عندما كان للباب هيبته
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/24 الساعة 15:10
مدار الساعة - يطور الإنسان علاقته مع الأشياء حوله وتتحول إلى رموز تتجاوز ما تشير إليه حرفياً لتصبح قصة أحياناً، قصتنا مع الأشياء أو قصة الأشياء في نظرنا، تماماً كقصتنا مع الباب.
ومن منا لا يملك قصة سعيدة كانت أم حزينة مع باب كان يمثل مدخلاً إلى عالم أو تجربة لا يملك سوانا مفاتيحها.
كلنا يعرف باباً أُغلق وأَغلق خلفه فصلاً من فصول حياتنا وآخر فُتح وفَتح معه آمالا وحياة جديدة، وأبواباً أخرى تنتظر اقترابنا وعبورنا. كم مرة سمعنا قصة مفتاح لباب أُجبر أهله على إقفاله ليذهبوا في رحلة ظنوها ستكون أياماً معدودة لتقضي على حياتهم منفيين ومهجرين يحافظون على أملهم بالعودة كما يحافظون على مفتاح بيتهم في أكثر الأماكن سرية. ومن منا لم يسمع فيروز وهي تصف حالنا عند وداع الأحباب معذبين بأيد محروقة ليشارك الباب الإنسان في أكثر صفاته حساسية ورقّة.. في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق في باب حزين
في باب مهجور أهلو منسيين
هالأرض كلها بيوت يا رب خليها مزيني ببواب
ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكر باب نحن نعرف الأبواب لا كمدخل للبيوت فقط ولكن كمدخل لحياتنا وكاستعارة تساعدنا على التعبير عن أنفسنا كما يقول باسكال ديبي: "كم لعبنا باستعارة الباب واستفدنا منها بهدف محاولة قول الأشياء". وقد استفاد باسكال ديبي بدوره باستعارة الباب في كتابه المثير "الباب: مقاربة إثنولوجية" ليقول لنا الكثير عن علاقة الإنسان بالأبواب ابتداء بالأساطير وعالم الأسرار المحيط بالأبواب، مروراً بمشاركة الباب في الطقوس والاحتفالات في الفلكلور الشعبي والثقافات المختلفة. أبواب العبور
تفصل الأبواب بين عالمين أحدهما يكون داخلياً يُحدد من خلاله كل ما وراءه باعتباره عالماً خارجاً عنه، قد يكون أكثر خطراً أو أقل قدسية، ولكن بالتأكيد لن ننتقل بين تلك العوالم دون عبور الباب. للأبواب تاريخ من طقوس العبور التي لا يدخل الشخص ويخرج منها نفسه تماماً كاستحالة عبور نهر مرتين كما في فلسفة هرقليطس. ارتبطت طقوس العبور من الأبواب بمناسبات كالزفاف في الحضارة اليونانية القديمة حيث كان يربط على باب غرفة الزفاف دمية ومنخلا ومدق جرن إشارة إلى القوى المرتبطة بالزواج وعمليات العبور التي يشير إليها باسكال ديبي: "العبور من الطفولة إلى الرشد، من وضع الفتاة إلى وضع المرأة والدخول في الجماعة المدنية". اختصت بعض طقوس العبور بالكنائس كتلقين البواب سر الكهنوت وهو طقس يخص الكاهن حامل مفاتيح الكنيسة بصفته بواباً وحارساً توكل إليه مهام فتح أبواب الكنيسة وإغلاقها. يبدأ الطقس من خلال ملامسة البواب المرشح مفتاحاً بيده اليمنى وهو راكع، مصغياً للكلمات الموجهة إليه: "تصرف دائماً وفي ذهنك أنك ستحاسب أمام الله على كل ما تغلق عليه هذه المفاتيح". وفي الصين اشتهرت طقوس عبور الأبواب في مراسم الزفاف وطقوس الطفولة. على سبيل المثال في فو تشيو، عاصمة فوجيان الصينية، يتم تعليق كيس صغير على باب غرفة الطفل بعد ثلاثة أيام من ولادته. يحتوي الكيس على لفافة من شعر كلب أو قطة لمنع كلاب وقطط الحي من إخافة الطفل، يضاف إليه فحم لجعل الطفل أكثر روحانية وذكاء، ونبتة معينة لجلب السعادة والثراء. ومن المتوقع أن يقوم الصينيون بعدة عمليات مرور عبر الباب لطلب شفاء الطفل المريض وإزالة المرض. أسرار العتبات
ولأن الباب موطن العبور بين مجالين أحدهما عام وآخر خاص فإن عتبة الباب تعد مكاناً متوتراً بين الفضاءين، مكاناً لا نستطيع اعتباره خارجياً ولا داخلياً في الوقت ذاته. دائماً ما كان للعتبة هيبتها في الثقافة العربية لارتباطها بحرمة المنزل العربي وكان الباب "محملا بالإيحاءات الأنثوية ذات المنحى النوعي" كما يشير باسكال ديبي، إذ تلعب دوراً تنبيهياً مشيرة إلى وقائع يحرم انتهاكها. وربما نتذكر هنا إشارة إبراهيم عليه السلام للعتبة قاصداً بها زوجة ابنه اسماعيل عليه السلام عندما أوصاه في الأولى أن يغير عتبة بيته أي أن يطلق زوجته، وفي الأخرى أن يثبت العتبة ويقصد أن يبقي زوجته بعد أن تثبت من حسن أخلاقها. وللعتبات حكايا وأسرار عرفتها الثقافة العربية واختلطت بقصص الجن والأساطير فقد عرفت المغرب على سبيل المثال تقاليد حملت العتبات والأبواب مكانة مقدسة لاعتقادهم بامتلاكها قدرات مفيدة تحمي سكان المنزل وترد عنهم الشر. والعتبة أيضاً موطن استقطاب الجن الذي يريد الضرر بأهل البيت ولذلك كان على الزوجة الجديدة اتباع تقنيات معينة لعبور العتبة، كما اشتهر في فاس، حيث كانت بعض العائلات في العام 1900 تستخدم حانوتيا لحمل الخطيبة على كرسي لخداع جني البيت باعتقاده بأن الداخلة ميتة. هل ما زال للباب هيبة؟
تؤكد القصص والطقوس الملازمة للأبواب ارتباطه بسحرية العالم وبزمن لم يكن فيه الانفصال بين الخارجي والداخلي بهذا الحجم الذي نراه اليوم. ويبدو العالم الحديث غير مبال للأبواب ورمزيتها لدى الإنسان بعد أن جعل معظمها متشابهة وبمقاييس ثابتة، وسلبتنا الأبواب الكهربائية الشفافة حقنا في فتح أبواب عبورنا بأيدينا. لا تقوم الحداثة فقط بنزع السحر عن العالم ولكنها تفقدنا خصوصية علاقتنا مع الأشياء عندما تحولها إلى أدوات نفعية أو آلات جامدة. يرتبط فقدان الإنسان لتجربته الحية مع الأبواب كما يقول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو بـ"أن الأشياء، لخضوعها لمقتضيات نفعية محضة، تستبعد بشكلها أن نفعل بها أي شيء سوى استخدامها". يتحول الباب إلى أداة فيفقد هيبته! وربما لم يعد ينظر الكثيرون للباب كما يراه باسكال ديبي ويصفه بأنه "هو الذي يزيل رسوخنا، يحررنا من خلف ظهر العالم كي نعبر عتبته، كي نطأ جذر أساسنا. وهو أيضاً من يسربلنا بحمايته السامية ويغسل عنا نوايانا السيئة عندما نعود إلى النقطة النهائية". ولكن رغم اختلاف تعاملنا مع الأبواب إلا أنها كانت ولا تزال مدخلاً للثقافة والحضارات ولذلك نجد في القرآن الكريم وصية دخول البيوت من أبوابها وهو يؤسس بهذه الوصية لثقافة جديدة تنفي عن الباب اعتقادات خرافية كانت لدى العرب في الجاهلية.
لتراثنا قدرة استيعابية لمغامراتنا مع الباب بشكل يعيد سحر علاقتنا بالأبواب والمفاجآت القابعة خلفها عندما يحثنا على ترديد دعاء الخروج والدخول إلى المنزل: "اللهم إنا نسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا". عربي 21
كلنا يعرف باباً أُغلق وأَغلق خلفه فصلاً من فصول حياتنا وآخر فُتح وفَتح معه آمالا وحياة جديدة، وأبواباً أخرى تنتظر اقترابنا وعبورنا. كم مرة سمعنا قصة مفتاح لباب أُجبر أهله على إقفاله ليذهبوا في رحلة ظنوها ستكون أياماً معدودة لتقضي على حياتهم منفيين ومهجرين يحافظون على أملهم بالعودة كما يحافظون على مفتاح بيتهم في أكثر الأماكن سرية. ومن منا لم يسمع فيروز وهي تصف حالنا عند وداع الأحباب معذبين بأيد محروقة ليشارك الباب الإنسان في أكثر صفاته حساسية ورقّة.. في باب غرقان بريحة الياسمين
في باب مشتاق في باب حزين
في باب مهجور أهلو منسيين
هالأرض كلها بيوت يا رب خليها مزيني ببواب
ولا يحزن ولا بيت ولا يتسكر باب نحن نعرف الأبواب لا كمدخل للبيوت فقط ولكن كمدخل لحياتنا وكاستعارة تساعدنا على التعبير عن أنفسنا كما يقول باسكال ديبي: "كم لعبنا باستعارة الباب واستفدنا منها بهدف محاولة قول الأشياء". وقد استفاد باسكال ديبي بدوره باستعارة الباب في كتابه المثير "الباب: مقاربة إثنولوجية" ليقول لنا الكثير عن علاقة الإنسان بالأبواب ابتداء بالأساطير وعالم الأسرار المحيط بالأبواب، مروراً بمشاركة الباب في الطقوس والاحتفالات في الفلكلور الشعبي والثقافات المختلفة. أبواب العبور
تفصل الأبواب بين عالمين أحدهما يكون داخلياً يُحدد من خلاله كل ما وراءه باعتباره عالماً خارجاً عنه، قد يكون أكثر خطراً أو أقل قدسية، ولكن بالتأكيد لن ننتقل بين تلك العوالم دون عبور الباب. للأبواب تاريخ من طقوس العبور التي لا يدخل الشخص ويخرج منها نفسه تماماً كاستحالة عبور نهر مرتين كما في فلسفة هرقليطس. ارتبطت طقوس العبور من الأبواب بمناسبات كالزفاف في الحضارة اليونانية القديمة حيث كان يربط على باب غرفة الزفاف دمية ومنخلا ومدق جرن إشارة إلى القوى المرتبطة بالزواج وعمليات العبور التي يشير إليها باسكال ديبي: "العبور من الطفولة إلى الرشد، من وضع الفتاة إلى وضع المرأة والدخول في الجماعة المدنية". اختصت بعض طقوس العبور بالكنائس كتلقين البواب سر الكهنوت وهو طقس يخص الكاهن حامل مفاتيح الكنيسة بصفته بواباً وحارساً توكل إليه مهام فتح أبواب الكنيسة وإغلاقها. يبدأ الطقس من خلال ملامسة البواب المرشح مفتاحاً بيده اليمنى وهو راكع، مصغياً للكلمات الموجهة إليه: "تصرف دائماً وفي ذهنك أنك ستحاسب أمام الله على كل ما تغلق عليه هذه المفاتيح". وفي الصين اشتهرت طقوس عبور الأبواب في مراسم الزفاف وطقوس الطفولة. على سبيل المثال في فو تشيو، عاصمة فوجيان الصينية، يتم تعليق كيس صغير على باب غرفة الطفل بعد ثلاثة أيام من ولادته. يحتوي الكيس على لفافة من شعر كلب أو قطة لمنع كلاب وقطط الحي من إخافة الطفل، يضاف إليه فحم لجعل الطفل أكثر روحانية وذكاء، ونبتة معينة لجلب السعادة والثراء. ومن المتوقع أن يقوم الصينيون بعدة عمليات مرور عبر الباب لطلب شفاء الطفل المريض وإزالة المرض. أسرار العتبات
ولأن الباب موطن العبور بين مجالين أحدهما عام وآخر خاص فإن عتبة الباب تعد مكاناً متوتراً بين الفضاءين، مكاناً لا نستطيع اعتباره خارجياً ولا داخلياً في الوقت ذاته. دائماً ما كان للعتبة هيبتها في الثقافة العربية لارتباطها بحرمة المنزل العربي وكان الباب "محملا بالإيحاءات الأنثوية ذات المنحى النوعي" كما يشير باسكال ديبي، إذ تلعب دوراً تنبيهياً مشيرة إلى وقائع يحرم انتهاكها. وربما نتذكر هنا إشارة إبراهيم عليه السلام للعتبة قاصداً بها زوجة ابنه اسماعيل عليه السلام عندما أوصاه في الأولى أن يغير عتبة بيته أي أن يطلق زوجته، وفي الأخرى أن يثبت العتبة ويقصد أن يبقي زوجته بعد أن تثبت من حسن أخلاقها. وللعتبات حكايا وأسرار عرفتها الثقافة العربية واختلطت بقصص الجن والأساطير فقد عرفت المغرب على سبيل المثال تقاليد حملت العتبات والأبواب مكانة مقدسة لاعتقادهم بامتلاكها قدرات مفيدة تحمي سكان المنزل وترد عنهم الشر. والعتبة أيضاً موطن استقطاب الجن الذي يريد الضرر بأهل البيت ولذلك كان على الزوجة الجديدة اتباع تقنيات معينة لعبور العتبة، كما اشتهر في فاس، حيث كانت بعض العائلات في العام 1900 تستخدم حانوتيا لحمل الخطيبة على كرسي لخداع جني البيت باعتقاده بأن الداخلة ميتة. هل ما زال للباب هيبة؟
تؤكد القصص والطقوس الملازمة للأبواب ارتباطه بسحرية العالم وبزمن لم يكن فيه الانفصال بين الخارجي والداخلي بهذا الحجم الذي نراه اليوم. ويبدو العالم الحديث غير مبال للأبواب ورمزيتها لدى الإنسان بعد أن جعل معظمها متشابهة وبمقاييس ثابتة، وسلبتنا الأبواب الكهربائية الشفافة حقنا في فتح أبواب عبورنا بأيدينا. لا تقوم الحداثة فقط بنزع السحر عن العالم ولكنها تفقدنا خصوصية علاقتنا مع الأشياء عندما تحولها إلى أدوات نفعية أو آلات جامدة. يرتبط فقدان الإنسان لتجربته الحية مع الأبواب كما يقول الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو بـ"أن الأشياء، لخضوعها لمقتضيات نفعية محضة، تستبعد بشكلها أن نفعل بها أي شيء سوى استخدامها". يتحول الباب إلى أداة فيفقد هيبته! وربما لم يعد ينظر الكثيرون للباب كما يراه باسكال ديبي ويصفه بأنه "هو الذي يزيل رسوخنا، يحررنا من خلف ظهر العالم كي نعبر عتبته، كي نطأ جذر أساسنا. وهو أيضاً من يسربلنا بحمايته السامية ويغسل عنا نوايانا السيئة عندما نعود إلى النقطة النهائية". ولكن رغم اختلاف تعاملنا مع الأبواب إلا أنها كانت ولا تزال مدخلاً للثقافة والحضارات ولذلك نجد في القرآن الكريم وصية دخول البيوت من أبوابها وهو يؤسس بهذه الوصية لثقافة جديدة تنفي عن الباب اعتقادات خرافية كانت لدى العرب في الجاهلية.
لتراثنا قدرة استيعابية لمغامراتنا مع الباب بشكل يعيد سحر علاقتنا بالأبواب والمفاجآت القابعة خلفها عندما يحثنا على ترديد دعاء الخروج والدخول إلى المنزل: "اللهم إنا نسألك خير المولج وخير المخرج، بسم الله ولجنا وبسم الله خرجنا، وعلى الله ربنا توكلنا". عربي 21
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/24 الساعة 15:10