عبدالهادي راجي المجالي في مقال خطير: عن النفاق والوطن.. والسلطة

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/18 الساعة 14:15

كتب - عبــدالهادي راجــي المجـالي

الأخ العزيز عواد الخلايلة / ناشر موقع مدار الساعة الإخباري

بداية شكراً لك، أنك فتحت لي بوابة "مدار الساعة" للبوح بما يجول في القلب، واسمح لي أن أوجه لك هذه الرسالة، لك دون غيرك.. وتأملها.. تبصر في مضامينها والمعاني.. وستعرف أني تركت زمن المجاملة..

هل قرأت يا صديقي (أمين معلوف).. وكتابه الهويات القاتلة، أنا قرأته (3) مرات، ولم أقرأه حتى أعرف تصنيفات الهويّة، وشكلها وتطورها، ومتى تكون طاردة ومتى تكون جامعة.. وتأثيرات اللغة والجغرافيا..

لا لم أقرأ هذا الكتاب لأجل ذلك، بل قرأته حتى أعرف مرارة الخيانة.. هل قلت الخيانة؟.. أمين معلوف من الكتائب، وعاش بدايات الحرب الأهلية اللبنانيّة بتفاصيلها وعاش اللحظة التي اصطحب فيها (كريم بقردوني) بشير الجميل، وذهبا إلى إسرائيل والتقيا بشارون هناك.. ومهدا له الطريق كي يذبح العنق الفلسطيني، ويؤسس مجازر يندى لها الجبين لم تبدأ بصبرا ولم تنته بشاتيلا..

أمين معلوف في كتابه (الهويات القاتلة) كان يبرّر الخيانة لا أكثر ولا أقل.. كان يبرّر دخول إسرائيل إلى لبنان عام (1982).. وتحالف حزب الكتائب مع إسرائيل.. وحين تتبصر في الكتاب وتتعمّق به أكثر، ستعرف يا صديقي أن هذا الكاتب هرب من لبنان إلى فرنسا.. ليس من أجل أن ينتج كتاب (ليون الإفريقي).. أو يتبحر في دراسة العقل العربي ومسألة الهويّة، بل كان مسكوناً بهاجس (الخيانة) الذي طارده..

التاريخ لا يرحم، والخونة كثيراً ما يكتبون عن الهوية ويدَّعون الوطنيّة.. أكثر من يدّعي الوطنيّة في التاريخ هم الخونة!.. ليس غريباً أن كريم بقردوني كان كاتباً في صحيفة أسبوعيّة أردنيّة ولدت مشوهة.. ودفنت فيما بعد.. هذه الصحيفة هي الوحيدة التي استقطبته، هل تقبل توبة خائن؟

أحيلك إلى محمد رفيع المؤرخ والباحث والمهندس النبيل الذي أمضى سنوات من عمره، يطارد التاريخ ويكتب عن الخيانة وأشكالها وصنوفها وسلوك الخونة.. أحيلك إلى البحث الذي أنتجه مؤخراً وهو بعنوان: (أوهام الجواسيس).. اعترافات قاتل أحد زعماء الثورة الفلسطينية وجاسوس بريطاني.. واقرأ في هذا البحث المستند على الوثائق قصة تأسيس (فصائل السلام).. لحظتها ستعرف ما أقصده..

عمّان تكرهنا يا صديقي، عمّان تحبّ المتزلفين.. الذين يقدِّسون الرؤساء، ويصنعون منهم أوثاناً للعبادة.. عمّان تعشق من يتغزل بذرّيّة رؤساء وزارات.. وثمة من يجيدون لعق أحذية الآباء كي يرضى الأبناء..

وأنا يا رفيقي وأخي ولدت من رجل كانت وظيفته (ميكانيكي دبابات) في الجيش العربي، علمني الوفاء.. علمني ألا أرمي كسرة الخبز على الطريق، وأن أُقبلها.. علمني عن صالح المجالي ونشيده العظيم: (دن القلم وابيض القرطاس وبخاطري ناظم بيتين).. علمني عن هبوب الشمال حين يسري وينعطف نحو الجنوب.. علمني عن حابس وحسين الطراونة وسليمان عرار، قال لي ذات يوم: .. إن هية الكرك لم تكن (هية) بل كانت ثورة على الظلم والعدوان وكان لها أبجديات ومطالب أولها: العدل وثانيها الحرية.. وأتذكر أنه كان يحب الضيوف، وذات يوم حين كتب الأستاذ أحمد سلامة مقالاً لي، يوم دللني البطيخي بالضرب والاعتقال، تحت عنوان: (عبدالهادي يا جنوبي يا جنوني).. ونشرته العرب اليوم، أصرّ أن يذبح الشاة بيده ويسلخها ويولم لأحمد ورفاقه، حين قرروا أن تنطلق "الهلال" من منزلي في الكرك.. أبي هو الذي قال عنه محمود درويش: أبي من أسرة المحراث لا من سادة نجب..

أخي عواد.. هل استرسلت في البوح..

سأعود لعمّان.. وسأفسر لك لماذا تكرهنا، العواصم يا صديقي تحب الطحالب.. ولو لم تكن تحب الطحالب والمتزلفين.. لما هرب نزار قباني من دمشق، مكلوماً على دم شقيقته وأمضى حياته في الاغتراب يبحث عن عشق.. لو لم تكن العواصم تعشق الطحالب، لما هرب منها بدر شاكر السياب؛ وتغنى في (جيكور) ومات في الكويت فبغداد كانت ظالمة وقتها.. لو لم تكن العواصم تعشق أنصاف الرجال والمأزومين في الهوية والاسم والعنوان، ومؤسسي منهج لعق الأحذية في الإعلام؛ لما هرب منها مظفر النواب وعاش العمر منفياً على أطراف دمشق.. مسيحاً يجرّ صليبه.. ويسير نحو حتفه.. لو لم تكن العواصم طاردة وتتحالف مع الإمعة والخوارج ومصادر الأجهزة الأمنية، لما هرب منها "الأبنودي" ورهن شعره للصعيد وعمته (يامنه) وحنّ للترعة والماء.. لو لم تكن العواصم طاردة لما أقام مثقال الفايز وعودة أبو تايه وعبدالحليم النمر وشفيق ارشيدات في الأطراف وكتبوا حكاياتهم سطوراً من المجد فوق السطور..

هل عرفت أزمة العواصم؟.. كل مأزوم يحاول أن يفرغ أزمته في العواصم عبر الانتماء إليها.. وعمّان ظلمتنا يا صديقي.. ظلمتنا أول مرة لأنها تعاطت معنا كحالة شك في الولاء والانتماء.. لم تتعاطَ معنا للأسف كحالة مضمونة الانتماء، كنا نمضي العمر ونحن نقسم لرؤساء الحكومات.. ونقسم عبر كتاباتنا أننا نحب هذا البلد ونذوب في هواه.. لكنها وضعتنا في خانة الشك، بالمقابل تعاطت عمّان مع من لا يملكون أدنى درجة من الانتماء.. كحالات ولاء مضمونة.. سأفسر لك كيف؟

قيل عن الدولة العباسية في التاريخ إنها سقطت لأن الشعوبية تغللت في مفاصلها.. الشعوبية تعني لغةً تغليب العجم على العرب.. لكن ثمة شعوبية أخطر من شعوبية العرق وهي شعوبية العقل.. فمن يملك عقلاً جاسوساً مرهوناً للسفارات.. مرهوناً للولاءات المدفوعة، ومرهوناً.. للمنصب.. مرهوناً للعق أحذية الرؤساء وسدنة الرؤساء.. حتماً سيحظى بدفء العواصم، لكن من يملك الولاء الحقيقي والانتماء الصادق غير المزيف عليه أن يبقى في خانة الشك.. العواصم يا رفيقي تعشق الرخص وتعشق كل رخيص، لهذا يجد البعض في الانتماء إليها وسيلة كسب مشروعة وغير مشروعة في ذات الوقت..

لن أستفيض في هذا الجانب، ولكني سأستفيض أكثر فيمن يدعي الفروسية عبر القلم.. وأبلغ من عرفت العرب يا عواد هو المتنبي.. أتذكر كيف قدم لنا التاريخ قصة مقتله؟ قال لنا إنه هرب، ولكن أحداً صرخ به قائلاً: ألست القائل (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم).. فعاد للمعركة وقتل، والحقيقة غير ذلك.. المتنبي هرب وطاردوه وأظن أنه توسل ولعق الأحذية وقتل بطريقة مشينة.. المتنبي كان أكثر الناس فروسية في الشعر، ولكنه في الواقع كان جباناً.. وتذكر يا صديقي وأخي عواد الخلايلة أن كل من يحتمي خلف البلاغة والكلام المنمق، وسحر البلاغة هو في الواقع.. أجبن من الجبن ذاته.. في اللغة تستطيع أن تصنع ألف معركة وحكاية.. ولكن في الواقع كل من يحتمون خلف اللغة هم سماسرة الخنوع ليس إلا.. وأولهم المتنبي وتلامذته الذين عاشوا العمر على فتات بلاغته وبطولاته التي امتدت بين البحر الكامل والبحر الوافر.. أطال الله في عمر صديقنا مروان القاسم فقد كان يمقت أهل البلاغة وذات يوم طرد أحدهم من مجلسه، كان يؤمن بأن بلاغة اللغة.. هي ترس الجبناء الورقي..

أخي عواد الخلايلة..

المؤسسات في الدولة الأصل أن تكون لها عقيدة واضحة وراسخة، ولكن بعض المؤسسات لدينا تحب من يتغنى بها.. وأقبح شيء في الدنيا أن تتغنى في مؤسسة رسمية، فذات يوم اكتشفت المخابرات البريطانية أن أذكى طلبة (كامبريدج)، والمقرب من قصر بيكنغهام.. هو جاسوس (للكي جي بي).. كان اسمه (كيم فيلبي)، وكان الأعلى تحصيلاً في (كامبريدج)؟.. وشكل خلية للتجسس على بريطانيا، وأسهم في تسريب الآلاف من الوثائق.. يومها أعيد بناء هيكلة (الام اي سكس) جهاز المخابرات البريطاني الخارجي، لأنه تبين لهذا الجهاز أن من يطرحون قضايا الليبرالية، وتحرر المجتمع والذين هم أقرب للأكاديميات الراقية.. هم أكثر قابلية للاختراق.. حين سقط وينستون تشرتشل، وتقدم باستقالته للملكة.. سقط معه الجنيه الإسترليني وتم تعويمه، وحزب العمال كان نشازاً وعاراً في التاريخ البريطاني حين تسلم السلطة بعد (انتوني ايدن).. لأنه اعتمد على اذكى طالب (هارولد ويلسون).. خريج إكسفورد كي يشكل الحكومة.. وهذا الشخص اعترف ذات يوم أمام الملكة، بأنه عمالي واشتراكي.. ولكنه في حياته لم يزرع شتلة واحدة من الورد، ولم يقم بسقاية شجرة.. واعترف بأنه يحب السيجار لكنه يكذب أمام أجهزة التلفاز ويدخن (الغليون) كي يكون شعبيا..

نحن نمر بنفس أزمة بريطانيا في الستينيات، فالأذكياء الذين تخرجوا من أرقى الجامعات هناك ودعاة الوطنية.. هم كاذبون، أعادوا بريطانيا إلى الصفر ودمروا سمعتها الإقتصادية، وأهانوا كرامة الأمة.. بالمقابل نحن نعيد إنتاج هذه الفئة في مؤسساتنا، تحت ذريعة أن جامعات بريطانيا وأميركا الراقية تصنع الفكرة والاستراتيجيات.. لكننا للأسف لم نقرأ تاريخ ونستون تشرتشل وبعده بايدن.. ولم نقرأ كوارث حزب العمال.. لم نقرأ (ثاتشر) التي خاضت حرب (الفوكلاند) واستعادت الهوية البريطانية الحقيقية وبثت الروح في الأمة من جديد..

وهنا دعني أقدم معلومة خطيرة ومقترحاً لرئيس وزرائنا الحالي د. بشر الخصاونة وهي: أن أرث الملوك وحركتهم وقراراتهم يجب ألا تخضع للسرد المقيت الذي يوظفه البعض من صحفيي الدولار..؟ الملكة إليزابيث تلتقي رؤساء الوزارات في بريطانيا أسبوعياً ويقدمون لها تقريراً عن حال المملكة، وتشرتشل بعظمته لم يجرؤ يوماً أن يوظف مقابلاته مع الملكة أو يستعمل حديث الملكة في كتاب أو مقال، علماً بأنه كان الأقرب لها.. لا يسمح في الأعراف الملكية البريطانية، لسياسي أو صحفي، أن يوظف تاريخ الملكية في سجالات أو أن يختبئ خلفها.. مرة واحدة وبطلب من زوج الملكة تم السماح (للبي بي سي) نهاية الستينيات أن تصور داخل قصر (بيكنغهام).. عن حياة العائلة المالكة، وتم عرض الفيلم مرة واحدة.. فقط ثم منعته الملكة. الإنجليز لا يحصنون الملكة قانونياً من المساءلة بل يحصنون الإرث الملكي.. لهذا من المستحيل أن تجد مقالاً في (الديلي تليغراف) أو (الهيرالد تريبيون).. يتشدق فيه كاتب ويقول: إن الملكة قالت لي أو أكدت في جلسة.. الأعراف البريطانية تمنع ذلك، ولكننا للأسف نحصن الملكية في الأردن دستورياً وقانونياً.. ونسمح لبعض الموتورين بتوظيف الإرث الملكي في السجالات والدعاء، واستعراض الوطنيات المزيفة.. وهذا يجب ألا يحدث نهائياً.. الملكيات في بريطانيا والمغرب واسبانيا تمنع ذلك.. وأكثر ما نحتاجه في هذا الوقت هو قانون يحمي الإرث الملكي، ويمنع باعة الكلام العابر في السطور العابرة.. من توظيف هذا الإرث وتصنيفنا في خانة (البدون).. وتصنيفهم على أنهم الأولياء الأخيار الصالحون.. أظن أننا نحتاج لهذا الأمر، كون حالات الردح الصحفي التي تستعمل هذا الإرث العظيم قد زادت في الأردن.

أخي عواد..

بعض المؤسسات لدينا تكره العقل وتحب لاعقي الأحذية، وبعض المؤسسات لدينا ما زالت تعيش في عقلية القبيلة، وتعشق من ينحر اللغة أمامها مثل من ينحر الإبل، ويمدحها ويتغنى بالأسماء..

بعض المؤسسات لدينا، تحب المتزلفين والمنافقين والمأزومين وتجار الكلام المسروق..

بعض المؤسسات لدينا.. تحب من يصنعون من اللغة؛ قطعة جلد فاخرة لتلميع الحذاء.. أو من يعتبرون اللغة (رشة) من زجاجة عطر فاخر على كتف دولة الرئيس..

بعض المؤسسات لدينا.. صارت تنافس السطور في صفحات الجرائد وتبحث عن المدح لا عن الإنجاز.. وثمة متطوعون يمتلكون كامل الجهوزية لذلك الأمر..

ونحن كما نحن ما زلنا.. الأجسام المتعبة التي ترفضها العواصم، ما زلنا الغرباء.. في قاموس الوزارات.. ما زلنا التوهان.. في عقيدة المعرفة التي يمتلكها (قطّاع الطرق) وتجّار المقالات..

أنا لست خائفاً من شيء، بقدر خوفي من تغيّر عقيدة بعض المؤسسات لدينا.. فبدلاً من أن تركز على خدمة الوطن والشعب والملك.. تصير تبحث عن مأزوم يوزع لها المدائح عبر صفحات الجرائد.. منذ متى كانت مؤسساتنا هكذا..؟

حماك الله واسلم لصديقك

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/18 الساعة 14:15