث، ومصطفى طلاس ألف من الكتب أكثر مما خاض معارك مع الجيش السوري، مصطفى طلاس اتفقت معه أو اختلفت، لكنه كان عقلا في الرئاسة السورية، ويحترمه البعث والأسد يحترمه أيضاً.. والسعودية ربما تنبهت لهذا الأمر أيضاً، وفردت لتركي الدخيل مساحات هائلة في إعلامها، ليس لأن تركي مذيع مقبول لدى الجمهور.. بل لأنه من مهندسي الرواية الإعلامية السعودية، والعقل الحقيقي في مشروع العربية والحدث.. على رأي برهان غليون.. (لدينا يتم اغتيال العقل).. كيف؟.. في نهاية السبعينيات اغتالت (الألوية الحمراء) الدو مورو رئيس وزراء إيطاليا. والحقيقة أن الألوية الحمراء عبارة عن ذراع قذرة.. كانت تنفذ أجندة (السي اي ايه) ليس أكثر. (الدو مورو) وجد صريعاً باربع طلقات في شارع (جيوفاني)، وقد خضع لمحكمة ثورية أقرب للمهزلة، ونفذ به حكم الإعدام بعد اختطاف طويل.. (الدو مورو) كان مفكراً وأستاذ القانون في جامعات إيطاليا ومؤلفاً.. أنتج مشروعاً مهماً اسمه (التسوية التاريخية) الذي يتيح للحزب الشيوعي الإيطالي الدخول في (توليفة حكومية ) ..وربما مشروعه هو من اطاح به، كان مقتله وصمة عار في تاريخ ايطاليا وأوروبا.. وللآن ما زال ذكر اسمه على مسمع الساسة الإيطاليين يجلب العار لهم.. لأنهم يومها (اغتالوا العقل) على رأي صديقنا المفكر السوري برهان غليون، والذي شخّص مبكراً أزمة السلطة في العالم العربي.. تلك توطئة، أو مجرد تمهيد لما سأقوله ولما رددته سابقاً.. أين نموذج محمد عدنان البخيت في الدولة، أين عدنان ابو عودة، مروان القاسم.. أين نموذج علي محافظة، صلاح أبو زيد، محمد كمال، أين نموذج ليلى شرف.. أين نموذج توجان .. ونموذج هشام غصيب.. أين نموذج فهد الريماوي، أو كامل الشريف.. أين نموذج محمد أمين.. أو حسن التل..

هؤلاء لم يكونوا من موظفي الدولة، هؤلاء كانوا مشاريع وعي في الدولة.. على الأقل كانوا يفهمون التاريخ الاجتماعي، على الأقل كانوا يعرفون تاريخ الأردن.. كانت لديهم القدرة على صناعة مشهد سياسي وثقافي، كانوا يستطيعون أن يستولوا على وجدان الناس ويوظفونه باتجاه مصلحة الوطن العليا.. في الأردن الدولة حيّدت العقل لصالح الموظف.. وتلك أزمتنا، والغريب أن العالم العربي استدرك هذه القصة، وبدأ يتحالف مع العقل.. وليس أدل من ذلك على النموذج المغربي.. حين قدمت الدولة (سعيد العثماني) كرئيس للوزراء، وقد كان قبل ذلك باحثا وفقيهاً، ومفكراً مغربياً من طراز رفيع يمتلك أكثر من (15) مؤلفا أشهرها: (الفقه الدعوي، فقه الحوار، فقه المشاركة السياسية عند ابن تيمية).. حزب العدالة والتنمية في المغرب، دخل السلطة عبر بن كيران وسعيد العثماني، ليس لأجل ثقله في المشهد السياسي، ولا خوفاً من نفوذ الإسلاميين بل ثقله كان بما يمتلك من عقول ووعي في المشهد المغربي والعربي والعالمي.. وراشد الغنوشي دخل السلطة في تونس ليس لأنه (إخونجي)، بل لأنه صنف من قبل مجلة (فوربس) بأنه من أهم (100) مفكر على مستوى العالم. الصورة لدينا مختلفة جداً.. الدولة لدينا تتحالف الآن مع ناشط أو ناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي، وتقدم لهما الدعم اللوجستي الكامل.. الدولة تتحالف مع (46) إذاعة لا نعرف من وافق على تأسيسها، وهذه الإذاعات وظيفتها أن تقدم برامج البؤس الصباحي وبرامج التسول.. الدولة الآن تتحالف مع مطربي (الطخ والذبح والتفجير).. وهؤلاء أشبعونا صراخا وبطولات.. الدولة الان تتحالف.. مع الطارئين على الإعلام، لأجل تسخيف نماذج طارق مصاروة وفهد الفانك وخيري منصور وراكان المجالي. الدولة الان تتحالف مع (المدونين)..الذين يكتبون قصص (الخطبة) لدى الفتيات، والغريب أن أخطر المؤسسات في الأردن تقدم لهم الدعم المادي والمعنوي باعتبارهم مؤثرين في المجتمع ويجب احتواؤهم... الدولة الان تتحالف مع نجوم السوشيال ميديا وأحدهم أصبح وزيراً، وقد نشكل قريبا حكومة (فيس بوك)... الدولة الان تتحالف، مع نجوم البث المباشر، وتعادي بعضهم.. وقد يقوم (مسطول) ما بإثارة مجتمع كامل، وتحرك المؤسسات كاملة من أجل اعتقاله.. في مصر برز ذات يوم (شعبولا) كمطرب للحواري، وكحالة تنفيس عن المجتمع.. لكن مصر تعرف أن شعبها حتى لو قدمت له مليون (شعبولا) , سيبقى يزحف باتجاه (أم كلثوم) ..كون الرذيلة حتى لو تم اعتمادها كحالة ووحدة قياس حتما ستنعدم، بالمقابل لابد للفضيلة أن تسود يوماً... أزمة الدولة لدينا هي أزمة الوعي، ومن في السلطة لدينا يحبون أن يتحالفوا مع الموظف.. ولا يعشقون العقل أبدا بل يمقتونه ويكرهونه.. أعود إلى ما بدأت به مقالي، إلى طارق مصاروة الذي طلب أن يكتب على قبره حين يموت ويسجى على تراب مأدبا : كان أردنياً.. وفعلا حققت زوجته له ذلك، وكتب على قبره كان أردنياً...وأنا أقول لروح طارق مصاروة: كنت أردنيا يا صديقي، لكن ليس ذنبك أنهم كانوا جهلة .. المهم في مئوية الدولة، بدأنا الوطن مع عرار وتيسير السبول.. والبدوي الملثم.. وها نحن نختم المئة عام من عمره، مع متصابي او متصابية على السوشيال ميديا.. صاروا يمثلون طليعة الإعلام والوعي في الدولة.. (يا حسرة)..
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/26 الساعة 22:37