حسن حبشي.. راهب المؤرخين
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/05 الساعة 10:41
مدار الساعة- مؤرخ كبير ومحقق أصيل ومؤلف نادر من بقايا العلماء الموسوعيين الذين لم يقفوا عند فترة تاريخية بعينها؛ بل درسوا كثيرا من جوانب التاريخ الإسلامي غير مكتفين بالفترة التي تخصصوا فيها، فأعاد إلينا نماذج العلماء الأسلاف في التعلُّم والتعليم والتأليف، والعكوف على العلم الذي أفنيت فيه الأعمار، هو الراحل الدكتور “حسن حبشي” الذي جمع بين دقة البحث وسلامة المنهج، وجمال الصياغة والأسلوب، والمزج بين علمي الحديث والتاريخ، والانطلاق من الوقائع والأحداث إلى النقد والتحليل الذي يعطينا عبرة التاريخ بجانب سرد قصة الماضي.
بطاقة حياة ومشوار علمي
ولد حسن حبشي محمد محمود في (21 مارس 1915م = 5 جمادى الآخرة 1333هـ) في حي السيدة زينب بالقاهرة لأسرة متدينة؛ الأب فيها مغربي الأصل، والأم مصرية، وكان بيتا هادئا متدينا. حصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، ثم على الماجستير في التاريخ من الجامعة نفسها عام 1946م، عن موضوع: “نور الدين والصليبيون.. حركة الإفاقة الإسلامية في القرن الثاني عشر الميلادي”، وطبعت أول مرة عام 1949م، ثم حصل على الدكتوراة في فلسفة التاريخ من جامعة لندن عام 1955م. لم يقتصر عطاؤه العلمي والتعليمي على مصر في آداب عين شمس، وفي المنيا بصعيد مصر؛ بل درَّس التاريخ في لندن، وفي طرابلس، وبغداد، وجدة. وشغل منصب “أستاذ كرسي” التاريخ الإسلامي والوسيط بآداب عين شمس، وعمل ملحقا ثقافيا بسفارة مصر في باكستان مرتين، وكان يجيد عدة لغات منها: الفرنسية القديمة واللاتينية والإنجليزية. أصدر ما يقرب من خمسين عملا ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، منها ما يضم عشرة أجزاء، وخمسة أجزاء، وأربعة أجزاء. وأشرف شيخ المؤرخين العرب -كما كان يُسمَّى- على أكثر من 80 رسالة علمية، فتخرج على يديه العديد من العلماء، كما أشرف على نشر التراث الإسلامي في دار الكتب المصرية، وكان عضوا في لجان وهيئات كثيرة منها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، وشارك في العديد من المؤتمرات العالمية، فضلا عن إسهاماته الفعالة في دوائر المعارف والموسوعات التاريخية، فنال العديد من الأوسمة المصرية والعالمية. ظل الرجل يعاني فترة طويلة من ويلات الداء فلم يلتفت إليه أحد، بالرغم من أنه جدير بالاهتمام من جهات عديدة، مثل جامعة عين شمس، ووزارة الثقافة المصرية، وجمعية التاريخ، فضلا عن تلامذته الكبار، حتى غادر دنيانا في صمت يوم الأحد (17 يوليو2005م= 11 جمادى الآخرة 1426هـ). مشروعه الفكري
وهب الدكتور حبشي عمره لمشروع فكري متميز، يمكننا أن ننظر إليه من ناحيتين: الأولى: شكلية تصنيفية، والثانية: فكرية موضوعية. أما الأولى فتشمل ثلاثة محاور هي: التأليف، والتحقيق، والترجمة، منها المطبوع، ومنها ما هوتحت الطبع، ومنها ما تركه في طور التنقيح والمراجعة، فضلا عن الأعمال والمشروعات والأفكار التي لم تسلك طريقها في الأوراق. في التأليف: كتب في السيرة النبوية، وفي سير الصحابة والصحابيات، ومراحل التاريخ الإسلامي وبخاصة الوسيط منها، وعلى وجه أخص الفترة الصليبية والبيزنطية. وحسبه في التأليف ما كتبه عن الصحابيات اللاتي أخرج لهن خمس مجلدات، وما ألفه عن الصحابة في عشرة مجلدات. وكان أصل كلامه عن هؤلاء الصحابة والصحابيات عبارة عن حلقات في الراديو أذيعت بالمملكة العربية السعودية، فهذبها بعد ذلك بالحذف والإضافة، ونشرها في كتب، وأغلب هؤلاء الصحابة والصحابيات غير معروفين، وركز فيها على إبراز الجوانب الحضارية الإسلامية المشرقة. في التحقيق: ركز على تراث الإمام والمؤرخ البقاعي الذي شمل كتبا في التاريخ والتراجم والمعاجم والتفسير، كان أبرزها “عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران” في ست مجلدات، إضافة لما حققه للصيرفي وابن حجر العسقلاني، وابن الحنبلي. مجال الترجمة: وهو من أهم ما تميز به حبشي- فقد ترجم عن الكثيرين، وقد أسعفه في ذلك إتقانه للغات مثل اللاتينية والفرنسية، فترجم عن وليم الصوري، وفلهاردوان، ودوزي، وكلاري، وجوانفيل، وترتون، ولي سترانج.. وغيرهم. وأبرز أعماله المترجمة “الحروب الصليبية” لوليم الصوري في أربع مجلدات. أما المحور الثاني في مشروعه فيتعلق بالنواحي الفكرية الموضوعية، ويمكننا تقسيمها إلى ثلاثة محاور هي: الحروب الصليبية، والتاريخ الإسلامي، وقضايا أخرى. ويعد الدكتور حسن حبشي من أكبر وأهم مؤرخي الحركة الصليبية في العالم العربي، ويمكن القول بأنه من القلائل الذين رسموا وأوجدوا صورة صحيحة لهذه الفترة، فأطلع القارئ العربي على ما كتبه الغربيون فيها، بالرغم من وجود أعلام كثيرين لهم أعمال مقدورة في هذا المجال، على رأسهم الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور الذي أعطى كل عمره تقريبا للحروب الصليبية تأريخا وتحليلا. ويرجع ذلك إلى أنه مسح فترة الحروب الصليبية مسحا كاملا، فقرأ كل ما كتب عنها بالعربية، وترجم جلَّ ما كتب عنها بلغات أخرى، وميزة بعض الكتب التي ترجمها أنها نُقلت عن شاهدي عيان لهذه الحروب، ومذكرات لبعضهم -بعضها بلغات قديمة- وهوما جعل منها المصدر الأول والأهم في هذا الميدان. وقد أظهرت هذه الترجمات فيما يخص الحروب الصليبية عظمة الحضارة الإسلامية على لسان هؤلاء الشهود الذين أقروا بالسماحة الإسلامية في الوقت الذي انتقدوا فيه قومهم واعتبروهم غزاة محتلين. وفيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي فقد أظهر فيه الدكتور حبشي هويته الإسلامية الأصيلة ابتداء من كتابه “الرحمة المهداة” الذي عرض فيه السيرة النبوية عرضا جديدا، و”سرايا الرسول”، مرورا بـ”قصة إسلام الصحابة” في عشرة مجلدات، و”صحابيات صنعن الأحداث” عن تاريخ المرأة في صدر الإسلام في خمسة مجلدات، وانتهاء بـ”قرون الهجرة” الذي تناول فيه التاريخ الهجري قرنا قرنا حتى عصرنا الحاضر في أربعة مجلدات، ويلحق بهذا المحور: “الفتح المبين” وهي تمثيلية عن تاريخ مكة المكرمة حتى أنعم الله عليها بالفتح، و”أهل الذمة في الإسلام”، و”أخبار العالم الإسلامي”. وتناول “حبشي” بعض اللقطات والمساحات الزمنية التاريخية لبعض الدول والفترات، فكتب عن مصر والجزائر وفلسطين وأفريقيا والعصر المملوكي، وعرض لتسعة أحداث كبرى في الشرق والغرب، كان كل منها نقطة تحول في التاريخ من خلال كتابه: “أحداث صنعت التاريخ”. ملامح عامة للمنهج العلمي
كان الدكتور حبشي يحترم ذاته فيما يختار من موضوعات، كما كان لا يتكلم فيما لا يحسن، سواء في التأليف أوفي الترجمة أوفي التحقيق؛ فهويذكرنا بالمحققين الكبار أمثال: محمود شاكر، وعبد السلام هارون، ومحيي الدين عبد الحميد، وأبوالفضل إبراهيم، والسيد أحمد صقر، وغيرهم، إلا أنه لم يتوفر بشكل كامل لموضوع التحقيق؛ فقد كان مشغولا بالتاريخ الإسلامي وإعادة الهوية الإسلامية والعربية للأمة. أما منهجه في التأليف فكان يرجع إلى الوثائق التاريخية والمصادر الأولى الأعلى سندا، حيث كان يستخدم “علم الرجال” وغيره من علوم الحديث في الوصول للروايات الصحيحة وتمييزها عن السقيمة حتى يستطيع التحليل والبناء عليها، وتفسير غامض الأحداث التي يتم تفسيرها عن طريق جمع الروايات الصحيحة في الموضوع الواحد، مما يفسر المبهم ويوضح المشكل ويزيل التعارض عن الأحداث المتضاربة. ومن تأثره بمنهج المحدثين ومعايشته لكتبهم وحبه لهم كتب دراسة عن ابن حجر العسقلاني وأربعة من تلاميذه بعنوان: “ابن حجر وتلاميذه”. وهويذكرنا في هذا الصدد بالإمام ابن كثير الذي جمع في “البداية والنهاية” بين التاريخ وتمحيص الروايات في ضوء علوم الحديث. وكان حبشي يرى -انطلاقا من تمييز صحيح الروايات من سقيمها- أن الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ هي: إعادة النظر في أحداثه وتنقيته من الشوائب التي علقت به، وكان علوقها به نتيجة نزعات شخصية أواتجاهات مذهبية أوكراهية للإسلام. ولم يكن حبشي يكتفي بسرد الأحداث والوقائع وتمحيص الروايات فقط؛ بل كان له جهد بارز في تحليل الأحداث ونقدها، واستخلاص العبر والدروس المستفادة منها، وكان يردد دائما: “من لا يعي التاريخ في صدره لم يدرِ حلوالعيش من مُرِّه، ومن وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره”. ومن سمات منهجه في التأليف أنه كان يصوغ ذلك كله في عبارة عربية رائقة، وأسلوب أدبي عالٍ، سهل التناول قريب المأخذ، يذكرك بطريقة الطبقات العالية من الأدباء، وقد ورث هذا الأسلوب من حفظه المبكر للقرآن الكريم، ومئات القصائد والأبيات الشعرية التي كان يستشهد بها كثيرا بين يدي حديثه وكتاباته، وقراءاته الكثيرة للأدب واللغة، وتدهش حين تعلم أن له شعرًا غير منشور. أما في التحقيق والترجمة فكان له منهج مميز؛ حيث كان حريصا على أن يصل إلينا النص موثقا سليما معافى من الأخطاء والتصحيف كما كتبه صاحبه، وكان يقابل النص المحقق على نسخ كثيرة وصلت في بعض الأحيان إلى سبع نسخ كما في تحقيقه لكتاب: “در الحبب في تاريخ حلب” لابن الحنبلي؛ وذلك لكشف المبهمات من الألفاظ والوصول إلى أصوب العبارات عن طريق مقابلة النسخ بعضها ببعض، مع التحليل والنقد لما يراه خطأ في بعض الأحيان، دون تدخل في النص الأصلي. ولم يكن الدكتور حبشي مترجما للنص فحسب، ضمن المدرسة التي تنقل النص كما هوثم ينفض يده منه دون تعليق أوتعقيب؛ بل كان يأتي بروح النص لا بحرفه، ويمكن أن نصفه في الترجمة بـ “المترجم المحقق”. ومن أجمل ما يكشف عن قيمة الرجل ما وصفه به تلميذه المؤرخ د. عبد العظيم رمضان حيث قال: “حسن حبشي عالم جليل من أعظم أساتذة التاريخ في العصور الوسطى ومن المتخصصين بالذات في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث يعد أكبر مؤرخ في العصور الوسطى يتقن اللغات القديمة، وقد أتحف المكتبة بترجمته لكتاب وليم الصوري الذي هوشاهد على الحروب الصليبية، وكان نادرا في وفائه للعلم؛ حيث كنت أتصل به في الرابعة صباحا فأجده عاكفا على مكتبه، وقد بذلت جهدا كبيرا حتى ترشحه الجمعية التاريخية لجائزة الدولة التقديرية، ولكن محاولاتي فشلت لأسباب مخجلة”. لقد مثل “حسن حبشي” من خلال ما ألف وحقق وترجم مشروعا تاريخيا متكاملا أظهر عظمة الإسلام وروعة الحضارة الإسلامية.
ولد حسن حبشي محمد محمود في (21 مارس 1915م = 5 جمادى الآخرة 1333هـ) في حي السيدة زينب بالقاهرة لأسرة متدينة؛ الأب فيها مغربي الأصل، والأم مصرية، وكان بيتا هادئا متدينا. حصل على ليسانس الآداب قسم التاريخ من جامعة فؤاد الأول (القاهرة حاليا)، ثم على الماجستير في التاريخ من الجامعة نفسها عام 1946م، عن موضوع: “نور الدين والصليبيون.. حركة الإفاقة الإسلامية في القرن الثاني عشر الميلادي”، وطبعت أول مرة عام 1949م، ثم حصل على الدكتوراة في فلسفة التاريخ من جامعة لندن عام 1955م. لم يقتصر عطاؤه العلمي والتعليمي على مصر في آداب عين شمس، وفي المنيا بصعيد مصر؛ بل درَّس التاريخ في لندن، وفي طرابلس، وبغداد، وجدة. وشغل منصب “أستاذ كرسي” التاريخ الإسلامي والوسيط بآداب عين شمس، وعمل ملحقا ثقافيا بسفارة مصر في باكستان مرتين، وكان يجيد عدة لغات منها: الفرنسية القديمة واللاتينية والإنجليزية. أصدر ما يقرب من خمسين عملا ما بين تأليف وتحقيق وترجمة، منها ما يضم عشرة أجزاء، وخمسة أجزاء، وأربعة أجزاء. وأشرف شيخ المؤرخين العرب -كما كان يُسمَّى- على أكثر من 80 رسالة علمية، فتخرج على يديه العديد من العلماء، كما أشرف على نشر التراث الإسلامي في دار الكتب المصرية، وكان عضوا في لجان وهيئات كثيرة منها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة، وشارك في العديد من المؤتمرات العالمية، فضلا عن إسهاماته الفعالة في دوائر المعارف والموسوعات التاريخية، فنال العديد من الأوسمة المصرية والعالمية. ظل الرجل يعاني فترة طويلة من ويلات الداء فلم يلتفت إليه أحد، بالرغم من أنه جدير بالاهتمام من جهات عديدة، مثل جامعة عين شمس، ووزارة الثقافة المصرية، وجمعية التاريخ، فضلا عن تلامذته الكبار، حتى غادر دنيانا في صمت يوم الأحد (17 يوليو2005م= 11 جمادى الآخرة 1426هـ). مشروعه الفكري
وهب الدكتور حبشي عمره لمشروع فكري متميز، يمكننا أن ننظر إليه من ناحيتين: الأولى: شكلية تصنيفية، والثانية: فكرية موضوعية. أما الأولى فتشمل ثلاثة محاور هي: التأليف، والتحقيق، والترجمة، منها المطبوع، ومنها ما هوتحت الطبع، ومنها ما تركه في طور التنقيح والمراجعة، فضلا عن الأعمال والمشروعات والأفكار التي لم تسلك طريقها في الأوراق. في التأليف: كتب في السيرة النبوية، وفي سير الصحابة والصحابيات، ومراحل التاريخ الإسلامي وبخاصة الوسيط منها، وعلى وجه أخص الفترة الصليبية والبيزنطية. وحسبه في التأليف ما كتبه عن الصحابيات اللاتي أخرج لهن خمس مجلدات، وما ألفه عن الصحابة في عشرة مجلدات. وكان أصل كلامه عن هؤلاء الصحابة والصحابيات عبارة عن حلقات في الراديو أذيعت بالمملكة العربية السعودية، فهذبها بعد ذلك بالحذف والإضافة، ونشرها في كتب، وأغلب هؤلاء الصحابة والصحابيات غير معروفين، وركز فيها على إبراز الجوانب الحضارية الإسلامية المشرقة. في التحقيق: ركز على تراث الإمام والمؤرخ البقاعي الذي شمل كتبا في التاريخ والتراجم والمعاجم والتفسير، كان أبرزها “عنوان الزمان في تراجم الشيوخ والأقران” في ست مجلدات، إضافة لما حققه للصيرفي وابن حجر العسقلاني، وابن الحنبلي. مجال الترجمة: وهو من أهم ما تميز به حبشي- فقد ترجم عن الكثيرين، وقد أسعفه في ذلك إتقانه للغات مثل اللاتينية والفرنسية، فترجم عن وليم الصوري، وفلهاردوان، ودوزي، وكلاري، وجوانفيل، وترتون، ولي سترانج.. وغيرهم. وأبرز أعماله المترجمة “الحروب الصليبية” لوليم الصوري في أربع مجلدات. أما المحور الثاني في مشروعه فيتعلق بالنواحي الفكرية الموضوعية، ويمكننا تقسيمها إلى ثلاثة محاور هي: الحروب الصليبية، والتاريخ الإسلامي، وقضايا أخرى. ويعد الدكتور حسن حبشي من أكبر وأهم مؤرخي الحركة الصليبية في العالم العربي، ويمكن القول بأنه من القلائل الذين رسموا وأوجدوا صورة صحيحة لهذه الفترة، فأطلع القارئ العربي على ما كتبه الغربيون فيها، بالرغم من وجود أعلام كثيرين لهم أعمال مقدورة في هذا المجال، على رأسهم الأستاذ الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور الذي أعطى كل عمره تقريبا للحروب الصليبية تأريخا وتحليلا. ويرجع ذلك إلى أنه مسح فترة الحروب الصليبية مسحا كاملا، فقرأ كل ما كتب عنها بالعربية، وترجم جلَّ ما كتب عنها بلغات أخرى، وميزة بعض الكتب التي ترجمها أنها نُقلت عن شاهدي عيان لهذه الحروب، ومذكرات لبعضهم -بعضها بلغات قديمة- وهوما جعل منها المصدر الأول والأهم في هذا الميدان. وقد أظهرت هذه الترجمات فيما يخص الحروب الصليبية عظمة الحضارة الإسلامية على لسان هؤلاء الشهود الذين أقروا بالسماحة الإسلامية في الوقت الذي انتقدوا فيه قومهم واعتبروهم غزاة محتلين. وفيما يتعلق بالتاريخ الإسلامي فقد أظهر فيه الدكتور حبشي هويته الإسلامية الأصيلة ابتداء من كتابه “الرحمة المهداة” الذي عرض فيه السيرة النبوية عرضا جديدا، و”سرايا الرسول”، مرورا بـ”قصة إسلام الصحابة” في عشرة مجلدات، و”صحابيات صنعن الأحداث” عن تاريخ المرأة في صدر الإسلام في خمسة مجلدات، وانتهاء بـ”قرون الهجرة” الذي تناول فيه التاريخ الهجري قرنا قرنا حتى عصرنا الحاضر في أربعة مجلدات، ويلحق بهذا المحور: “الفتح المبين” وهي تمثيلية عن تاريخ مكة المكرمة حتى أنعم الله عليها بالفتح، و”أهل الذمة في الإسلام”، و”أخبار العالم الإسلامي”. وتناول “حبشي” بعض اللقطات والمساحات الزمنية التاريخية لبعض الدول والفترات، فكتب عن مصر والجزائر وفلسطين وأفريقيا والعصر المملوكي، وعرض لتسعة أحداث كبرى في الشرق والغرب، كان كل منها نقطة تحول في التاريخ من خلال كتابه: “أحداث صنعت التاريخ”. ملامح عامة للمنهج العلمي
كان الدكتور حبشي يحترم ذاته فيما يختار من موضوعات، كما كان لا يتكلم فيما لا يحسن، سواء في التأليف أوفي الترجمة أوفي التحقيق؛ فهويذكرنا بالمحققين الكبار أمثال: محمود شاكر، وعبد السلام هارون، ومحيي الدين عبد الحميد، وأبوالفضل إبراهيم، والسيد أحمد صقر، وغيرهم، إلا أنه لم يتوفر بشكل كامل لموضوع التحقيق؛ فقد كان مشغولا بالتاريخ الإسلامي وإعادة الهوية الإسلامية والعربية للأمة. أما منهجه في التأليف فكان يرجع إلى الوثائق التاريخية والمصادر الأولى الأعلى سندا، حيث كان يستخدم “علم الرجال” وغيره من علوم الحديث في الوصول للروايات الصحيحة وتمييزها عن السقيمة حتى يستطيع التحليل والبناء عليها، وتفسير غامض الأحداث التي يتم تفسيرها عن طريق جمع الروايات الصحيحة في الموضوع الواحد، مما يفسر المبهم ويوضح المشكل ويزيل التعارض عن الأحداث المتضاربة. ومن تأثره بمنهج المحدثين ومعايشته لكتبهم وحبه لهم كتب دراسة عن ابن حجر العسقلاني وأربعة من تلاميذه بعنوان: “ابن حجر وتلاميذه”. وهويذكرنا في هذا الصدد بالإمام ابن كثير الذي جمع في “البداية والنهاية” بين التاريخ وتمحيص الروايات في ضوء علوم الحديث. وكان حبشي يرى -انطلاقا من تمييز صحيح الروايات من سقيمها- أن الدعوة إلى إعادة كتابة التاريخ هي: إعادة النظر في أحداثه وتنقيته من الشوائب التي علقت به، وكان علوقها به نتيجة نزعات شخصية أواتجاهات مذهبية أوكراهية للإسلام. ولم يكن حبشي يكتفي بسرد الأحداث والوقائع وتمحيص الروايات فقط؛ بل كان له جهد بارز في تحليل الأحداث ونقدها، واستخلاص العبر والدروس المستفادة منها، وكان يردد دائما: “من لا يعي التاريخ في صدره لم يدرِ حلوالعيش من مُرِّه، ومن وعي التاريخ في صدره أضاف أعمارًا إلى عمره”. ومن سمات منهجه في التأليف أنه كان يصوغ ذلك كله في عبارة عربية رائقة، وأسلوب أدبي عالٍ، سهل التناول قريب المأخذ، يذكرك بطريقة الطبقات العالية من الأدباء، وقد ورث هذا الأسلوب من حفظه المبكر للقرآن الكريم، ومئات القصائد والأبيات الشعرية التي كان يستشهد بها كثيرا بين يدي حديثه وكتاباته، وقراءاته الكثيرة للأدب واللغة، وتدهش حين تعلم أن له شعرًا غير منشور. أما في التحقيق والترجمة فكان له منهج مميز؛ حيث كان حريصا على أن يصل إلينا النص موثقا سليما معافى من الأخطاء والتصحيف كما كتبه صاحبه، وكان يقابل النص المحقق على نسخ كثيرة وصلت في بعض الأحيان إلى سبع نسخ كما في تحقيقه لكتاب: “در الحبب في تاريخ حلب” لابن الحنبلي؛ وذلك لكشف المبهمات من الألفاظ والوصول إلى أصوب العبارات عن طريق مقابلة النسخ بعضها ببعض، مع التحليل والنقد لما يراه خطأ في بعض الأحيان، دون تدخل في النص الأصلي. ولم يكن الدكتور حبشي مترجما للنص فحسب، ضمن المدرسة التي تنقل النص كما هوثم ينفض يده منه دون تعليق أوتعقيب؛ بل كان يأتي بروح النص لا بحرفه، ويمكن أن نصفه في الترجمة بـ “المترجم المحقق”. ومن أجمل ما يكشف عن قيمة الرجل ما وصفه به تلميذه المؤرخ د. عبد العظيم رمضان حيث قال: “حسن حبشي عالم جليل من أعظم أساتذة التاريخ في العصور الوسطى ومن المتخصصين بالذات في تاريخ الحروب الصليبية؛ حيث يعد أكبر مؤرخ في العصور الوسطى يتقن اللغات القديمة، وقد أتحف المكتبة بترجمته لكتاب وليم الصوري الذي هوشاهد على الحروب الصليبية، وكان نادرا في وفائه للعلم؛ حيث كنت أتصل به في الرابعة صباحا فأجده عاكفا على مكتبه، وقد بذلت جهدا كبيرا حتى ترشحه الجمعية التاريخية لجائزة الدولة التقديرية، ولكن محاولاتي فشلت لأسباب مخجلة”. لقد مثل “حسن حبشي” من خلال ما ألف وحقق وترجم مشروعا تاريخيا متكاملا أظهر عظمة الإسلام وروعة الحضارة الإسلامية.
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/05 الساعة 10:41