واشنطن بوست: الانكماش السكاني شبح يطارد بوتين.. لماذا لا ينجب الروس؟

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/21 الساعة 12:28
مدار الساعة - حالة من انخفاض الإنجاب والانكماش السكاني تتزايد في روسيا، مع توقعات روسية متشائمة خصيصًا لهذا العام بسبب تداعيات جائحة كورونا ولأسباب محلية متعددة أخرى تشرحها مراسلة «واشنطن بوست» في موسكو إيزابيل خورشوديان في تقريرها الحديث للصحيفة، وكيف يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين جاهدًا تخفيف هذا التقلّص. تهديد الانكماش السكاني
يبدأ التقرير من حالة ماريا إيڤانكو التي قررت الالتزام بعددٍ محدد لأفراد أسرتها حتى قبل أن يشهر منجم الفحم الذي تعمل به إفلاسه، وقبل أن تأتي جائحة الكورونا وتهبط بها إلى حالةٍ أعمق من اللاستقرار والغموض المستقبلي. أنجبت إيڤانكو طفلها الأول منذ 15 عامًا، وقد علمت من حينها أنه سيكون طفلها الأول والأخير. كذلك حال إيڤجينيا بيتروڤا التي تقابلها مراسلة «واشنطن بوست». تعمل بيتروڤا أيضًا في منجم فحم بالقرب من مدينة كيميروڤو السيبيرية، ولديها طفل واحد فقط. وبالمثل الصحافية المحلية إيلينا بونكراتوڤا التي لديها ابنة واحدة تبلغ من العمر 25 عامًا. تدلّ الأسر الصغيرة هذه على حالة الركود في معدلات المواليد في روسيا وتراجع عدد السكان، وهو ما زادت الجائحة من حدّته. صرّح الرئيس الروسي ڤلاديمير بوتين بأن تقلص حجم روسيا يؤرّقه، ولهذا يعطي بوتين حاليًا الأولوية الوطنية لعكس حالة الانكماش السكانيّ في روسيا محاولةً منه لتحفيز الروس على تكوينِ أسرٍ أكبر بحلول عام 2024. تتجلى المشكلة بوضوحٍ كبير في كيميروڤو والسهول المحيطة بها، وهي منطقة تقع على بعد حوالي 4184 كم شرقًا من موسكو، وقد انخفض عدد السكان فيها بنحو 100 ألف في العقد الماضي فقط ليصل المجموع إلى 2.6 مليون نسمة وفقًا لوكالة الإحصاء الروسية روستات. ومن المتوقع أن تشهد روسيا أكبر انخفاضٍ سكانيّ لها هذا العام منذ 2006؛ وذلك بسبب إغلاق الحدود أمام المهاجرين ووفيات فيروس كورونا التي وصلت إلى أكثر من 36 ألف حتى يوم كتابة التقرير. ووفقًا لتقريرٍ صادر عن موقع آر بي سي الإخباريّ الروسي، فإن الحكومة تتوقع انخفاضًا في عدد السكان يقدر بحوالي 352 ألف و500 نسمة هذا العام، وتقدّر الانخفاض المحتمل بين عامي 2020 و2024 بحوالي 1.2 مليون نسمة. يذكر التقرير أيضًا تقديرات أليكسي راكشا، وهو أحد المتخصصين الديموغارفيين المستقلين، والذي يتوقع بأن عدد سكان روسيا الذي يبلغ الآن حوالي 146.7 مليون نسمة قد ينخفض بمقدار 700 ألف هذا العام، وهو انخفاض سيكون بنسبة 0.5% تقريبًا من مجموع السكان في حال تبيّنت صحة هذه التقديرات. في المقابل يتوقع أن ينمو عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية بنسبة 0.72% عام 2020. تطرح كيميروڤو وغيرها من المناطق الروسية تحدياتها الخاصة، فصناعة الفحم التي ازدهرت خلال فترة الاتحاد السوفيتي مثلًا، لم تعد تمثّل الآن أكثر من عبءٍ على كاهل أهل المنطقة. تنوّه المراسلة إلى أشهر معلم في مدينة كيميروڤو، وهو نصب تذكاريّ لعمال المناجم، وظيفة صارت ترمز الآن إلى التدهور والضنك. وتنقل المراسلة تعقيب إيڤانكو التي تخطط لمغادرة كيميروڤو بسبب عثور زوجها على عملٍ في منجم تابع لمدينة نوڤوسيبيرسك القريبة: «لو كان لدينا المال لإعالة أطفالنا بالطبع لاختلف الوضع، وكنا سننجب أطفالًا أكثر». لو استطعنا لغادرنا
كان قطاع تعدين الفحم يواجه صعوبات متعددة قبل أن تضربه الجائحة، فقد أدى ضعف الاقتصاد إلى انخفاض الطلب على الفحم؛ ما نجم عنه تسريح من الخدمة للمزيد من عمال المناجم. يحصل العمال على رواتب شهرية تقلّ عن 400 دولار، وهو مبلغ يقارب نصف متوسط الرواتب في المنطقة، ويقول أولئك الذين احتفظوا بوظائفهم إنهم لم يتقاضوا أجورهم لمدة أحيانا تصل إلى ثلاثة أشهر. يعود التقرير إلى إيڤانكو التي عمل والدها وزوج أختها في مناجم الفحم قبل تسريح العمال الأخير: «اعتمدت العائلة كلها في العيش على معاش والدي وراتب أمي. تتكون عائلتنا من ثلاث شقيقات، وليس لدينا سوى ثلاثة أحفاد». يميل الشباب إلى الهجرة إلى مدن سيبيرا الأخرى أو إلى موسكو؛ ما يشكّل ضربةً أخرى لأعداد المواليد المحليين. اعتاد برنامج التعدين في إحدى الكليات المحلية استقبال حوالي 90 طالبًا في كل فصل دراسي، لكن في العام الماضي حضره طالبٌ واحد فقط. وتؤكد الصحافية الروسية المحلية بونكراتوڤا أن الكثيرين «يرغبون في المغادرة، كل من تحدثت إليهم هنا يقولون إنهم كانوا سيغادرون لو كان ذلك في إمكانهم». وتحيل المراسلة إلى تقرير ديموغرافي للأمم المتحدة صدر في العام الماضي مفاده أن التوقعات «المتشائمة» لروسيا تقول باحتمالية انخفاض عدد السكان إلى 124.6 مليون بحلول عام 2050، وإلى 83.7 مليون بحلول عام 2100. ويتوقع المتخصص الديمغرافي راكشا – الذي كان يعمل مع وكالة الإحصاء الروسية روستات حتى هذا الصيف – أن تتسبب الجائحة بانخفاضٍ أكبر في العام المقبل، ومن المؤشرات الأولى على ذلك انخفاض الزيجات المسجلة هذا العام حتى شهر يوليو (تموز) بنسبة 23% مقارنة بنفس الفترة من العام الماضي وفقًا لأرقام روستات. يوضح راكشا أن الجائحة جعلت الأمور خارجة عن التوقعات: «في مثل هذه الأوضاع يُؤخّر الناس الإنجاب». وتقول المراسلة إن حلّ بوتين لهذه المسألة يكمن في الإعفاءات الضريبية الواعدة للعائلات الكبيرة، والمكآفات لمن لديهم أطفال. لكن راكشا يقول إن ما يُسمى برأس المال المخصص للأمومة أظهر نجاحه عند تقديمه لأول مرة عام 2007، لكن تلقي مبلغ يقارب 6 آلاف دولار لمرة واحدة عند إنجاب الطفل الثاني يقلّ بكثير عما هو مطلوب في نظر الكثير من الروس. توجه بوتين هذا العام نحو دفع مبلغٍ مماثل للعائلات حتى عند إنجابهم للطفل الأول. حُولت ثلاثة من أجنحة الولادة الخمسة في منطقة كيميروڤو مؤخرًا إلى مراكز لعلاج الحالات المصابة بفيروس كورونا. قبل حدوث هذا التغيير بقليل تمامًا في شهر سبتمبر (أيلول) ولد سيرجي إيڤجينيڤيتش بارانوڤ الطفل الرابع لعائلته، والذي يستفيد والداه من إعانات الأمومة، لكنهما يشكوان من التضاربات والصداع البيروقراطي الذي يصاحب ذلك. توضح المراسلة بعضًا من تفاصيل حالة هذه العائلة: تلقى الوالدان مبلغ يقارب 7800 دولار لمرة واحدة في إطار برنامج دفعٍ سابق من أجل أولادهم الثلاثة الأوائل، لكنهم تلقوا ما مقداره 300 دولار لمرة واحدة من أجل الطفل الرابع، ومن دون أيّة علاوات شهرية إضافية. تقول الأم إيلينا كالينشينكو إنه كان من المفترض أن تحصل الأسرة على قطعة أرض من الحكومة مكافأةً على إنجاب الطفل الثالث، لكنهم لم يحصلوا عليها بعد، بالرغم من مرور أربع سنوات، مضيفةً أنه توجّب عليهم دفع ما يقارب 500 دولار لمجرد إعداد الملفات المطلوبة للأرض، ومتذمرة بالقول: «أيّ دعم حكومي هذا!». وتصف المراسلة شقة العائلة الضيقة المكونة من غرفتيّ نوم، والقريبة جدًا من منجم فحم، لدرجة أن منزلهم يهتزّ كل ثلاثة أيام بسبب التفجيرات الجوفية. تعدّدت الأسباب
يحلّ شبح الموت على منطقة كيميروڤو؛ ففي قسمٍ صغير منها حُفر 25 مدفن جديد في صباح يوم أحد. وحتى صفوف القبور حولها جديدة أيضًا؛ إذ تعود تواريخ الوفاة إلى أشهر سبتمبر (أيلول) وأكتوبر (تشرين الأول) وأوائل نوفمبر (تشرين الثاني): (من سبتمبر إلى نوفمبر). تعلن روسيا رسميًا عن أقل من 40 ألف حالة وفاة بسبب فيروس كورونا، لكن راكشا يشتبه في أن الرقم الفعلي أعلى بكثير بناءً على مقارنات مع إحصاءات الوفيات السابقة في البلاد. وعانت مناطق البلاد البعيدة عن موسكو بصورةٍ خاصة خلال الجائحة لافتقارها إلى أسرّة المستشفيات الكافية والأدوية وغيرها من الخدمات الطبية. في الواقع تنتشر أمراض الجهاز التنفسي والسرطانات في منطقة كيميروڤو من قبل الجائحة، ويعزى ذلك إلى التلوث الشديد. ما زل معدل الوفيات هناك من بين أعلى المعدلات في روسيا -14.6 حالة وفاة لكل ألف شخص عام 2019، مقارنة مع تسعة مواليد لكل ألف شخص. وتنقل المراسلة تصريح الناشط المحليّ مكسيم أوشاتوڤ لها: «اسأل أيّ شخص هنا، وسيكون له شخص عزيز مات بسبب السرطان». في العام الماضي ناشد 15 شخصًا من قرية مجاورة رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو طالبين الحصول على اللجوء ضمن مقطع فيديو لأن منازلهم تقع على بعد خطوات فقط من منجم مهجور تحت الأرض يقولون إنه ما يزال يصدر الإشعاعات. وتبدو قطعة أرض هناك وهي مطوّقة بعلامات «توقف ممنوع الدخول». وردّت الحكومة الكندية لاحقًا بعدم قدرتها على النظر في طلبات السكان، إلا في حال أهليّة المتقدمين لصفة اللاجئين بموجب قانون الهجرة. كان ڤيتالي شيستاكوڤ يعيش على طريق المنجم المهجور، لكنه انتقل إلى المنطقة مع زوجته وابنته الصغيرة قبل ست سنوات. يقول شيستاكوڤ أنهم فكّروا في إنجاب طفلٍ آخر، لكن قبل عامين اضطر إلى أن ينقل كلًا من زوجته وابنته إلى المستشفى بعد أن مرضا فجأة. شخّص الأطباء لاحقًا سبب المرض بالتسمم بأول أكسيد الكربون، بالرغم من أن التدفئة بالغاز في المنطقة أوقفت في فصل الصيف. ناشد السكان حكومتهم طالبين نقلهم إلى مكان آخر، ويقول شيستاكوڤ إنه بدأ إضرابًا عن الطعام لمدة تسعة أيام للفت الانتباه إلى القضية، لكن السلطات المحلية تجاهلت محاولاته وفقًا لما تنقل المراسلة عنه. يسري نفس الحال على ڤلاديمير جورينكو وزوجته سڤيتلانا اللذين يعيشان على أطراف غابة التايغا في قرية ذات طرقٍ غير معبدة تمتلئ باللافتات التي تطالب مصانع الفحم بالابتعاد عنهم. لدى جورينكو وسڤيتلانا ابنان، أحدهما لديه ثلاثة أطفال. نقل الابن عائلته الصغيرة من منطقة كيميروڤو إلى كراسنودار على البحر الأسود. يصف غورينكو منطقة كيميروڤو قائلًا: «العيش هناك موت. أراد –ابنه – أن يكبر أطفاله الثلاثة بصحة جيدة».
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/21 الساعة 12:28