عبدالهادي راجي المجالي يكتب عن نظرية المرآة ويخص بها الكاتب أحمد سلامة
مدار الساعة - خاص - كتب – عبدالهادي راجي المجالي
لقد قرأت مقال الأستاذ أحمد سلامة بتمعن، والمنشور في الرأي أمس بعنوان (يا عمران يا عمّان).. وهو مرثيّة صادقة وجميلة، لرجل اختاره الله إلى جواره.. وهنا لا أودّ الردّ ولا المناكفة، فما يمتلكه أحمد سلامة من سحر اللغة.. يجعلك تنساب معه مثل نهر مجنون صاخب، يعاندك ويصادر حركتك لكنه في النهاية مجنون ورائع..
الردود هي إثراء للجدل والحب والصداقة وليست مناكفة أبداً.. وليسمحلي (أبو رفعت) بأن نمضي الليلة على سفح الجدل، وله السفح كله.. وأنا ليترك لي مساحة من الودّ، تبيح أن أقسو قليلاً بدافع الحب...
الأخ أحمد سلامة:
في مصر المحروسة الحبيبة، التي صاغ محمد حسنين هيكل فيها، ثنائية التحالف بين العقل والسلطة، لم أقرأ يوماً لا لهيكل ولا لتلامذة هيكل الأخيار، أن قام واحد منهم بكيل وابل من المديح للمخابرات المصرية.. - لنترك صحافة (السفنجة) والتي سأشرحها في مقال آخر-.. لكن في مصر ثمة فاصل بين الأمني والعقل... ثمة فارق كبير بين صلاح نصر وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، ثمة فارق بين نبل أمل دنقل وسفالة صفوت الشريف، الذي حاول أن يوظف الإعلامي في خدمة الأمني.. ونجح فقط في مشروع سعاد حسني فقط، لكنه انهار أمام جبروت الأهرام...
حتى في أشد الأنظمة العربية قسوة، لم اشاهد صحفياً سورياً يمتدح المخابرات الجوية.. أو الشعبة (256).. وإذا جاز لنا في الأردن أن نتحدث عن المخابرات فعلينا أن نسأل ماذا قدم هذا الجهاز للمرحوم الحبيب عمران خير، ومضر بدران، ومصطفى القيسي.. لا أن نستثني المؤسسة ونقول ماذا قدموا هم؟.. هذا إذا جاز لنا أن نكتب.
المؤسسة الأمنية في الأردن هي مستقلة، ولا أظن أن أمنياً سيفرح أن رميت على عتبات مكتبه وابلا من المديح, لأننا حين نفعل هذا... كأننا نعطي هذه المؤسسات حسن السلوك, وهذه المؤسسات يا صديقي وظيفتها أن تعطينا هي حسن السلوك... إعتمادا على تسلسل في الوظيفة والمسلك، وتعطينا أيضا صك المصالحة.. إن أغوانا الجنون يوماً وانعطفت سبابتنا على مقابض الرفض... صدقني يا أحمد أن الإعلام الجديد... صار أبعد من (تكلسنا) خلف منصات اللغة، صار أبعد من رضا مؤسسة أو غضب أخرى هو أبعد من ذلك بكثير.
أما ما أتعبني في بوحك الجميل هو عمان، ولغة الاجتزاء.. تخيل عبدالرحمن منيف هذا العملاق حين كتب (سيرة مدينة) لم يجرؤ على ممارسة الاجتزاء.. واختصار عمّان بطبيب أو تاجر أو طباخ... اسمح لي أن أخبرك عن عناوين عمّان..
اسمح لي أن أقول لك عن بني صخر، الذين قاتلوا (الخوين) وأبعدوهم.. عن حدودها وحموا حناء الجدائل.. اسمح لي أن أحدثك عن مثقال الفايز الذي ربط المندوب السامي في إسطبل الخيل.. تجار الشعير يا حبيبنا أحمد سلامة، لم يسجل في تاريخهم أن ذبحوا انجليزيا أو كسروا.. أنف المندوب السامي.. واسمح لي أن أخبرك عن (صبيان الصباح) عن صايل الشهوان ابن الرحم الأردني الحر وابن البارود وابن الجنون والحياة... هل يوجد أنبل من أن يكون شهيد الرفض صايل عنواناً لعمّان؟...
واسمح لي أن أحدثك عن القطارنة.. عن عيد القطارنة الذي الذي كان يلم الشمل ويقاتل كي يؤسس الصرامة في مداميك البيروقراط...اسمح لي أن اخبرك عن الحج عايش الحويان ويا ليت أنك زرت مضافته.. عايش أقام مداميكاً للدين والعدل والعطاء..
اسمح لي أن أخبرك عن محمد منور الحديد.. ومحمد تعرفه بيوت عمان، فقد حقن من الدم الكثير ومازالت مضارب أولاده مشرعة للحب والعطاء.. اسمح لي أن أخبرك عن برجس الحديد.. حين يطل عليك بالرضا، لقد أسس في الرضا فصولاً.. وأسس في لم شمل الناس فصولاً أخرى.. واسمح لي أن أخبرك عن حمد أبو زيد.. الذي لمّ سحاب كل سحاب على صدره.. ولم يسجل عليه في تاريخه أنه اختصم مع أحد...
وقف قليلاً عند الدعجة، مر قليلاً بصالحية العابد.. ستدرك كم أفنى هؤلاء الناس من الدم والعرق في سبيل تعليم أولادهم، وقدموهم للوطن زهوراً وأقحواناً وبنادق...
وحين نتحدث عن عمان.. نتحدث عن حابس المجالي، الذي برّد الشوارع يوم كان الغليان يفتك بها وكادت أن تفور.. حابس من عناوينها وهو البارود والحكاية والقصيدة وهو الشامة على خد كل جميلة، وحابس من قتل من اليهود أكثر ممن قتلت جيوش عربية.. كان عليك أن تتذكر يا صديقنا يوم هرب التجار والأثرياء وعلية القوم في أيلول إلى اليونان ومصائف بيروت.. ويوم صمد العسكر والفلاحون.. وقالوا لن تشرق الشمس غداً إلا وهي آمنة...
وتحدث عن وصفي عشقها، والذي بنى مجتمعاً زراعياً وأسس للدولة هوية... واعبر على اللوزية الذين احتضنوا أول جامعة على أرضهم، واقاموا مجتمعات زراعية حقيقية..
كل من ذكرتهم في مقالك هم محط تقدير واحترام ومن البناة الأوائل، لكن لغة الاجتزاء لا تليق بك أبداً.. ألست صاحب مقال الصورة والإطار الذي نشرته الرأي في منتصف التسعينيات؟... كنت تقول في المقال إن الصورة بدون إطار جميل حتى لو كانت جميلة ستبقى مبهمة وقبيحة، وللأسف في مقالك الأخير خلعت الإطار وتركت لنا صورة ملتبسة مع الحائط.. لدرجة أني لم أميز بين الخطوط وطراشة الحائط...
أما استقلالنا.. فوصفه كان مؤلماً، وأعاتبك بشدة.. أتعرف لماذا؟ لأننا الدولة الوحيدة في العالم التي قدمت في عشرين عاماً ملكاً وثلاثة رؤساء وزارات شهداء.. عد على أصابعك: عبدالله الأول كان شهيداً في القدس، وطلقة مصطفى عشو القاتلة ردها حابس علي ذياب في لحظتها وأعدم القاتل، لأن غضب العسكر يومها كان قانوناً... ابراهيم هاشم حين كان رئيس وزراء حكومة الوحدة مع العراق استشهد مسحولاً في بغداد، وبعده هزاع الذي تناثرت الاشلاء في سماء عمان.. ومن ثم الحبيب الشهيد المطهر وصفي، أي ظلم هذا الذي كبلت فيه الوطن وكبلت اللغة... واي بلد في العالم يا أحمد سلامة يدفع ثلاثة رؤساء وزارات وملكاً في عشرين عاماً فقط شهداء.. لقاء أن يظل سيداً ولا يختطف من قبل الناصريين ولا يضم من قبل سوريا.. ولا يحتل من قبل اسرائيل..هل يوجد أكثر من هذا الدم.. وتقول أننا حصلنا على استقلالنا من دون دم؟...
أخي أحمد سلامة..
في القلم وحين نرسل حباً، نرسله للجيش..(ابو المؤسسات) وسيدها، لأننا وطن.. قوة شرق الأردن فيها أسست قبل الدولة، الجيش يليق به الحب.. وتليق به اللغة، وتعلمنا على تعبنا أن نقول في الصحافة ماذا قدم لنا الجيش.. ولا نسأل ماذا قدمنا نحن للجيش، قدم لنا تاريخاً جاهزاً من الوقار.. قدم لنا الرفعة والقوة، قدم دولة عصية.. وهذا ما فعلته الصحافة المصرية، فهي مازالت تتذكر الشاذلي – رحمه الله – مازالت تتذكر أبطال العبور.. مازالت تتذكر المشير طنطاوي، لأن الجيش أبو المؤسسات... ولكنك تعاطيت معه بنفس السوية في تعريف عمان حين تجاوزت الإطار وركزت على الصورة.. وقفزت للمؤسسة الأمنية..
العزيز أحمد سلامة..
في سيارات الإسعاف يكتب الاسم على مقدمتها بالعكس، أتعرف لماذا؟ لأن نظرية الرؤية في المرايا.. تقوم على مبدأ قراءة الأسماء معكوسة.. والسائق حين ينظر في المرآة يخرج اسم (سيارة إسعاف) صحيحاً، حين كنت طفلاً كانت هذه القصة تؤرقني.. ويومها وضحها أبي لي، لكن في النهاية النظرة للمرايا للسائق هي مجرد لمحة، كون النظر يكون للأمام فقط.. أنت في مقالك مثل من يقود سيارة بالنظر للمرآة الداخلية فقط دون الانتباه للزجاج الأمامي، مع أن المرآة ضرورية.. ولكن حتى لو لم تنظر فالسيارة تسير للأمام وليس للخلف.. كيف تركت كل هذه المساحة من الزجاج الأمامي واختصرت وطناً كاملاً بمرآة خلفية؟
حماك الله وتذكر.. أنك أنت من علمتنا أن الرسائل والردود تثري اللغة، وأنا لست بالأكبر منك لغة ولا سناً، ولا صحافة.. ولكن أحب أن أنظر في السيارة للأمام عبر زجاجها وليس عبر المرايا...
تذكر أني أحبك، وأنت لا تخذل الناس.. وتعلمنا منك الجنون، فإليك جنوني يا صديقي واسلم لي.. أحمد سلامة الطيب الكريم المتعافي الودود والعاشق لهذا البلد.