المفكر والباحث د سلطان المعاني يكتب :التهافت والعنف المجتمعي

مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/04 الساعة 14:22
/>المفكر والباحث د سلطان المعاني

لعل من أسباب العنف المجتمعي هو نظرتنا المشوهة للذات والآخر. وقد نكون دون أن نعي نرجسيين وذاتيين لا نقبل الآخر، سواء الآخر القريب أو البعيد، والآخر الذي لا اتفق معه بالافكار ولا بالانتماءات على أشكالها الدينية والقرابية والجنسية وسواها أو أولئك الذين يختلفون عنا ثقافيا.
أريد أن أكون صريحا أكثر، حيث يرعبني عدم تعاطف الكثيرين منا مع آلام الآخرين، سواء في كوارث الطبيعة كالزلازل والبراكين أو الحروب، فنوعز ذلك فورا إلى عقوبة إلهية على هؤلاء الكفرة، متناسين أن ربنا وربهم واحد، وأنه عز وجل رب العالمين، ومتناسين أن رسول الرحمة محمد عليه السلام لم يدع بسوء على من آذوه من غير المسلمين، بل كان يدعو لهم، وأتساءل عن تلك موقفنا من تلك السحابة البركانية التي اجتاحت كثيرا من اقطار العالم، وكيف كانت نظرة بعضنا لها، فالغريب أن كثيرين قد تشفوأ وأحسوا بأنها عقوبة إلهية للغرب، وقد تناسينا أننا خسرنا مثلما خسر غيرنا، وذلك من باب "علي وعلى أعدائي"، وهي ردة فعل عاجزة وقاصرة وانفعالية.
ولا يعقل أن تصل ردود أفعالنا حيال بعض المواقف إلى قصور ذهني جماعي، يمكن تفهم ذلك مؤقتا وفرديا، لكننا أخذنا نتلمس ذلك وبكل أسف حالة لفظية ونفسية وجسدية، سيان كيف يجيء تراتب تمرحلات هذا العنف لكنه يؤدي في غالب الأمر إلى استخدام القسوة الجسدية.
لقد اعترت حياتنا هزات مفصلية حادة لنصبح دائمي الاقتراب من الارتطام بالانتكاسة على الأصعدة كافة، كان هذا دوما وكان لدينا استعداد خرافي على جبر التشظي أو تجاوز وقوعه، فما الذي حل بنا اليوم من الضياع للطمأنينة النفسية التي تمنحنا قوة التحمل والتسامح؟ لماذا نمارس شكلا من أشكال الهروب، وربما الاغتراب، ننساق فيه إلى سطوة عادات الزمان المنقضي وقوفا عند حده، لا نتخطّى إلحاحه، ولا نستسيغ التناغم مع فعلِ ولا ردات فعل سواه، فإذا كان الفعل الماضي معاشا يتفاعل معنا ومع الواقع فنحن أمام حالة يبتغي معها تجديد التراث واستيعابه، وهي مشروعية نتفهمها وفق أسّ التراث وسماته فلا تُعرَض قوالبه جاهزةً، نلبس لبوسها ونتقمصها، بل نتعاطى الخصائص العامة ونراعيها في وعينا وحاضرنا تجديدا وفق الواقع المحتمل.
فإذا كانت ثقافتنا العربية والإسلامية قد اتخذت في أزمانها معطيات الواقع في اختلاف الأمصار والأقاليم والشعوب فالأولى أن يكون هذا شاهدا على وجوب التنوع والاختلاف ونبذ التقولب والتخندق عنتاً قبالة تطوير الذات وفهم الآخر.
إن ما يحدث اليوم من عنف مجتمعي يعلن عن تأزم الفهم الديني والأخلاقي والقيمي، إزاء الخلل القائم في علاقتنا ببعضنا البعض وعلاقتنا مع الآخر، فالعقلية الاتهامية القائمة على فكرة المؤامرة تحرض على مجانية الكراهية.
إن هيمنة الماضي، وتقديس الفعل والأثر الغابر، وبعثه محنطا غير متجدد، بسبب هالة القداسة التي اكتسب بالتقادم، والتوق إلى عود الأيام وأصحابها، أما وقد مضى أصحابها الأعزاء فإن نستالوجيا الحنين الجامح تمنح الماضي مثاليةً مقابل الواقع بكل إحباطاته ومشاكله، فيعلن هؤلاء السقيا على ما فات ومَن مات. ويشتد إوار هذا الطرح ضراوة كلما اقترن بالجهل والأمية والعجر والاتباعية، فهي بيئات خصبة تؤسس للتخندق وتعظيم الأنا الجماعية المتقوقعة مقابل الآخر المعاصر أو المختلف فكريا؛ وهو ما ينسحب على مقومات الحياة الاقتصادية والفكرية والدينية والسياسية والادارية، وعلى الوعي الذي ينسج رتم الحياة اليومية، من عادات وتقاليد، ليصل إلى دقائق الأمور التي تهمين على أصحابها فيها فكرة الاتباع الحرفي شكلا ومضموناً، معطلين سيادة القانون ونظامَ الحياة الذي يصوغ الوعي المجتمعي ومدركاته وفق الزمان والمكان لكل جماعة أو شعب أو أمة.
إن مشكلة الحنين والإرتباط بالماضي تكمن في التأثير السلبي على كل منحى من مناحي الحياة العامة واليومية، تقوم على استحضار قوالب الماضي جاهزة، وتفرضها على الواقع في دعوة التقليد والمحاكاة عمياً عن الظروف والمتغيرات والبيئة فيضيق الثوب، أو يغدو فضفاضاً وفي الحالين لا ملجأ إلا للتعنت والعنف وروح النزق والثأر، وهي حال تضفي، فوق ما تدفع به إلى الإرهاب، إلى استمراء التقاليد التي ينبغي تجاوزها والانسلاخ اغترابا عن الواقع المعاش فرادى وجماعات. إن الروح الثأرية يباب الأرض ومدى من التنميط في توال لا ينتهي، وأحادية لا تفسح مجالا لشريك، لا تستند إلى واقع معاش وأرضية تتراكم فوقها البنى المعرفية والثقافية والحضارية وتتعدد، إنه اجترار التراث والثقافة والنمط مشفوعا بهالة دوائر التابوهات والتحريم، وتعطيلا لحركية الزمان وتعاقب أنماط بيئية بشرية وطبيعية على المكان، وحجراً على الثقافة من التأثر والتأثير إلا بالمقدار الذي كان وقت النشأة، وتم استحضاره محنطاً دينيا وثقافياً فعمي أصحابه عن روح الدين والمجتمع.
العنف يمارس فرديا ومؤسساتيا، يبدأ وفق براون بإنكار الآخر وتجاهله أو محاولة انتهاك شخصيته باغتيالها فكريا أو تهميشها اجتماعيا أو تدميرها جسديا. وهو في إطاره السلوكي طوعي يرفضه القانون والمجتمع، وقد ضُيق على مساحته الخناق درءا لاستشراء العدوانية واتساع دائرة العدوانيين. ويكاد يلتقي فرويد في تناوله هذه الظاهرة مع ما ذهب إليه براون، فالثقافة المكتسبة بيئيا تؤثر على المكتسب البيولوجي، فالمحيط أساس قوي في توجيه الدائرة العصبية نحو العنف أو التأقلم البشري مع البيئة المحيطة في التشكل العاطفي والفكري.
إن العنف الذي نشهد في العالم، حالة تعود بنا إلى مربع التخلف المجتمعي، وكنا قد تجاوزناه أو هكذا اعتقدنا، وليقنعني أحد بأن كثيرا مما شاهدنا في الآونة الأخيرة يختلف عن ذاك الذي كان في أيام العرب في جاهليتهم، إنه هو ذاته لكن دون نبل للأسف، وبدون فروسية الفرسان، حالة تقوم على الغدر والتفاني والعدمية وعدم احترام للمرجعيات الدستورية والقانونية والمجتمعية.
وأتساءل: هل لسيادة القانون اعتبار في نفوسنا؟ وهل الأمن المجتمعي مما يحسب حسابه عنده؟ هل بتنا أنانيين إلى درجة أننا لا نحترم ثوابتنا التي عشنا وتربينا عليها ؟ وهل غاب (الكبار) الذين يلجمون الغضب، ويكبحون جماح التهور؟.. لا اتساءل متشككا، ولكنه سؤال الاستنهاض للكبار في بلدنا على كافة الصعد الرسمية والشعبية للتصدي لهذا العبث بالوطن، فالشر شرارة، والأمور تبدأ فردية وتنتهي جماعية. كيف غابت عن المواطن أن نعمة الأمن والأمان هو ما يميز بلادنا، وهل نسينا ما يحدث في الجوار والعالم؟ المفكر والباحث د سلطان المعاني
مدار الساعة ـ نشر في 2020/12/04 الساعة 14:22