«جاكوبين»: لماذا فشل الربيع العربي؟

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/09 الساعة 11:15
مدار الساعة - مر عقد منذ بدء الربيع العربي، وما تزال هناك ندرة في التفسيرات المُرضِيَة لفشل الانتفاضات في تحقيق تقدم ديمقراطي دائم، أو تحسين جودة حياة شعوب المنطقة. يحاول أناند جوبال، الباحث في مجال الأمن الدولي في مؤسسة نيو أميركا في مقالة له بعنوان «التيرميدور العربي The Arab Thermidor» (تيرميدور هو الشهر الحادي عشر في تقويم الثورة الفرنسية) نشرتها مجلة «كاتاليست»، ملء بعض الفراغات. وفيما يلي تلخيص لأبرز ما ورد في المقابلة التي أجرتها ميجان داي وميكاه إيترشت مع المؤلف حول المقالة. في هذه المقابلة، التي ظهرت ابتداءً في بودكاست «The Vast Majority» الذي تصدره مجلة «جاكوبين»، يجيب جوبال عن هذه الأسئلة التي توجهها إليه ميجان وميكاه، مركزًا في حديثه على ديناميكيات الطبقة المتغيرة في مجتمع الشرق الأوسط، ويؤكد أنه «لا يوجد بديل لقوة الطبقة العاملة المستقلة». ورغم أن انتفاضات الربيع العربي في أوائل العقد الثاني من القرن الحالي كانت ملهمة، فإنها فشلت في إحداث تحول ديمقراطي. ولم يكن سبب ذلك الخصائص الثقافية أو الدينية للمنطقة، بل الضعف الشديد لقوة الطبقة العاملة في الشرق الأوسط في ظل النيوليبرالية، حسبما يخلص الحوار. تفسيران شائعان لفشل الربيع العربي
لماذا جرت عسكرة الانتفاضات بسرعة؟ لماذا لم يعتمدوا على الإضرابات والجهود الجماعية للطبقة العاملة؟ لماذا فقدت العناصر الليبرالية مصداقيتها ونبذت لصالح العناصر الأصولية، وكيف استغلت مجموعات مثل «داعش» الانقسامات بين صفوفها؟ تطرح المقالة تفسيرين شائعين لفشل الربيع العربي؛ أولهما التفسير الليبرالي القائل بأن الانتفاضات احتاجت المزيد من التدخل الأجنبي والدعم الخارجي، والثاني هو تفسير اليسار بأن هذه الانتفاضات كانت إسلامية جدًّا منذ البداية، وأنها لم تكن علمانية بما يكفي لتكون ثورية بالكامل، لكن جوبال يعد هذين التفسيرين غير كافيين. يقول: إن كليهما ليس بالتفسير الحقيقي؛ لأنهما يستلزمان أن نفكر في الأسباب الكامنة خلفهما. إذا أخذت التفسير الليبرالي، وهو أنه إذا تدخل المجتمع الدولي أو القوى الأجنبية ستكون القصة مختلفة تمامًا، يبرز السؤال: «لماذا تطورت الثورات بحيث تتطلب تدخلًا أجنبيًّا؟». وإذا نظرتَ إلى تاريخ الثورات، لن تجد نجاح الثورة يعتمد فقط على دعم القوى الأجنبية. لذا فإن هذا التفسير يتطلب تحديد نقاط ضعف الثورة التي استلزمت التدخل بعد ذلك. هناك يساريون يجادلون بأنها لم تكن ثورات علمانية، بل كانت جميعها أصولية. وليست هذه هي الحال، في رأي جوبال، بل كان الأمر أكثر تعقيدًا من ذلك بكثير. ولكن إذا نظرت إلى الوراء في الخمسينيات والستينيات، ستجد أن الأيديولوجيات العلمانية اليسارية المختلفة كانت هي السائدة في المنطقة، سواء القومية العربية أو الشيوعية، مما يثير سؤالًا عن سبب عدم سيطرة هذه الأيديولوجيات على الانتفاضة. لذلك يعتقد أننا بحاجة إلى النظر بعمق أكبر بكثير من أي من هذين النهجين. هنا يتدخل إيترشت مشيرًا إلى الافتراض القائل بأن هذه المنطقة تهيمن عليها دائمًا الأصولية الإسلامية، ويتساءل: كيف وصلنا من تلك النقطة إلى منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي نراها اليوم؟ ويجيب جوبال بأن الأصولية الإسلامية ظاهرة جديدة إلى حد ما تعود إلى السبعينيات. وإذا نظرت إلى المنطقة اليوم، فمن الصعب أن تتخيل أنها كانت أي شيء آخر غير هذا. وجزء من ذلك هو نجاح الدعاية الغربية وطريقة الحرب الأمريكية على الإرهاب في تأطيرها. في كل بلد عربي تقريبًا، كانت القوى المهيمنة المعارضة للوضع الراهن تتكون من القوميين أو الشيوعيين. فالقوميون العرب دعوا إلى وحدة كل العرب في مختلف البلدان، وكانت أيديولوجيتهم علمانية ومناهضة للاستعمار، ومهتمة بإعادة توزيع الثروة والشعور بالمساواة الاجتماعية، وكانت هذه هي الأيديولوجية السياسية الأهم في الخمسينيات والستينيات. أما الشيوعية فكانت ثاني أهم أيديولوجية، وكان الحزب الشيوعي العراقي هو التنظيم السياسي الأكثر نجاحًا في تاريخ البلاد. ويستشهد الكاتب بالسودان بوصفه أحد البلدان التي كان فيها حزب شيوعي هائل، كما كان في مصر وغيرها. لكن للأسف طوى النسيان معظم هذا التاريخ. العقد الاجتماعي قبل النيوليبرالية
هنا تسأل ميجان: كيف كانت الأوضاع قبل النيوليبرالية، وكيف أدى انهيار العقد الاجتماعي السابق لتمهيد الطريق للربيع العربي؟ فقبل عام 1990، كانت الجماهير العربية قد تخلت فعليًّا عن حقوقها في الديمقراطية والمساومة الجماعية مقابل سياسات إعادة توزيع واسعة النطاق وحماية من السوق. إذن ما شكل العقد الاجتماعي قبل التسعينيات؟ يجيب جوبال بأن كل بلدان الشرق الأوسط كانت قد خرجت من الاحتلال الاستعماري، ومرت جميعها بفترة من الاستقلال، معظمها في الأربعينيات والخمسينيات. في تلك الفترة، قادهم في الغالب ليبراليون، وهم مجموعة قوى تؤمن بالانتخابات، وتؤمن بالأسواق الحرة، والحقوق الفردية. ما حدث في دولة بعد الأخرى هو أنه في الوقت الذي يعد فيه الحصول على حقوق تصويت ديمقراطية مهم حقًّا، فإن ما تجاهله الليبراليون أو حاولوا خنقه كان أي نوع من المساواة الاقتصادية. لذلك في سوريا كان لديك أحزاب سياسية تناصر الانتخابات ولكنها تحاول الحفاظ على نظام ملكية للأراضي يفتقر تمامًا للعدالة، ويكاد يشبه العبودية؛ إذ يمتلك 5 أو 10% من السكان كل الثروة والأرض. وبلغ ملايين السوريين والمصريين والعراقيين سن الرشد في وقت لم يكن فيه الليبراليون قادرين على حل مشكلة عدم المساواة الجوهرية، من خلال إعادة التوزيع الاقتصادي. لهذا برزت الأحزاب الشيوعية والقوميون في تلك الفترة، وتعاملوا مع هذه القضايا مباشرة، وبذلك وصلوا إلى السلطة في بلد تلو الآخر. وصلت أنظمة قومية عربية إلى السلطة وفككوا ملكية الإقطاعيين القدامى، وأعادوا توزيع الأرض والثروة. تمكنت الجماهير في ظل هذا العقد الاجتماعي من الحصول على بعض الحماية من السوق. حصلوا على احتياجاتهم الأساسية من الرعاية الصحية والإسكان والتوظيف المضمون في كثير من الأحيان. في مصر، إذا التحقت بكلية أو جامعة وتخرجت، ضمنتَ لك وظيفة في الحكومة. وكان الالتحاق بالكلية مجانًا، فكان الملايين ينتقلون من الريف إلى القاهرة والإسكندرية، ويذهبون إلى الكلية ويضمنون الحصول على وظيفة، مما يخلق نوعًا من الطبقة الوسطى. ولكن لم تكن هناك حقوق ديمقراطية على الإطلاق في أي من هذه البلدان. كانت مصر ديكتاتورية وكذلك سوريا. كما انتفت حقوق التفاوض الجماعي. نفذ ديكتاتور مصر جمال عبد الناصر هذه الخطة لمنح تعليم مضمون لملايين المصريين، ولكن كان من أول الأشياء التي فعلها عندما وصل إلى السلطة هو شنق العمال المضربين على عامود في القاهرة، بحسب جوبال. يتابع الكاتب: أراد ناصر تدمير قدرة الناس على المطالبة باستقلالية من خلال السيطرة الخارجية على حياتهم، سواء كانت اقتصادية أو سياسية، وفي المقابل حماهم من السوق. إنها أيضًا حالة يتعلم فيها الأشخاص كيفية العيش ضمن هذا العقد الاجتماعي مع إمكانية الصعود الاجتماعي. إذ كان يمكن أن يساعدك صديق في الحكومة للحصول على وظيفة أو تحصل على مدرسة في قريتك. هذا هو العقد الاجتماعي: تدمير كامل لأي سيطرة جماعية على حياة الناس، لكنهم على نحوٍ فردي كانوا قادرين على إقامة روابط وتحسين وضعهم أو وضع مجتمعاتهم. «التشاركية».. الطريق الثالث
يجادل الكاتب بأن مفهوم «التشاركية» أمر حيوي لفهم الهيكل الطبقي المتغير في البلدان العربية، وهنا تسأله داي: هل يمكنك أن تعطينا تعريفًا دقيقًا للتشاركية بالمعنى الذي تستخدمه بها؟ ويرد جوبال بأن التشاركية ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في إيطاليا، عندما كان هناك قساوسة وآخرون يبحثون عن طريقة لمناهضة انعدام المساواة الخطير الذي ابتليت به إيطاليا في ذلك الوقت، بينما لم يدعموا الحركات العمالية من أجل أهداف إعادة التوزيع الراديكالي للثروة والقوى العاملة. كانت التشاركية أشبه «بالطريق الثالث» بين سلطة العمال والوضع الراهن. لذلك بدلًا من أن يكون الصراع الطبقي هو السبيل لإعادة توزيع الثروة، قال التشاركيون إنه يمكن لكل شريحة من شرائح المجتمع التفاوض معًا. في عالم مثالي، يتوصل الجميع إلى اتفاق ويكون الجميع في وضع أفضل. لكن في الواقع، ونظرًا إلى وجود مصالح في المجتمع يعارض بعضها بعضًا ولا يسهل إقناع الجميع، غالبًا ما تتدخل الدولة وتصبح القوة الوسيطة بين هذه المكونات المختلفة للمجتمع. ما حدث تاريخيًّا هو أنه على الرغم من أن التشاركية كان يفترض أن تكون حلًّا وسطًا لتجنب الصراع الطبقي وتعامل الجميع على قدم المساواة، إلا أن الدولة أصبحت هي الفيصل الرئيسي في هذه النزاعات، وأحد الأشكال الرئيسية للحكومة في ظل مختلف الأنظمة القومية العربية، التي ظهرت في الخمسينيات والستينيات. وصف جوبال في مقاله المصطلح العربي «الواسطة». ويقول: لدينا واسطة في الولايات المتحدة، فلو كنت ثريًّا وتعرف المستشار المسؤول عن القبول، أو تمتلك أي شيء يمكنك إدخال طفلك إلى المدرسة المناسبة. إنه الشيء نفسه، باستثناء أن الواسطة في العالم العربي هي الطريقة الوحيدة التي يمكنك بها إنجاز أي شيء. لنفترض أنك عشت في قرية وأردت إنشاء مدرسة في قريتك. ستذهب إلى جارك الذي تصادف أن يكون له أخت تعمل في مديرية التربية والتعليم بالمحافظة. ستقنع جارك، ويقنع أخته، وربما مع بعض التأثير تحصل على المدرسة. لذا كانت الواسطة هي الطريقة التي جرى بها توزيع الموارد في ظل مجتمع تشاركي حتى التسعينيات. «غرف التعذيب والزبدة»
يصف جوبال هذه الأنظمة بأنها «غرف التعذيب والزبدة»؛ ما يعني أنها نظم سلطوية لديها قدر معقول من القدرة على إعادة التوزيع الاقتصادي، والمقايضة الحقيقية في التشاركية تكمن في التالي: للحصول على أشياء جيدة، عليك التخلي عن سلطة الطبقة العاملة المستقلة. هذا لا يعني أنه لا يمكنك الحصول على أشياء جيدة، ولكن عليك التنازل عن القوة الجماعية. ويضيف جوبال أن الناس كانوا يواجهون خيارًا رهيبًا في الخمسينيات والستينيات؛ فبدون مؤسسات قوية ومستقلة لقوة الطبقة، ومع ندرة البدائل، كان عليهم أن يختاروا بين العيش في ظل عدم المساواة الفادح في الليبرالية، أو قبول شيء ما في مقابل حل أي سلطة جماعية لديهم. وهذا الأخير هو ما اختاروه. ويوضح أن الناس سئموا من الديكتاتوريات ثم انتفضوا في عام 2011. وهذا لا يفسر لماذا استغرق الأمر حتى عام 2011 حتى ينتفضوا، ولماذا استمرت الديكتاتوريات بأريحية لأربعين عامًا. لذلك علينا أن نفهم لماذا كانت هذه الأنظمة قادرة على إحباط أي معارضة كبيرة ضدها. وهنا يأتي دور «غرف التعذيب والزبدة». يتطرق الحوار إلى تأثير النيوليبرالية في المنطقة على الديناميكيات الطبقية فيها، والتغييرات التي حدثت داخل الطبقة العاملة بمجرد أن بدأت النيوليبرالية في تحقيق تقدم في المنطقة، ويرى جوبال أن التحول النيوليبرالي بدأ في تسعينيات القرن الماضي ثم تسارع بعد عام 2000. انحل العقد الاجتماعي من خلال تفكيك مختلف أجزاء الجسد التشاركي، وتدمير الخدمات الاجتماعية. لذلك بينما كان الناس من قبل محميين من تقلبات السوق الحرة، أصبحوا الآن معرضين لها بطريقة غير مسبوقة. كانوا يشعرون بتقلبات في أسعار السلع الاستهلاكية الأساسية، وخصخصة خدمات مثل الرعاية الصحية والتعليم خلال هذه الفترة. في الوقت نفسه، لم تكن هناك زيادة في الصناعات التي يمكن أن تستوعب كل هؤلاء الأشخاص ليصبحوا عمالًا تقليديين من ذوي الياقات الزرقاء. كان هناك صعود في قطاع الخدمات، وصعود الاقتصاد غير الرسمي، وغادر كثير من الناس البلاد، مثل مغادرة سوريا ومصر، والتحول إلى عمال مهاجرين وعمال باليومية في الخليج أو لبنان. الطبقة العاملة.. تفتيت وتشتيت
بعبارة أخرى، يصف الكاتب الطبقة العاملة في البلدان العربية بأنها كانت مشتتة ومفتتة خلال هذه الفترة. فلم يعودوا يعملون في إطار جماعي، حيث يمكنهم ممارسة سلطتهم عن طريق الإضراب عن العمل. بدلًا من ذلك، فإنهم يتنقلون من منطقة تجمُّع إلى منطقة تجمُّع، ومن من بلد إلى آخر، ويتأرجحون بين فترات بطالة طويلة، في انتظار معرفة ما إذا كان بوسعهم الحصول على بعض الفرص للعمل. ويوضح جوبال أن النيوليبرالية تعيد هيكلة الطبقة العاملة، بمعنى أن تكون الطبقة العاملة كبيرة كما كانت في حقبة ما قبل التسعينيات، ولكن لديها قوة جماعية أقل. لكن الأمر لا يتعلق بالشرق الأوسط وحده؛ لأن القوى التي تعيد تشكيل الاقتصادات الإقليمية والسياسة وتضعف قوة الطبقة العاملة موجودة في كل أنحاء العالم. وهو الرأي الذي يقره جوبال، مؤكدًا أن التفاصيل قد تكون مختلفة، وخاصة في الشرق الأوسط، لكن القصة الأوسع هي قصة متكررة في مختلف أنحاء العالم منذ السبعينيات. لكن إذا كانت النيوليبرالية وتدمير الحماية ضد السوق أحد الأسباب الرئيسية للانتفاضة، فلماذا لم تتخذ الانتفاضة شكل مقاومة النيوليبرالية مباشرة؟ لماذا اتخذت هذه الأشكال الأخرى، إما الليبرالية – بمعنى التركيز كليًّا على حقوق الإنسان وليس على الحقوق الاقتصادية والمساواة الاجتماعية وإعادة التوزيع – وإما الأصولية؟ لماذا لا يتحول الغضب الجماعي إلى قوة تغيير؟
هذا لغز يتردد صداه أيضًا في جميع أنحاء العالم اليوم. فبعد أربعين أو خمسين عامًا من الهجوم على مستويات معيشة الناس، لماذا لا نرى المقاومة تتخذ أشكالًا واعية طبقيًّا؟ إنها القصة نفسها في كل مكان. يعود الحوار إلى العالم العربي، حيث كان هناك غضب من السلب الذي تعرض له الناس على مستويات غير مسبوقة على مدار الأربعين عامًا الماضية، لكن قدرتهم على تحويل هذا الغضب إلى قوة جماعية ليست كبيرة كما كانت في السابق. وهذا ما يلخص قصة الربيع العربي، حسبما يخلص الحوار. بدأت النيوليبرالية في المنطقة في التسعينيات، وبحلول عام 2011 كان هناك جيل كامل من الأشخاص الذين نشأوا في العمل غير الرسمي، وفي نوع من الحياة العملية غير المستقرة، وفي الوقت نفسه، لم يتغير الافتقار إلى الحقوق السياسية على الإطلاق. وهكذا ذهبت الزبدة، لكن بقيت غرف التعذيب. يستشهد جوبال بمدينة قفصة التونسية، موطن أحد أكبر مناجم الفوسفات في العالم، حيث كانت هناك انتفاضة محلية. ما يثير الاهتمام في تلك الانتفاضة قبل عام 2011 هو أنها ضمت عمالًا عاطلين عن العمل، وعمالًا مؤقتين، وعاملين في القطاع غير الرسمي. وقد كانت تلك إرهاصات ما سيحدث لاحقًا. ففي عام 2011، انطلقت الثورة في تونس وانتشرت بسرعة إلى ستة أو سبعة بلدان مختلفة. كان أفراد الثورة إلى حد كبير هم كل هؤلاء الأشخاص الذين جرى تفتيتهم وتحطيمهم وحرمانهم على يد الأنظمة النيوليبرالية على مدار العشرين أو الثلاثين عامًا الماضية. لكن كيف أدت الديناميكيات الطبقية المتغيرة في المنطقة إلى ظهور خاصية معينة لانتفاضات الربيع العربي لم تكن في الواقع كافية لإسقاط السلطة؟ يجيب جوبال مستشهدًا بحالة سوريا، حيث كانت هناك احتجاجات في جميع أنحاء البلاد، ورد النظام بوحشية ففتح النار على الرجال والنساء والأطفال وقتل أعدادًا كبيرة، وقد بدأ ذلك في مارس (آذار) 2011. عندما تُحاصَر الثورة بين خيارين أحلاهما مرٌّ
يتابع جوبال: لدي صديق ثوري سوري، أخبرني كيف اعتاد النشطاء الاجتماع سرًّا كل أسبوع لمحاولة التخطيط لاحتجاجات الأسبوع. إذا قبض عليك متورطًا، فستتعرض لتعذيب رهيب، لذلك كانوا شجعانًا شجاعة لا تصدق. واستمر النقاش حول ضرورة حمل السلاح من عدمه لمدة شهر، وكان هناك انقسام في الرأي، ثم ذبح عدد كافٍ من الناس لدرجة أن النشطاء شعروا بأنه ليس لديهم خيار، وبدأ الناس في تسليح أنفسهم. الآن، المثير للاهتمام في هذا النقاش هو لماذا كان هذان الخياران الوحيدين؟ لماذا كانت الخيارات الوحيدة إما استمرار الاحتجاجات السلمية في ساحات البلدات وإما حمل السلاح؟ والسبب في رأي الكاتب هو أنه لم يكن لديهم أي وسيلة أخرى لوقف النظام. إذ ما هي الوسائل الأخرى لوقف النظام؟ أحد أشكال القوة الأخرى الوحيدة التي يمتلكها الناس هو التوقف عن العمل. إذا تمكنوا من وقف العمل، عندئذٍ تتوقف فجأة العجلات التي تحرك النظام. في حالة سوريا كان أرباب العمل الرئيسيون والشركات الكبرى جميعًا يقفون إلى جانب النظام. وبالتالي إذا توقف الناس عن العمل في جميع أنحاء البلاد، فستشهد انقسامًا كبيرًا في الطبقة الحاكمة وستشهد مسارًا مختلفًا تمامًا. إذن السؤال هو لماذا لم يكن ذلك مطروحًا على الطاولة؟ يجيب جوبال: لم يكن مطروحًا على الطاولة لأن الناس لم تكن لديهم خبرة في العمل الجماعي معًا والانخراط في عمليات إضراب سابقة، وهو الأمر الذي يتعين على المرء فعله على مر السنين للحصول على الثقة ليفكر بأن هذه هي الطريقة الصحيحة للتحرك إلى الأمام. إذا نظرت إلى الثورات السابقة من أجل التغيير الديمقراطي في التاريخ، أو الثورة الألمانية، أو ثورات 1848 من أجل التغيير الديمقراطي، ستجد أن ذلك كان ظرفًا مختلفًا تمامًا. كانت هناك في الواقع ذاكرة جماعية عن كيفية المقاومة. هذه هي الطريقة التي أعادت بها النيوليبرالية هيكلة الشرق الأوسط. فهذه التجارب لم تكن موجودة. إحدى الحجج التي تطرحها المقالة هي أن الأنظمة النيوليبرالية دمرت أي نفوذ كان لدى الطبقة العاملة. وهذا لا يعني أنه من غير الممكن بالنسبة لهم القتال، كل ما في الأمر أن العقبات أكبر بكثير. كانت الخيارات المتاحة لهم هي تسليح أنفسهم أو عدم تسليح أنفسهم والتعرض للذبح. لذا سلحوا أنفسهم، وكل ما فعلوه بالطبع هو تأخير المذابح، لأنهم لن يكونوا قادرين على مجاراة قوة النظام السوري، ثم الجيش الروسي والجيش الإيراني. ثورات نابعة من الشعوب أم مؤامرة إمبريالية؟
تجدر الإشارة إلى أن ما يقوله جوبال هو عكس ما يطرحه بعض اليساريين الذين يرون أن هذه الثورات قامت نتيجة للتدخل الإمبريالي الغربي، أو أن القوى الغربية سلَّحت الفصائل، التي كانت في الغالب من الأصوليين الإسلاميين، جزءًا من المؤامرة الإمبريالية. أما جوبال فيراها انتفاضات حيوية لمجموعات من الناس سئمت العيش في ظل أنظمة استبدادية وفي ظروف معيشية متردية وسلَّحوا أنفسهم بأنفسهم. ولدعم فكرته، يشرح جوبال الجدول الزمني لهذه الثورات؛ إذ اندلعت الثورة في سوريا في مارس ثم طُرحت مسألة تسليح الثورة في صيف ذلك العام. وبحلول خريف 2011، رأينا أولى الجماعات المسلحة، ثم جرت عسكرة الثورة في نهاية 2011. لم يحدث التدخل الأجنبي إلا بحلول عام 2012 والذي ابتدأته قطر، بينما لم تتدخل الولايات المتحدة حتى عام 2013. يتابع جوبال: كانت ثورة خالصة بدأت من الشعب ثم حاولت القوى الأجنبية إخضاعها لخدمة مصالحها. تراجع الفصائل الليبرالية مع تواصل الثورات
في بداية الثورات كانت هناك فصائل ليبرالية وأخرى إسلامية ثم ما لبثت أن تراجعت الفصائل الليبرالية وفقدت مصداقيتها. ويرى جوبال أنه في بداية 2011 كان من الممكن أن نطلق عليها ثورات ليبرالية تطالب بالديمقراطية والحريات وحق الانتخاب، ولكن بحلول 2013 تحولت الثورة إلى الطابع الأصولي الإسلامي، وهو أمر يعود إلى الديناميكيات الطبقية للثورة نفسها. يتحول جوبال للحديث حول البرجوازية التي خلقتها النيوليبرالية، وأثرها في تقسيم جماهير الثورة إلى قسمين. ففي سوريا، على سبيل المثال، لم ترغب الأنظمة التي تحولت إلى هذا الفكر أن تفتح البلاد أمام الاستثمار والخصخصة؛ لأن ذلك يهدد سلطتها وينشئ طبقة برجوازية لا تخضع لسيطرة النظام ويمكن أن تطيحه. لذلك حاول النظام السيطرة على النيوليبرالية لتجري الخصخصة بطريقة ترتبط بالنظام. فأصبحت النخبة الجديدة بعد عام 2000 جميعها ممن شغلوا مناصب حكومية في السابق أو من أقرباء الأسد، ثم أصبحوا جميعًا رجال أعمال بين عشية وضحاها الأمر الذي طحن الطبقة الفقيرة والطبقة العاملة. لنفترض أن لديك عملًا تجاريًّا صغيرًا، ولكنك لا تملك العلاقات التي تمكنك من الحصول على عقود كبرى، فأنت تخسر أيضًا من الانفتاح الليبرالي. فبذلك أصبح هناك مجموعتان: البرجوازية الإقليمية، وجماهير الفقراء والطبقات العاملة، وهما جناحا الثورة. اتفق كلاهما في البداية على الديمقراطية والحريات الفردية. لكن برزت مشكلة بعد تحرير المناطق وطرد النظام منها بين عامي 2012- 2013؛ حيث ظهرت أسئلة مثل كيف نوزع الموارد؟ وهل يجب فرض ضرائب على الأغنياء؟ وغيرها. وهنا برزت إجابتان مختلفتان بالطبع؛ إذ شجَّعت النخبة تبني نظام لا يتدخل ولا يفرض ضرائب أو يعيد توزيع الثروة؛ لأن هذا ما تعنيه الحرية. أما بالنسبة للفقراء والطبقة العاملة، فكان لديهم مفهوم مختلف للحرية، وهو: التحرر من الجوع والحاجة. اصطدمت هاتان المجموعتان بطرق مختلفة، ولأن الفقراء وأبناء الطبقة العاملة لا يستطيعون تنظيم أنفسهم هيكليًّا وتصوُّر أنفسهم بوصفهم طبقةً، وضعوا الأمر في إطار مختلف. على سبيل المثال: مسلمون ضد أفراد النخبة الذين لا يمثلون الإسلام. ومن هنا دخل الأصوليون الذين كانوا على دراية بهذه الانقسامات وكان لديهم برنامج شعبوي يعد بتخليص الفقراء من هذه النخب. فمعظم المناطق التي سيطرت عليها «داعش» لم تنتصر عليها عسكريًّا بالضرورة بل سياسيًّا. وكان أن أصبحت نصف البلاد في يد «داعش» بحلول عام 2014. أدرك بعض الأشخاص، بعد فوات الأوان، أن داعش كانت خيارًا فظيعًا؛ لأنها كانت تمثل دولة شمولية لا تحتمل أي معارضة وإن نبست بكلمة ستُقتل. تونس.. الاستثناء الذي يؤكد القاعدة
ربما يعزو البعض نجاح تجربة الثورة في تونس إلى المصادفة، فإذا حاولت صنع شيء في خمس أو عشر دول، مثلًا، فلا بد أن تنجح المحاولة في واحدة منها. ولكن جوبال يرى الأمر بصورة مختلفة. يبدأ جوبال بسرد الأمور المتشابهة بين تونس وباقي الدول العربية؛ التي كان جميعها تحكمه ديكتاتوريات قومية ولا تتمتع بأية حقوق سياسية على الإطلاق، وتخضع لعقد اجتماعي يتنازل الناس بموجبه عن حقوقهم مقابل بعض الزبد (المصلحة)، وطبقة عاملة مفتتة ومشتتة بفعل النيوليبرالية. ولكن في حالة تونس، كان هناك اتحاد نقابي، الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي حافظ على بقائه وبعض استقلاليته. وهذا عكس ما كان عليه الحال في سوريا ومصر وأماكن أخرى؛ إذ ذابت الاتحادات النقابية المماثلة في الدولة وأصبحت أداة لها. في البلدان الأخرى كان هناك قوتان: الشعب والديكتاتور. ولكن منذ سبعينيات القرن الماضي، عمل الاتحاد النقابي بوصفه قوة ثالثة في المجتمع التونسي. أمر آخر فعله هذا الاتحاد العام منذ التسعينيات وما بعدها هو: تنظيم القطاع غير الرسمي وربطه بطريقة ما بالقطاع الرسمي ما أعطاه بعض النفوذ على هذا القطاع. لذلك عندما اندلعت الثورة في تونس كانوا قادرين على ممارسة هذا الفعل بطريقة لم تستَطِعها الاتحادات النقابية التي تسيطر عليها الدولة في البلدان الأخرى. ويلفت جوبال إلى أن تاريخ تونس ومصر كان متشابهًا تقريبًا حتى عام 2013. ولكن الاختلاف هنا أنه كان هناك اتحاد نقابي في تونس وشريحة من الطبقة العاملة حافظت على استقلالها، ولم تتنازل عنه أبدًا لصالح العقد الاجتماعي على مدار الأربعين عامًا الأخيرة، وتمكنت من فرض تحول ديمقراطي. هل طويت صفحة الربيع العربي تمامًا؟
لم تكن نهاية الربيع العربي في البلدان الأخرى سعيدة مثل تونس، لكن لماذا لا نشعر بأن هذه الصفحة طُويت تمامًا، وهل سيكون هناك دور لليسار في دول الشرق الأوسط؟ يختم جوبال حواره بالحديث عن السودان الذي يرى أنه يحمل بعض أصداء تونس المثيرة للاهتمام. فكما هو الحال في تونس، شهد السودان بقاء منظمة عمَّالية مستقلة، ليست قوية ولكن حتى هذا القدر الضئيل كان كافيًا لتجنب كارثة، عندما وصلت الأمور إلى ذروتها الصيف الماضي. كان من الممكن أن يحدث كما حدث في مصر، ولكن كان لدينا هذه السلطة المستقلة التي استطاعت أن تفرض ما يشبه التحول الديمقراطي. لا نعرف بعد كيف سيكون مصير السودان، ولكنه يعتقد أن هناك ما يدعو للأمل. أما إذا نظرت إلى استراتيجية اليسار التونسي؛ فستجدها لا تختلف اختلافًا جذريًّا عن استراتيجية اليسار في الولايات المتحدة التي تهدف إلى بناء جذور لها في النقابات في المناطق التي تمكِّنها من ممارسة سلطة حقيقية على المدى الطويل. كان هناك نشطاء ومناضلون في الاتحاد العام التونسي للشغل حاولوا إضفاء الطابع الديمقراطي عليه وناضلوا من أجل الديمقراطية النقابية والمساءلة القانونية، فبنوا قوتهم من الداخل وعندما سنحت الفرصة كانوا قادرين على المضي قدمًا. ويعتقد جوبال أن هذا أمر يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، مشددًا في النهاية على أنه لا يوجد بديل عن قوة الطبقة العاملة المستقلة.
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/09 الساعة 11:15