يحجون إلى مكة والقدس معًا..كيف كانت رحلات المغاربة إلى الحج قديمًا؟
مدار الساعة - الحج هو الركن الأعظم من أركان الإسلام، من هذا المنطلق صارت رحلة الحج بالنسبة للمسلم من أهم ما يتمناه ويرجوه في حياته، فيركب لها الأهوال ويتجشم من أجلها الصعاب؛ حتى شاع في العصر الوسيط مثلٌ يصف المجهول الذي قد يصادف الحجاج المغاربة في طريق الحج ذهابًا وإيابًا بالقول «الذاهب إلى الحج مفقود والعائد منه مولود» نتيجة لصعوبة المسالك وكثرة المخاطر والمهالك في الطريق؛ إذ كان على الحاج المغاربي توديع أهله، وكتابة وصيته، فلربما لن يعود إليهم، ولن يعرفوا مثواه.
كما كان الحج للكثير من المغاربة فرصةً التدوين والتأريخ وكسب العلوم عبر المحطات التي يسلكها ركب الحجيج؛ الذي لطالما سار بين جماله العديد من العلماء المغاربة الذين ذكر التاريخ رحلاتهم الحجازية تلك، في هذا التقرير نعود بالزمن إلى العصر الوسيط ونرافق رحلات المغاربة إلى الحج.
«رجالًا أو ركبانًا» رحلة المغاربة في العصر الوسيط لتأدية مناسك الحج
مذ دخولهم للإسلام أفواجًا، بعد الفتح الإسلامي لبلاد المغرب (91هـ – 709م)، شدّ المغاربة الرحال إلى بيت الله الحرام لأداء فريضة الحج، فكانوا يقطعون فيها طُرقًا وبراري شاسعة في مدة طويلة استغرقت شهورًا. يذكر المؤرخون أنّ الركب المغاربي يعود إلى العصر الأموي، العصر الذي شهد استكمال فتح بلاد المغرب الإسلامي.
غير أنّ مصادر تاريخية أخرى تربط الركب والرحلات المغاربية إلى الحج بعصر الموحدين، وتحديدًا إلى الإمام الشهير أبي محمد صالح الماجري المتوفى عام 631 هـ، والذي يعود إليه الفضل في تأسيس أوّل ركبٍ مغاربي اقتصر على رواد طريقته الصوفية، قبل أن تبلغ الرحلات المغاربية إلى الحجاز أصناف وتسمياتٍ عديدة تعود في غالب الأحيان إلى مناطق انطلاقها، مثل الركب الفاسي، والركب المراكشي، والركب الجزائري والتلمساني، والركب التونسي، وأخيرًا الركب الليبي.
راحلة من أجل الحج
ومن أجل الوصول إلى القاهرة، مكان ملتقى ركاب الحجيج؛ كان يستوجب على الحجاج المغاربة التجهيز لهذه الرحلة، فكان الزاد والراحلة من أهمّ ما يشغل الحاج قبل الانطلاق للرحلة وأثناء سيرهم في الطريق؛ إذ كان الحاج المغاربي يحرص على الانضمام إلى ركب يصحبه، سواءً كان بريًا أو بحريًا.
فيذكر ابن بطوطة أحد أشهر الرحالة المغاربة في كتابه «رحلة ابن بطوطة» أنّه اضطرّ للمكوث في مدينة تلمسان لثلاثة أيّامٍ كاملةٍ للتزود والاستعداد للخروج إلى الحج، ويذكر عبد العزيز الفيلالي في كتابه «تلمسان في العهد الزياني» أنّ الحجاج المغاربة كانوا يأخذون معهم ما يحتاجونه من مؤن وملابس ويفضلون طعامًا خفيفًا مثل الفدوش أو ما يعرف اليوم لدى الجزائريين بالقطايف، ويشتهر باسم «الدوداذ» عند أهل تونس، لكونه خفيف المحمل، إذ كان يحمل في أكياس تعرف بالغرائر.
ولأنّ منطلق رحلة المغاربة إلى الحج كانت مدينة أسفي على حدود الأطلسي، فقد كانت خريطة السير الطويلة نحو بلاد الحجاز والتي تمتد لحوالي 5 آلاف كيلومتر، جعلت الحجاج المغاربة مضطرين لتقسيم الرحلة إلى مراحل والنزول بعدّة مناطق قصد الراحة والزاد. فيذكر العياشي في رحلته الشهيرة أنّ الحجاج المغاربة كانوا يشترون في البداية ما يحتاجونه من الزاد في مدينة سجلماسة المغربية، وكانوا يتزودون في الطريق حتى بلاد ورقلة – في لجنوب الجزائري – التي ينزلون بها، ليأخذوا معهم عدتهم وآلة حربهم، ويشترون الغنم بغرض أكل اللحم، ويشترون الإبل لركوبها، كما تشهد المدينة التحاق الركب الجزائري بالمغربي في الطريق.
وأهم ما يوصى الحاج للتزود به هو الجلد الأحمر والقرنفل والكحل والسواك والزعفران؛ إذ يبتاع تلك السلع بمجرّد دخوله طرابلس التي يشتري منها الحجاج المغاربة القمح لإكمال المسيرة، كما يأخذ الحاج المغربي معه اللباس المناسب لكل الفصول وكذلك الفراش والوساد والشموع للإضاءة وحبال وعدة أنواع من الأواني التي قد يحتاجها، حتى الوصول إلى الركب المصري.
وكانت الراحلّة من أهم الأمور التي تشغل بال الرحالة المغاربة في طريقهم إلى الحج، وذلك لطول المدة والطريق، ولأن الراحلة هي وسيلة الحاج في نقل المتاع والزاد والتنقل من منطقة إلى آخرى، كان تجهيزها من أصعب المهام التي تقف في طريق الحاج المغربي، والمحظوظ في ذلك الوقت من يجد بغلةً قوية، لكونها كانت أفضل مركوبٍ في ذلك الوقت.
كانت الطريق من بلاد المغرب إلى المشرق تعرف انتشار الرباطات والزوايا على طول الطريق، فكان الحجاج يأوون إليها، مثل التي أسسها أبو محمد صالح من آسفي إلى الحجاز ووزّع عبرها أولاده وأتباعه للمحافظة عليها وليستقبلوا الحجاج ويقدموا لهم الأكل والشرب وغيرها من الخدمات.
طريق الحج الأفريقية وتوضح الطريقة المغاربية التي كان يسلكها الحجاج في القرن السادس الهجري
أمّا عن خطّ سير الرحلة المغاربية فكان المنطلق من مدينة طنجة التي تشهد توافد الحجاج المغاربة، ويقصدون بعدها مدينة تلمسان، ثم مليانة وبعدها مدينة الجزائر التي تكون ملتقى الحجاج الجزائريين قبل الدخول إلى تونس عن طريق بونة، ويكون الملتقى مع حجاج تونس في مدينة قابس قبل التوجه إلى طرابلس لملاقاة الحجاج الليبيين قبل التوجه إلى القاهرة التي تكون نقطة الجمع بين حجاج شمال أفريقيا وشرقها للدخول إلى الحج عبر طريق الدرب المصري.
«في القدس تستريح النفس» طريق المغاربة يمرّ عبر أبواب الأقصى
في رحلةٍ طويلةٍ كانت تمتد لنحو 5 آلاف كيلومتر وتستغرق شهورًا، كانت طريق المغاربة إلى الحج لابد وأن تكون ممتعةً رغم مشقتها، فقد اشتهر على أهل المغرب في العصر الوسيط حبّهم للعلم وملازمة العلماء. ولم تخلُّ رحلة حجٍ من تواجدٍ فئة العلماء والمريدين للطرق الصوفية التي كانت تستهوي أهل المغرب الإسلامي؛ ولأنّ منارة العلم في ذلك الوقت كانت تشعّ من القاهرة، كان لزامًا على الركب المغاربي النزول بالأزهر الشريف الذي يمكثون فيه على الغالب نحو شهر، قبل التوجه إلى الأراضي المقدسة؛ حيث يستقر العلماء وطلاب العلم في قافلة الركب المغاربي في جامعة الأزهر، للاستماع إلى الدروس الدينية وزيارة أضرحة أولياء الله الصالحين.
كان الحجاج المغاربة الباقون يفضلون الاستقرار بجوار الأضرحة والجوامع أو بالأرياف القريبة من القاهرة، ومن العلوم التي درسها الحجاج المغاربة في طريقهم إلى الحجاز علوم القرآن الكريم من تفسير وقراءات، وذلك لحرصهم في نقل قراءة «رواية ورش» المنتشرة في المغرب العربي، وكذا علوم الحديث.
وبسبب كثرة المرتحلين الذين جعلوا من الأزهر الشريف محطةً لطريقهم؛ صار للحجاج والعلماء المغاربة رواق خاص من أروقة الأزهر سميّ رواق المغاربة والذي صار في ما بعد محل إقامة للطلبة الوافدين والرحالة القادمين من برقة وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش. ويذكر المقرّي في رحلته الحجازية أنّه وبمجرّد وصوله إلى الأزهر الشريف التف حوله «جماعة من طلبة العلم فأخذ يملي عليهم الحديث ويلقنهم العلوم، لا سيما علوم العقائد الذي كان من اختصاص علماء المغرب، وكان المذهب المالكي في مصر امتدادًا للمذهب نفسه في شمال أفريقيا».
ولم يكن الأزهر الشريف المزار الوحيد للحجاج المغاربة في طريقهم إلى مكة؛ فقد كانت قافلة الحجاج المغاربة تنزل بالقدس الشريف، سواءً في طريق الذهاب أو في طريق العودة، لما للمكان المقدس من وقعٍ في قلوب أهل المغرب العربي؟
ومن بين المآثر التي لا يزال التاريخ يذكرها للترابط بين أهل المغرب والمسجد الأقصى هي رحلة أبي مدين الغوث إلى الحج والتي عادةً ما كان يجعل القدس الشريف محطةً أساسية فيها؛ إذ إنه وفي إحدى رحلاته إلى الحج، وفي الوقت الذي كانت فيه الدماء تبلغ الرقاب بالقدس الشريف بعد اقتحام الصليبيين لها، جمع أبو مدين طلابه بنية الحج والجهاد في سبيل الله.
وفي أثناء عودته من الحج مع الوفد المغاربي، يذكر الدكتور عبد الحليم محمود في كتابه «شيخ الشيوخ» أنّ أبا مدين انخرط مع تلاميذه في جيش صلاح الدين الأيوبي في معركة «حطّين» الشهيرة التي انتصر فيها جيش صلاح الدين، وفتحت من خلالها مدينة القدس، وكان للمغاربة دورٌ مهم في حيثياتها، إذ فقد أبو مدين الغوث ذراعه في تلك المعركة. وعرفانًا للمغاربة على جهادهم، أوقف ابن صلاح الدين الأيوبي وقفيةً امتدت من باب المغاربة حتى باب السلسلة لأهل المغرب، تحولت تلك الوقفية إلى محجٍ سنويٍ للحجاج المغاربة في طريقهم إلى مكة.
ليس الحج فقط.. كنوزٌ تاريخية من رحلات المغاربة الحجازية
يسافر إلى الحج عشرات الآلاف من المغاربة كلّ سنة، غير أنّ التاريخ خلّد فقط رحلات العلماء والأدباء الذين دوّنوا مغامراتهم بين أسطر رحلاتهم، وهي الرحلات التي كانت المصدر الأساسي لكتابة تاريخ العديد من البلدان المغاربية، من خلال مدونات التاريخ وكتب الفهارس والتراجم التي كشفت الكثير عن حياة البلدان التي كانت طريق هؤلاء الرحالة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
كانت رحلة العياشي الحجازية سنة 1064هـ، قصد الحج والمسماة بـ«ماء الموائد» وهي الرحلة التي ذاع صيتها واشتهرت بين ساكني تلك الفترة من التاريخ لما اشتملته من وصفٍ للبلدان المصدر التاريخي لمجمل بلدان المغرب العربي، نفس الأمر ينطبق على رحلة البطوطي المسماة «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» .
ويذكر المؤرخون أنّ موسوعة المقرّي التاريخية الخاصة ببلاد المغرب والأندلس والمسماة بـ«نفح الطيب في ذكر غصن الأندلس الرطيب» والتي أبدع فيها المقري في وصف بلاد الأندلس وما تلاه من بلدان المغرب قد نظمها وهو قافل بالعودة من الحج بعد نزوله في دمشق، بدوره ألف الورثيلاني كتابه «نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار» لتكون شاهدةً على رحلته الحجازية إلى الحج، وغير الورثيلاني الكثير الذين كتبوا مئات الرحلات في شكل مخطوطاتٍ تحفظ للمغاربة تاريخهم.
لا يحلو الطريق إلّا بزيارة البقيع
للمدينة المنوّرة مكانة كبيرة عند أهل المغرب العربي، الذين اشتهروا منذ الفتح الإسلامي لبلاد المغرب بحبّهم وإرتباطهم بآل البيت والدفاع عنهم؛ ما جعلهم مزارًا لإدريس الأوّل في العهد العباسي. كما أنّ المذهب المالكي – نسبةً إلى إمام المدينة مالك بن أنس – كان المذهب الغالب على أهل المغرب؛ فكان من الواجب أن تنال المدينة المنوّرة الحيّز الأكثر من رحلة المغاربة إلى الحج إلى حدّ وسم الرحلة كلّها باسم الرحلة الحجازية.
يذكر ابن خلدون أنّ حج المغاربة المبكر، يعود إلى اتباعهم وأخذهم بمذهب الإمام مالك، فيذكر أن رحلتهم – في غالبيتها – كانت إلى الحجاز، ويضيف أنهم: «اقتصروا على الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم – يومئذ – وإمامه مالك وشيوخه من قبله، وتلميذه من بعده».
صورة أرشيفية لأضرحة زوجات النبي محمد وبعض الصحابة في البقيع قبل هدمها
وكان أغلب الحجيج المغاربة يمكثون المدة الأطول من رحلتهم في المدينة المنوّرة لما لها من وقعٍ في نفوس المغاربة المشتاقين لمدينة رسول الله، فيذكر فضيل الورتلاني في رحلته أنّه أقام في المدينة المنورة سبعة أشهر قضاها في التزود بالعلوم وارتياد مجالس العلماء، كما كان سكان المدينة المنورة يولون إهتمامًا بالغًا بالحجيج المغاربة؛ إلّا حدّ إعتبارهم من سكان المدينة ويذكر الورتيلاني أنّ أوّل وجهة للحجيج المغاربة كانت زيارة البقيع والسلام على شهداء بدر، ثم الصلاة بالمسجد النبوي.