الذاكرة الخفية للمجتمع.. لماذا نبجل قيادة ونحتقر أخرى؟

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/21 الساعة 12:23
مدار الساعة - وجدتها! تلك الكلمة التي قالها أرشميدس صارخًا، وظلت عالقةً في الأذهان حتى الآن، وكلما وصل أحدهم لفكرة كانت غائبة عن ذهنه، أو لجواب يبحث منذ فترة طويلة عن جوابه، أو حتى لو باغتت أحدنا فكرة عبقرية كأنها وحي يصرخ: وجدتها! ولكن قبل استخدام هذه العبارة، عليك التأكد أولًا من أنها فكرتك. وهذا لأن الفكرة التي تراودك قد تكون فكرةً قرأتها من قبل، أو سمعتها من شخص آخر، ونسيت مصدرها، وهُيئ إليك أنها تخصك. لكن هل يمكن أن تحصل هذه الظاهرة على مستوى جماعي؟ أي: تحصل لمجتمع بالكامل؟ هذه الظاهرة الاجتماعية المثيرة يطلق عليها اسم: الذاكرة الخفية للمجتمع. كيف يحدث هذا للفرد، وللمجتمع ولماذا؟ نجيب عن هذه الأسئلة في هذا التقرير. سرقة أدبية أم فقدان ذاكرة نفسي؟ في علم النفس والماورائيات، تحدث عالم النفس السويسري الشهير كارل يونج عن ظاهرة الذاكرة الخفية لدى الفرد، وكان هدفه: معرفة طبيعة ومصدر المعلومات التي يحصل عليها الوسيط الروحي في جلسات تحضير الأرواح. وأثناء واحدة من تلك الجلسات ذكر الوسيط الروحي تفاصيل وفاة أشخاص ادعى أنه تواصل معهم روحيًا. وأنهم يتحدثون معه في تلك الجلسة، ومن مراقبة يونج لهذا الوسيط شعر بصدق كلامه. ما كان يهم يونج في تلك اللحظة هو معرفة الظاهرة النفسية التي تجعل الوسيط الروحي يحس بهذا الشعور، بالإضافة إلى طريقة حصوله على المعلومات التي قالها في جلسة تحضير الأرواح، حتى اكتشف يونج أن الوسيط الروحي قد قرأ عن الحادثة في إحدى الجرائد الموجودة بمنزله، ونسي الأمر تمامًا بمجرد أن ترك الجريدة أو بعد ذلك بعدة أيام، ثم عادت تلك المعلومات على شكل إلهام أو وحي، أو رسائل من أرواح كما ظن الوسيط، بينما هي معلومات كانت في عقله بالفعل وعادت إليه بعد أن مر بظاهرة يُطلق عليها في علم النفس فقدان الذاكرة النفسي، وهي الظاهرة التي شرحها كارل يونج في هذا الكتاب بالتفصيل. فقدان الذاكرة النفسي ليس هو الذاكرة الخفية للفرد، بل هو المسبب للذاكرة الخفية، فتلك هي المساحة التي تختبئ فيها المعلومات والأفكار التي تعرض لها الشخص ونسيها تمامًا، وهو الأمر الذي برر العديد من الوقائع التي أطلق عليها سرقات أدبية في التاريخ. فمثلًا في 1903 كتب الروائي الشهير مارك توين رسالة للكاتبة هيلين كيلر، بعد أن اتهمت بالسرقة الأدبية من الكاتبة مارجريت كانبي بسبب قصتها القصيرة والتي كانت تشبه إلى حد كبير قصة مارجريت وفي رسالته قال مارك توين كل الأشياء التي تنبثق من عقل الكاتب هي سرقة أدبية، ويقصد توين أنه ليس هناك فكرة أصلية، وأن كل الأفكار التي يكتبها أي كاتب هي مجرد إعادة تدوير لكتابات ومواقف وقصص مر عليها من قبل. أكد على هذا الكلام عالم النفس رونالد كيلوج في كتابه سيكولوجية الكتابة، موضحًا أن الأمر لا يقتصر على الأدباء وفقط، بل أي إنسان تراوده فكرة يظن أنها من وحيه الخاص، فما هي إلا مزيجًا من أفكار قديمة تعرض لها، أو هي نفسها بالضبط سمعها من قبل، ولكنه وقع فريسة ظاهرة فقدان الذاكرة النفسي، حيث يأخذ تلك المعلومات، ولكنها تخبأ في ذاكرته الخفية. ولكن السؤال هنا: كيف يمكن لتلك الظاهرة الفردية أن تحدث لمجتمع كامل؟ ما أكده علماء النفس والاجتماع، أن ظاهرة الذاكرة الخفية تحدث دون وعي ودون تعمد من الفرد وكذلك الحال بالنسبة للذاكرة الخفية للمجتمع، ولكنها تحصل بطريقة متعمدة يتفق المجتمع على فعلها دون أن يُصرح عن ذلك بوضوح، لأغراض اجتماعية أو سياسية، وهو ما سنتحدث عنه الآن. نسيان متعمد لجهود الأقليات؟
ذُكر مصطلح الذاكرة الخفية للمجتمعات للمرة الأولى في أواخر الثمانينات، في دراسة سُئل المشاركون فيها عن مواقفهم تجاه قضايا، مثل: المساواة في الحقوق، واحترام البيئة، والسلام، وكانت ردودهم إيجابية. ولكن عندما ذكرهم القائمون على الدراسة بالأقليات التي نفذت الحملات الأولى، والمجهود الأساسي الذي له الفضل في هذا التغيير، تغير رأي المشاركين في الدراسة فورًا. أصحاب الجهود الأولى، مثل مناهضي العنصرية، ودعاة السلام، وغيرهم من المطالبين بالتغيير بطرق مختلفة، منها الاحتجاج والتظاهر وإحداث ضجة في المجتمع تلفت نظر الجميع، وبعد تذكير المشاركين بهذه الحقائق بدأ تقديرهم للقيم التي تحدثوا عنها بإيجابية يتغير للأسوأ بعد تذكرهم لأصحاب الفضل الحقيقيين. وبعد عقود أصبح تأثير الأقليات ظاهرة علمية يتحدث عنها في المراجع العلمية، تصف تأثير الأقليات على رؤية الأكثرية تجاه قضايا معينة. في كتاب جامعة أوكسفورد للتأثير الاجتماعي، يوضح الفصل الخاص بتأثير الأقليات أن معظم الحقوق التي يحصل عليها المجتمع ككل، تكون نتاج مجهود بذلته مجموعة من الأقليات فقط، عن طريق الاحتجاج والنضالات الشعبية التي عادة لا يقتنع بها الأغلبية وقت حدوثها، ويذكر الكتاب أن الأغلبية قد تهاجم تلك الأقلية أثناء مطالبتها بتلك الحقوق لأنهم في نظرهم مجرد محدثي شغب، ولكن بعد حدوث التغيير تتمتع الأغلبية بهذه الإنجازات وتُنسى الأقلية التي ناضلت من أجلها. فابريزيو بوتيرا، أستاذ علم اجتماع في جامعة لوزان بسويسرا، ودرس تأثير آراء الأقلية على الأغلبية، يقول: إنه «على المستوى الفردي يحدث ذلك للشخص دون وعي. ولكن على مستوى المجتمع ككل، يمكن أن يكون أكثر تعمدًا» في نسيان أصحاب الفكرة الأوائل. تنطبق تلك الظاهرة أيضًا على الثورات، فعادة المجموعة التي تخرج في ثورة ضد أي نظام، ينظر إليها باستهجان ورفض من جانب المجتمع الذي يخشى من التغيير والمجهول، وفي بعض الأحيان يهاجم المجتمع هؤلاء الثوار بوضوح وعلانية وفي بعض وسائل الإعلام، مطالبين إياهم بالذهاب إلى منازلهم حتى تعود الحياة إلى طبيعتها، نظرًا لما تتسبب فيه احتجاجاتهم من قلق وتوتر للاستقرار الذي تعود عليه المجتمع، ولكن بعد أن ينجح هؤلاء الثوار في تحقيق التغيير المنشود، وتبدأ بعض القيادات الجديدة في تسلم زمام الأمور، يُنسب الفضل لهم في التغيير وتُنسى تلك الأقلية التي دفعت الثمن، وأحيانًا تضحي بحياتها. الذاكرة الخفية للمجتمع.. وتغيير القيادة
في دراسة لجامعة كامبردج نشرت في 2009 طُرحت نقطة مهمة: إن نسيان المجتمعات لصاحب الفضل في التغيير قد يأتي بدون وعي مع تغير القيادة، ويحدث هذا حين تبدأ قيادة ما ببعض المجهودات لإحداث التغيير، ثم تأتي قيادة أخرى تستلم منها الحكم لتتابع تلك التغييرات، فينسب المجتمع الفضل كاملًا للقيادة الجديدة، وينسى تمامًا مجهودات من سبقها، وتُسجن في صندوق الذاكرة الخفية للمجتمع. يعتبر قانون الإصلاح الزراعي في مصر، وتأسيس البنك المركزي من الأمثلة الواضحة على تلك الظاهرة، فالبنك المركزي أنشئ بقرار جمهوري عام 1961 ككيان مستقل، وهو يمثل البنك الرسمي للحكومة المصرية، وجاء القرار من رئاسة الجمهورية وحتى الآن يشار إلى هذا المشروع على أنه واحد من إنجازات مصر الجمهورية، لا الملكية، على يد مجلس قيادة الثورة. ولكن بين أيدينا وثيقة تاريخية رسمية ننشرها حصريًا من عام 1949 صادرة عن وزارة المالية المصرية في العهد الملكي، وممهورة بختم الوزارة انظر الصورة في الأسفل، تثبت الوثيقة أن فكرة البنك المركزي طرحت ابتداءً في مصر الملكية، والوثيقة لدراسة عن تأسيس بنك مركزي في مصر، بتشكيل هيئة من ثلاث شخصيات مختصة بالوزارة آنذاك. أما الإصلاح الزراعي، والذي يعد في أذهان المجتمع المصري واحدًا من أهم إنجازات ثورة يوليو، خاصة أنه تم تنفيذه والترويج له في نفس عام الثورة 1953، سبقه مشروع بدأه الملك فاروق منذ 1948، وكان المشروع تحت اسم مشروع الإكثار من الملكيات الصغيرة، وهو ما يعرف الآن باسم الاستصلاح الزراعي، وكان هدف الملك فاروق من هذا المشروع هو منح بعض الفلاحين المعدمين أراضي زراعية، وموارد تساعدهم على العمل والمعيشة، وبالفعل طُبق هذا المشروع على فلاحي كفر سعد بدمياط، ومنحهم الملك أراضٍ زراعية من أراضي الدولة المستصلحة دون المساس بملكيات وحقوق الآخرين، وقد استفاد ما يقرب من 600 أسرة في كفر سعد بهذا المشروع. ولكن بعد قيام الثورة، وقعت الظاهرة الاجتماعية التي نتحدث عنها، الذاكرة الخفية للمجتمع، ونسي المجتمع الجهود السابقة أثناء حكم الملك فاروق لمصر، ونُسب الفضل كاملًا لقادة ثورة يوليو. في حالة كهذه، ترجح الدراسة أن الظاهرة تحدث بتعمد لا واع من المجتمع؛ نظرًا لوجود ميل نفسي للقيادة الحالية، ورفضهم ذهنيًا للقيادة السابقة حتى وإن كان لها الفضل في الإنجاز الذي استكملته القيادة التي تسلمت زمام الأمور. فقدان الذاكرة النفسي، والذاكرة الخفية للمجتمعات، كلها ظواهر قد تظلم آخرين سبقوا في تنفيذ تغيير مهم وفعّال في المجتمع، أو في توثيق فكرة للمرة الأولى. وبعد تناول الفكرة أكثر من مرة من آخرين يضيع أصل الفكرة الأول، والسؤال الذي يجب أن يُسأل: كم من تغييرات موجودة في مجتمعاتنا العربية الآن نسي المجتمع صاحب الفضل فيها؟
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/21 الساعة 12:23