أبو زيد يكتب: صناعة الشائعة في مواقع التواصل الاجتماعي ودور المجتمع في التوعية

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/14 الساعة 14:24
بقلم زيد أبو زيد بين الغث والسمين والجميل والقبيح والممتع والممل والمضحك والمبكي معًا يتنوع النشر على مواقع التواصل الاجتماعي ويتعدد، ويبتكر من يسمون في فضاء النشر الإلكتروني بنشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في كل يوم جديد ما يملؤون به صفحات هذا الفضاء بين الخيال والواقع والفرح والحزن. وهؤلاء النشطاء كما تصفهم المواقع الإعلامية وجمهور المتابعين تكاد شهرة بعضهم تصل إلى خارج حدود جغرافيا الزمان والمكان، وتكاد مصداقية ما ينشرون عند المواطن العادي تتفوق بسهولة على ما ينشره كتاب وصحافيون ذوو تاريخ طويل، ناهيك عن تجاوزهم بأشواط خطاب الدولة والحكومات عن طريق طرحهم على الأغلب لمنشورات تستهوي كثيرًا من الأشخاص لارتباطها بقضايا الناس أو همومهم أو تطلعاتهم أو صحتهم، وصياغتها بشكل ساخر أو غامض، وهو ما يدفع المواطن لتتبع الأخبار من دون أن يدقق في طبيعة الأخبار التي تنشر والتي تكون في كثير من الأحيان مفبركة أو تعبر عن حالة في بلد آخر أو قضية قديمة عفا عليها الزمن. إن المؤسسات ووسائل الإعلام الرسمية والأنظمة السياسية والشخصيات المستهدفة تجهد في نقض ما يتناوله بعض هؤلاء النشطاء من معلومات مغلوطة وقصص تافهة ألفوها على فنجان قهوة، وربما على خيوط دخان سيجارة من دون أي اعتبار لما يمكن أن تحدثه منشوراتهم في المجتمع، وللأسف فإن المواطن هو حقل الاختبار لشائعات صنعت وسوقت خدمة لأهداف وأجندات متعددة، بعضها رغبة بعض النشطاء في حب الظهور لا غير، وبعضها خدمة لأهداف وأجندات أعمق بكثير، بل إن بعضها يتعدى ذلك إلى تنفيذ مخططات ظلامية تبدأ بشائعات لنزع الاستقرار، وتنتهي ربما بتنفيذ عمل إرهابي ولا أقول إنها كلها تنتهي بذلك. إن ما سبق يأخذنا إلى علم صناعة الشائعات في مواقع التواصل الاجتماعي، وكيفية توظيفها في خدمة أفراد أو جماعات أو اتجاهات أو شركات لم تتّخذ من الحقيقة عنوانًا بل كانت في بحثها عن شعبويّات مزيفة توظف كل أنواع الشائعات والصور والأخبار والمؤثرات الصوتية كي تسوق قضاياهم من دون الأخذ بعين الاعتبار بمصداقية ما ينشر، والغريب في الأمر أن قضايا عادلة قتلتها فبركات وأخبار تسويقية لا أساس لها من الصحة كموضوع المطاعيم لكورونا وغيرها، وكيف أن تسجيلًا أو مقطعًا مسجلًا أعيدت صياغة ترجمته لتعطي دلالات غير صحيحة، وقدمت للمشاهد بوصفها حقيقة تداولها الملايين من دون تمحيص أو تدقيق أو صورة أخرجت من سياقها وصيغت عليها أخبار ليس لها أي مكان من الصحة، وبالرغم من ذلك وللغرابة أُخذت على أنها حقائق ومسلمات، وكانت وزارة التربية والتعليم والصحة وجميع مؤسسات الدولة وشخصياتها أكثر من عانى من حالة الانفلات هذه. إن النقد لا ينفي وجود نشطاء كلهم حرص على مصلحة الوطن وسهرهم على تقديم المفيد للمواطن والوطن، وبذلهم جهدًا كبيرًا لينشروا الفائدة ويصححوا ما ينشر، ولكن يبدو أن عددهم قليل نسبة إلى غيرهم من النشطاء، وتوجد فئة ثالثة هي الأكبر يتلقون وينشرون من دون تدقيق أو تمحيص بغض النظر عن المعلومة ومصدرها، وهي الغالبية التي تتحمل في النهاية وزر النشر الواسع، وهنا أطرح سؤالًا مشروعًا: كيف نوازن بين حرية التعبير ومقاومة ما ينشر من افتراءات وأكاذيب وشائعات؟ وكيف نعمل على تحصين أفراد المجتمع وتمكينهم من مواجهة هذه الظاهرة؟ من هنا فإني أؤكد أن أكبر مشاكلنا ليست مواقع تنشر فبركات أو تزوّر الحقيقة بل في العقول التي تتعامل مع ما ينشر، وكيف يمكن لعقل واعٍ أن يستوعب الأكاذيب التي تنشر من دون أي منطق يمكنه احتواؤها، وهنا فإن مواقع التواصل وكثيرًا من نشطائها استحوذوا على نصيب الأسد من عقول المتابعين ليكونوا بديلا عن الإعلام الحقيقي الذي قلنا فيه أن له دورًا كبيرًا في كشفِ الحقائقِ ومراقبة السلطات وإظهار مواطن الخلل أينما وقعت، ونقل الأخبار وتحليل الظواهر والأحداث وتقديمها للمواطنِ حتى يبقى على اطلاعٍ دائمٍ بمستجداتِ الأوضاعِ الاقتصاديةِ والسياسيةِ والاجتماعية ولا سيما في وقت الأزمات؛ ما يساعد على بناء الخطط لمعالجة السلبيات ووضع إستراتيجيات متنوعة تتناسب وواقع الحال، ولذلك أُطْلِقَ على الإعلام لأهميته مسمى السلطة الرابعة بوصفه ركنًا رئيسًا في أي نظام سياسي حتى وصلنا إلى عصر الثورة الرابعة ومواقع التواصل الاجتماعي التي خلطت الحابل بالنابلِ إلى الحد الذي أُطْلِقَ عليها مواقع الشبكة السوداء لحجم السواد الحالك الذي أشاعته في المجتمع، ونقضت فيه طموحاته، وأثرت في الروح المعنوية لأفراده. لقد وضعت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي فائقة الانتشار المجتمع في محنة حقيقية أمام مصداقية الخبر بسبب طبيعة ما يتم تداوله وحجم انتشاره؛ فنزعت الثقة من المسؤول والحكومات والمؤسسات ومن ثم الدولة التي أصبحت مضطرة لتأسيس المنصات التي يمكن أن تصحح ما يُنشر، وتفرد مساحات واسعة من إعلامها للرد على الشائعات اليومية أو توضيح بعض ما ينشر بشكل مُجتزأ بدلًا من عرض خططها المستقبلية، وحتى إنها أضعفت الثقة بين أفراد المجتمع الواحد، وبذرت فيه الفتنه لتعرضها للشخصيات العامة وتاريخهم وعملهم بشكل يومي ومكثف، وأضرت بفرص الاستثمار والتطوير، وهو ما يضعنا أمام تساؤلات كثيرة حول دورها، ومستوى المهنية فيها، ومسؤولية الكلمة، وحق المواطن في المعرفة والتواصل، وخلال السنوات الماضية وقعت عدة وسائل إعلام في فخ خبر كاذب أو مشوه أو لقطة خارج السياق مستندين إلى تغريده متداولة أو فيديو مجتزأ من سياقه أو صورة مفبركة، وسار الخبر كالنار في الهشيم بعدما تناولته محطات ووسائل إعلام مرموقة، وتناقله الناس حتى أصبحت الشائعة هي الحقيقة، وأصبحت الجهة صاحبة العلاقة مضطرة إلى التصحيح والتصويب وملاحقة الأخبار المفبركة وهي للأسف كثيرة. جاءت هذه الوقائع لتترجم واقع الإعلام الجديد المستحدث، وتعكس مستوى مهنيًّا مترديًا نتيجة تردي بعض النشطاء، وهم في الحقيقة معدومي الضمير الوطني والمهني والأخلاقي، وتمثل ممارساتهم تلك انحدارًا في استخدام مواقع التواصل الاجتماعي التي أصبحت ميدانًا لخطاب الحقد والكراهية وبث السموم، لنصف ما يحدث بالفوضى الإعلامية العارمة غير المسبوقة بعيدًا عن التقاليد والأعراف المهنية، والكل في سباق محموم بلا عقل يحكمه أو ضابط يردعه، وحالة عبثية فرَّغت المهنة ضمن هذا المفهوم الجديد من محتواها وحرفيتها؛ فأصبحنا أمام إعلام شائعات ينشر أخبارًا من دون التحقق من صحتها ومصدرها ومرجعياتها وهي لم تكن أكثر من عبارة أو صورة تداولها نشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي لخبر هنا أو فيديو هناك، والكارثة أن يتعلق الأمر بشأن تعليمي أو تربوي أو مجتمعي، لأن نتائجه ستمس كل بيت، وستحدث فوضى وعدم استقرار مجتمعي، ليصبح الوصف الدقيق الإعلام المنفلت غير المسؤول. إن المهزلة المهنية والأخلاقية والاستخفاف بعقلية المتابع لا يليقان بمكانة الإعلام أو بمكانة المواطن، فانسياق وسائل الإعلام وراء سرعة نشر المعلومة بات يسبق أمانة التدقيق بحجة تحقيق السبق، وأصبحت بعض وسائل الإعلام بيئة خصبة لنشر الشائعات وترويجها من دون إدراك لأهمية الكلمة ومسؤوليتها، فخطورة نشر أخبار كاذبة غير صحيحة وتداولها يؤدى إلى آثار سلبية على رأسها فقدان الثقة في أساسيات التعامل مع المؤسسات الإعلامية من قبل المواطنين، واللجوء إلى مصادر أخرى للحصول على المعلومة؛ ما قد يؤدى إلى ما لا يحمد عقباه على جميع الأصعدة في ظل انتشار مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبح للواقع الإعلامي في ظل مواقع التواصل الاجتماعي حسابات أخرى، والأصوات العالية غير المؤهلة هي الغالبة على المشهد المفتقد للرؤية والبوصلة غير مدركين خطورة المرحلة التي تواجه تحديات كبيرة وأخطارًا صعبة في ظل سطوة وسائل التواصل الاجتماعي التي تلعب فيها الشائعات دورًا كبيرًا، ومجتمعًا لا تستطيع أغلب طبقاته فرز الغث من السمين، وليس أدل على ذلك مما حدث مؤخرًا في تناول كثير من القضايا ذات الصلة بحياة الناس وسمعتهم. أعتقد أنه قد حان الوقت لوقفة جادة لتقييم هذا النوع من النشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وضبط إيقاع المشهد، وإصلاح منظومته، وتحديد أولويات المرحلة بصدور مجموعة مرتكزات وتشريعات نستند إليها في تصويب المسار، ومحاسبة المخطئ، حتى نرى دور إعلامنا الاجتماعي موضوعيًّا تنويريًّا توعويًّا، ومتحمِّلًا أمانة الكلمة ومسؤولية النشر في ظل الأوضاع التي نمر بها للالتزام بمعايير المهنة وأصولها وأخلاقياتها بما يتوافق مع معطيات العصر وأبجديات عمله، فيكون انعكاسًا صادقًا للمجتمع وآمال الشعب وتطلعاته، ويحمل رسائل إعلامية تحوي أفكارًا وقيمًا وآراء إيجابية، وليس شائعات وآراء تمس القيم والمعتقدات، ولذلك نحن نبحث عن نشر المعرفة والوعي لا كسب التأييد عبر التضليل ونشر الخوف والفوضى؛ وهنا فنحن نؤكد أن حرية التعبير والرأي مصونه، ولكن متى كانت حرية الفرد على حساب حرية المجتمع؟ ومتى كانت الحرية التي سقفها السماء تتضمن اغتيال الشخصيات؟ فمجتمعنا بحاجة إلى التماسك وبث الروح الإيجابية فيه لا بث السموم، وهذا يتطلب بالدرجة الأولى من المؤسسات التربوية والإعلامية والهيئات الثقافية تحصين أفراد المجتمع وتمكينهم ابتداء من طلبة المدارس والجامعات لمواجهة هذه الظاهرة، ونقض أساس النشر الكاذب، بل وتبيان الحقيقة بالحجة والبرهان، والله من وراء القصد.
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/14 الساعة 14:24