في مواجهة «زخّ» إعلامي «مباشر»

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/10 الساعة 06:25

أمام «ماكينة» الاتصال الجديد، وخاصة في نسخته التي وصلتنا أخيرا «البث المباشر»، لم يعد بمقدورنا أن نضع رؤوسنا في الرمال ونلتزم «حكمة» التطنيش وعدم الرد، فالرأي العام يتشكل بالعادة نتيجة للزخّ المعلوماتي الهائل والتكرار وصدمة المشاهد بأخبار يريد أن يسمعها، لا يهم إن كانت صحيحة أم لا، ولا فيما إذا كانت مصادرها داخلية أم من الخارج، المهم أنها جاءت في توقيت ملتبس، ونزلت على ارض عطشى لاستقبال أي شيء وجاهزة لابتلاعه أيضا.
حين ندقق فيما يردنا من أخبار(خاصة من خارج الحدود) نجد أننا أمام «فوضى» مقصودة هدفها إغراقنا في محيط من التشكيك والتخويف والإرباك، نجد أيضا أن بلدنا يقف مكتوف اليدين أمام هذه الموجة الجديدة وكأنه لم يتوقعها، نجد ثالثا ان الجمهور أصبح متعطشا لسماع المزيد من الحكايات والقصص والوقائع، ثم نجد أخيرا ان أصداء ما نسمعه بدأت تتردد على شكل قرارات أو تصريحات عاجلة دون أن نصارح أنفسنا بإجابات حقيقية وعميقة على ما يطرح من أسئلة.
فيما مضى، كانت «التغطية» على المعلومات واحتكارها، لأسباب مختلفة، فكرة رائجة ومقبولة لدى المسؤولين، وحتى مع وجود قانون حق الحصول على المعلومات فإن النتيجة لم تتغير، اذ يحتاج الصحفي الى رحلة طويلة قد تستمر شهوراً وربما لا يحصل بعدها على ما يريد، لكن مع ثورة الاتصالات وما جرى على مجتمعنا الصغير من تحولات، تغير الواقع كثيراً، ووجدنا أنفسنا امام خرائط مكشوفة ومزدحمة بالمعلومات، بعضها صحيح والآخر مجرد إشاعات، لكنها في المجمل استطاعت أن تكسر دوائر «الأسرار» وتضع الناس أمام حقائق شكلت لبعضهم صدمة وللآخرين مجالاً للتندر والسخرية.
الآن، لا يستطيع أي مسئول ان يتكتم على المعلومة، وحتى حين يضعها في «خزانة» الأسرار، ويخفي في جيبته مفاتيحها، فإن انكشافها هي مسألة وقت، واذا انكشفت على أجنحة تحليلات صادمة، او إشاعات عابرة، فإن مصارحة الرأي العام بفتحها قد يبدو سهلاً، لكن إقناعه بعدم صحتها مسألة صعبة ومكلفة وغير مضمونة النتائج.
ثمة تطور جديد على المشهد، فقد دخل مسؤولون سابقون، وصالونات سياسية جديدة على خط المعلومات والأسرار، وربما تمتد الظاهرة وتتوسع، فنكون عندئذ أمام خزانات جديدة لا نعرف كيف نتعامل مع مصارحاتها المفاجئة، كما لا نعرف في غياب الروايات الرسمية الدقيقة فيما اذا كان هؤلاء يقولون الحقيقة ام لا.
لنعترف الآن ان عيون المجتمع أصبحت قوية، سواء بفعل الضغوطات التي يتعرض لها، او بسبب الإعلام الجديد الذي فتح هذه «العيون» على كل شيء يدور حولها، وبالتالي فإن من واجب الدولة ان تبادر الى «بناء» خطابها العام ليكون معبراً عن قيمتها ومواقفها، ومع ضمير الناس وقضاياهم، والّا فإن البديل هو رواج خطابات شعبية متحمسة أحياناً، ومتضاربة أحياناً أخرى، لكنها ستجد من سيصدقها ويأخذ بها، واذا حدث ذلك فإن محاولة الرد عليها او أبطالها ستحتاج الى جهد كبير، او انه –ربما- لن يكون مجدياً.
لا بد ان يكون للدولة «مطبخ» إعلامي وسياسي يتمتع بالكفاءة والمصداقية، بحيث تبدو الرواية الرسمية ممثلاً وحيداً لخطاب الدولة، ويكون هذا الخطاب سريعاً ومتماسكاً ومقنعاً للمجتمع، وهذا يحتاج الى كسر الحواجز بين المؤسسات وتوثيق العلاقة بينها، بحيث تقوم كل جهة بواجبها، وتتولى التنسيق مع غيرها، وظيفة هذا المطبخ لا تتعلق «بالأزمات» فقط، وانما تتجاوزها الى تقديم الرواية الرسمية لكل قضية تشغل الرأي العام، بمنطق الاستباق او الرد اذا لزم الأمر.

الدستور

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/10 الساعة 06:25