العزة يكتب: معارضون أم مستعرضون
بقلم د. مهند العزة
"العرب ظاهرة صوتية" إحدى مؤلفات المفكر والكاتب الراحل عبد الله القصيمي الذي تحول من عالم سلفي من علماء الحرم إلى ملحد قضى حياته في المنفى وتوفي فيه منذ سنوات، يناقش القصيمي في مؤلفه هذا حقيقة تأثير العرب في الحضارة والتطور، ليصل إلى نتيجة مؤداها أن العرب خصوصاً في الوقت الراهن لا يعدو أن يكونوا مجرد ظاهرة صوتية.
اختارت مجموعة من أنصاف المثقفين وأشباه المتعلمين أن يكونوا أيضاً ظاهرةً صوتيةً لكنها غايةً في النشاز لحد تدفع بك إلى التقيّؤ وأنت تستمع لبعضهم، واتخذ بعضهم ولا أقول كلهم، من منصات التواصل الاجتماعي وسيلةً لتربح وملء وقت الفراغ وتعويض فشل ذريع في شهرة أو نجومية لم تسعفهم مواهبهم المحدودة ومعارفهم الضحلة وأفكارهم السطحية على تحقيقها في الأردن، فشدوا الرحال إلى دول أخرى محاولين ركوب موجة من نوع مختلف وإن كانت قديمة نوعاً ما، وهي ما يسمى بـ "معارضة الخارج"، فهل يمكن تصنيف هؤلاء فعلاً بأنهم تيار معارض أو معارضة كما يعرفها علم السياسة وممارساته؟
المتابع لبعض النشطاء المقيمين في الخارج من المصريين والخليجيين واليمنيين والسوريين والعراقيين الذين يمكن تصنيفهم بأنهم تيار معارض حقاً لما تتسم به طريقة ومحتوى طرحهم وتناولهم لقضايا أوطانهم من تماسك وثراء في الفكر الذي يستعصي عليك إنكاره وإن اختلفت معه، ناهيك عن وضوح رؤيتهم الاستراتيجية لتحقيق الإصلاح الذي يطالبون به؛ يكتشف عمق الهوّة بين هؤلاء المؤهلين لأن يكونوا معارضين بحق مهما اختلفت معهم، وبين جوقة "أبو صياح" الذين يطلون علينا من اليوتيوب والفيسبوك بشكل شبه يومي في بث يطول أحياناً لساعة وربما ساعتين يمضي نصفها في تسوّل "اللايكات" والمشاركة في القناة ومشاركة البث... ليأتي بعد ذلك محتوى البث الذي وبكل صدق أقل ما يقال عنه أنه فارغ من مضمونه ويبلغ من الهرطقة والعبثية حد لا يمكنك حتى وصفه بالعشوائية، إذ عبثاً تحاول أن تخرج بفكرة أو رؤية أو موضوع متماسك واحد له بداية ووسط ونهاية، فمعظمهم يبدأ بسرد قصص ما أنزل الله بها من سلطان، وكأني بهم يجلسون على عتبة باب بيتهم ثم يقفزون قبل أن يكملونها إلى قصة أخرى ثم يعودوا إليها من غير حيث انتهى وهكذا من حبل إلى آخر مثل بهلوان زاغ بصره وارتعشت قدماه، ثم يتناولون أخبار ومعلومات تعج بها وسائل الإعلام المحلية عندنا وتذاع ليلا ونهار عبر القنوات الإخبارية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، ليقدموها للمشاهد على أنها أسرار وسبق إخباري من لدنهم في استخفاف مفضوح لعقل متابعيهم، لكنه وللإنصاف استخفاف غير مقصود إذ هذا أقصى ما لديهم لخواء فكرهم وضحالة معارفهم وانعدام خبرتهم، وكأني بهم ينطبق عليهم قول القائل: "لستُ بخيلةً ولكنّي فقيرةُ الخزائنِ".
الصراخ والسباب متفاوت الفحش وكثرة الأيمان المُغلَّظة والتنهد الذي يستدركون به انقطاع تسلسل أفكارهم العشوائية الذي تنم عنه ترديدهم لعبارات: "وين كنّا؟ عندي مواضيع وقصص كثيرة عشان هيك بقفز من موضوع لموضوع، مش عارف من وين أبدأ...."؛ سمات مشتركة بين هؤلاء المستعرضين، هذا فضلاً عن العنصرية البغيضة التي تفوح رائحتها الكريهة من فم بعضهم والتي تنبئ عن الافتقار للمصداقية والوطنية الحقة التي يدعّونها، إذ لم يملك أحدهم ممن يقيمون في بريطانيا ويستظلون بقوانينها التي لا تميز ضد أحد ولا تسأل عن عرقه أو دينه أو انتمائه؛ القدرة المعرفية ما يرد به على الأستاذ عمر كُلّاب القامة الوطنية والإعلامية الكبيرة في الأردن الذي انتقد هذه الجوقة وأكد على خوائها وسطحيتها، إذ عوضاً عن قيام هذا السطحي العنصري بمناقشة عمر كُلاب وغيره بتقديم فكر ورؤية وبرنامج عمل متماسك، أخذ يضرب على أحط وتر يلجأ إليه غير ذي مروءة ألا وهو وتر الهويات الفرعية والانتقاص من مواطنة من يخالفه الرأي، وفي لحظة صدق مع النفس، أظهر هذا المنفصم عن واقعه في لندن وفي الأردن أبشع ما فيه؛ إذ هدد كل مواطن أردني بهويته الفرعية بأنه سيحاسبه حينما يتولى هو وغيره من المتعطشين للسلطة زمام الأمور فقال: "ماذا سيكون موقف هؤلاء الذين تجنسوا بالأمس حينما نتولى الأمر ونحاسبهم"، ويبدو أن هذا المُنزَلَق لم يرق له فأبى إلا أن ينحدر أكثر فوجّه خطابه لحركات المقاومة في فلسطين ليقول لهم أن دائرة المخابرات الأردنية خلف اغتيال كل قياداتهم؛ مبرّئاً آلة الإرهاب الإسرائيلية التي لم تنكر جرائمها في حق المقاومة والمدنيين في فلسطين بل أنها تفاخر وتتباهى بتلك الجرائم، فأنّى لمثل هذا الموتور أن يكون معارضاً سياسياً ينشد وطناً يحترم التنوع والاختلاف عماده الولاء والانتماء والكفاءة وحسن الأداء.
هذا النموذج وغيره من متسولي وسائل التواصل الاجتماعي لا ينبغي أن يخيفوا أحد بل إن مواجهتهم تكمن فقط بالاستماع إليهم إذ أنهم بضحالة فكرهم وهشاشة منطقهم وبواح كذبهم يعرّون أنفسهم ويكفونك مؤونة محاججتهم ومجادلتهم، فلا حجّة لهم لتقارعها بحجة ولا أيديولوجية سياسية يمكنك مناقشتها ومقارنتها بغيرها.
الصياح والصراخ والسباب وترديد عبارات رنانة وطنانة في غير سياقها، مؤشر على خواء وفراغ فكري مرضي يتطلب علاج لا نقاش.
في الأردن معارضون وناقدون مؤثرون بشكل كبير من مثل الأستاذ ليث شبيلات والأستاذة توجان فيصل والأستاذ أحمد حسن الزعبي والدكتور لبيب قمحاوي والدكتور مروان المعشر والأستاذ صالح العرموطي والدكتور عبد الله العكايلة والأستاذ خالد رمضان وغيرهم، ممن يكتبون ويناقشون وينتقدون بوجهة نظر ورأي تحترمه وإن اختلفت معه وبوسعك مناقشته لأنه له شكل ومضمون.
وجود هؤلاء المستعرضين في الخارج واختلافنا معهم لا ينفي الحاجة الملحة إلى مراجعة التشريعات الناظمة للحق في التعبير وتنظيم العمل الحزبي وقانون الانتخاب وقانون الجرائم الألكترونية، إذ أن الأردن يستحق مساحات غير محدودة من حرية الرأي والتعبير لأن فيه من المخلصين موالين ومعارضين ما يشكل ثروةً وطنيةً فكريةً يمكن استثمارها لإعداد أجندة إصلاحية حقيقية تنهض بالوطن وتتجاوز به ما يواجهه من تحديات.
قد يكون بعض المستعرضين من الخارج صادقاً في هدفه وغايته وإن لم تسعفه ثقافته أو خبرته الضحلة لتأطير تلك الغاية في قالب منطقي متماسك، لكن لا ريب في أنه يستحيل تصنيف معظمهم بأنهم تيار معارض، إذ شتان في السياسة بين المعارض الذي لديه برنامج عمل والمستعرض الذي يتكلم كثيراً دون أن يقول شيء.