طبقية حتى في الموت
في العقلية الحاكمة منذ زمن العصور القديمة كانت هناك قرارات خفية لترك الكثير من البشر لمصير الموت عن طريق الحروب أو ترك الأمراض المعدية الخطيرة، وقد تبدت هذه الرؤية في شروحات «الألياذة» وكيف يعبر عنها «هيرودتس» الشاعر الأعمى في وصف ملحمة طروادة، حيث تآمر الحكام عبر عشر سنوات مريرة للتقليل من أعداد البشر الذين لا تكفيهم الموارد والأغذية، وكل ذلك كان يسجل لصالح الأثرياء والإقطاعيين والقادة الحديديين، ومن طروادة الى الحرب العالمية الثانية تكشفت الخطط الدولية الكبرى لتحقيق الغاية للتخلص من الحمولة الزائدة للبشر، ليُقتل ستون مليون إنسان كي تظهر أوروبا التي نعرفها اليوم
في بلاد العرب، لم يكن هناك حاجة للكثير من المؤامرات، فغالبية البشر في الأمصار العربية كانت قبائل رُحل، ليس لهم حكومات ولا وزارات مالية، فمن كان الأقوى ينعم بالعمر الطويل، ومع ذلك كانوا يموتون بأمراض لا يعرفونها أصلاً، ولقد أدركنا بعض تسمياتها من شيوخنا الذين رحلوا عن الدنيا، فمنها «الدميّة» وهي الجلطة، و«الجعاف» وهو البطان، و«الزراق» وهو العمى، وغيرها من الأمراض التي لا يعرفون طريقا لأي مستشفى، فيما تنعم المدن العريقة كبغداد ودمشق والقاهرة وبيروت بوجود أطباء يعالجون الناس، ومع هذا فإن الجوائح والأوبئة حصدت الكثير من الأرواح
هذه الأيام نرى أن الناس باتوا مقسّمين الى طبقات حسب الأهم والأقرب، وتجد في ذات العائلة من يجد الطريق إلى العلاج والاهتمام، وقريبه لا يجد أي اهتمام في ظل تعاظم خطر هذا الوباء القاتل، وهذا ليس عيباً في الطواقم الطبية التي تخاطر بحياتها من أجل إنقاذ المصابين، بل إن العقلية باتت تميل إلى الشخصنة أو الاستسلام للموت، وكل هذا الصراخ الذي نسمعه عبر مقاطع الفيديو وتصريحات المسؤولين الطبيين باتت تنبئ بأننا أمام مرحلة قادمة لا يمكن لغالبية المواطنين مراجعة المستشفيات أو أخذ العلاج الشافي
من هنا نعود بالذاكرة المالية للدولة منذ سنوات خلت، أين كانت تنفق الأموال العامة، طبعا باستثناء العطاءات لبعض الأشخاص، في ظل اهتراء البنية التحتية لشوارع العاصمة عمان والمدن الرئيسة والتوزيع غير العادل للتنمية الصحية والمعيشية بين المحافظات وبين الأحياء في ذات المدينة، حتى عمان نفسها لا يمكن مقارنة شرقها مع غربها أو جنوبها مع شمالها، وهذا ما خلق طبقية مشوهة
اليوم نرى أن على الحكومة أن تتعامل بجدية أكثر وشفافية أكثر ووعي أكبر، وأن ترفد المراكز الصحية في كل مناطق المملكة بالكوادر المدربة جيداً ومنها الأطباء الاختصاصيون وتوفير العلاج الأولي للناس الذين لا يجدون ثمن فاتورة الكشف الطبي، بل إن هناك العديد من المواطنين في القرى تحديدا يموتون بأعداد تبعث على الأسى، ومن المؤكد أنهم مصابون بالفيروس، ولكن العقلية لا تقبل بالاعتراف أنهم مصابون وغير واثقين من فائدة العلاج تحت أجهزة التنفس
على المسؤولين أن يشيعوا روح التفاؤل، وأن لا يمايزوا بين مريض وآخر، فيكفي المصابون الذين اضطرهم نقص الأسرّة للجوء للمستشفيات الخاصة لعلاج أنفسهم، فدفعوا عشرات الآلاف من الدنانير، ومنهم من توفاه الله رغم ذلك، فهذا هو الموت لا طبقية فيه لنجمل واقعنا المتقاعس البائس الذي يترفه به «المدير» ويموت فيه الفقير مديوناً مريضاً.الرأي