لم ينصفهم التاريخ.. عسكر زواوة مظلمون حتى في الذاكرة

مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/17 الساعة 10:15
مدار الساعة - يرتبط اسم عسكر الزواوة في المخيلة الشعبية التونسية بالمرتبة الدونية والمحتقرة وبالفئة المهمشة اجتماعيًا واقتصاديًا وتجلى ذلك خاصة في المثل الذي يضربه السكان عند حديثهم عن الشقاء وسوء الطالع، فيقول أحدهم وهو يندب حظه: "حدث لي كما حدث لعسكر زواوة.. متقدم في الحرب متأخر في الراتب"، وهو توصيف يحمل بين طياته مفارقة كبيرة، فرغم الزج بهم في فوهة المدفع وفي الصفوف الأولى للمعارك، فإن هذه الفئة تُعاني من ضعف الرواتب وتأخرها في كثير من الأحيان.
عسكر زواوة لم يرتبط بالتوصيف الدوني فقط، فكثير من الناس لا يفرقون بين زواوة التشكيل العسكري الذي ظهر مع قدوم العثمانيين إلى شمال إفريقيا وتم حله في تونس بعد انتصاب "الحماية" وتحديدًا في 1883 وزواوة (الزواف) الذين ارتبط اسمهم بالعمالة والارتزاق للفرنسيين ممن لُطخت أياديهم بدماء إخوانهم المجاهدين والمقاومين.
أصولهم
في كتاب تاريخ لأحمد بن رمضان، فإن أصل زواوة يعود إلى قبائل أمازيغية عاشت في وسط المغرب العربي وعرفت سواحلها عدة استعمار مثل الفينيقيين الذين بنوا عدة مراكز تجارية مثل بجاية ودليس وكان لهم علاقات تجارية مع السكان الأمازيغ. وبعدها جاء الرومان مع سقوط قرطاج، وواجهوا مقاومة شديدة من الزواوة الذين لم يتمكنوا من اختراقها، واكتفوا باحتلال السهول والمدن الساحلية المجاورة، وعقب دخول الفاتحين المسلمين، تبنى سكان الزواوة الدين الجديد كغيرهم من البربر، ثم ظهر في شمال إفريقيا عدة ممالك بربرية إسلامية حاولت السيطرة على منطقة الزواوة واستعمارها. أقام الأخير تحالفات مع القبائل التي كانوا مرتبطين بها مثل Snhajha وkoutama، وشهدت الزواوة حقبة من الازدهار والتقدم في جميع المجالات، لا سيما مجال العلم والمعرفة، ومدينة بجاية كانت تمثل في ذلك الوقت إحدى معاقل الحضارة العربية الإسلامية. العسكرية
يمثل زواوة مجموعة مضاهية لمشاة الجند، تتركب من برابرة أصلهم من منطقة القبائل بالجزائر، ونجد أثر هذا الجند في البلاد التونسية منذ دخول أتراك الجزائر إليها سنة 1569/1570، حيث اعتمد كل من رمضان وحيدر باشا على عناصر زواوة إلى جانب المقاتلين الأتراك حتى انتصار سنان باشا، وبقيت وحدات زواوة ضمن الجيش القار للإيالة حتى القرن الـ19. كانت هذه القوات منظمة على منوال التشكيلة الانكشارية أي أن لها ديوانًا، وعناصرها أقل احترافًا وتتقاضى جراية أقل قيمة من جراية الأتراك، ومن الأشياء التي تتميز بها مشاة زواوة كثرة عددها وذلك منذ القرن السابع عشر فقد قدّرها صلفاقو (Salvago) في العشرينيات من هذا القرن بـ12000 نفرًا أي نحو ضعفي الجيش الانكشاري، وفي 1802 وصلت إلى 14000 نفر. كما كانت لزواوة وحدات من الخيالة على غرار خيالة الترك ولها أيضًا ثكنات خاصة ومحلة تخرج قبل محلة الترك، ويشارك في حراسة القلاع والحصون ورغم الانتقادات الموجهة لهذا الجيش بشأن قلة نجاعته مقارنة بالجند الانكشاري، فإنّ الواقع يتمثل في تعزيز زواوة في كل فترات الأزمات السياسية والعسكرية التي عرفتها البلاد وخاصة عندما فقد البايات في مناسبات عدة ثقتهم في إخلاص الوحدات الانكشارية لهم. نفهم من هنا، أن زواوة هو جيش غير نظامي ونوع آخر من تشكيلات الجيش التونسي غير أنه يختلف عن الوحدات العسكرية النظامية التي تعمل تحت السلاح وتقيم في ثكنات بشكل دائم، فأفراد هذا النوع يعيشون وسط الناس وفي المدن والقرى ويقوم البعض منهم بالحراسة وفق نظام خاص بهم بأمر من الدولة، فهم في حكم الجنود المسرحين إلا أنهم يختلفون عن هؤلاء أيضًا، لأنهم تحت الطلب يشاركون في المحلات السنوية والاستثنائية (الجباية)، وأبناء هذا الجيش غير النظامي جنود بالوراثة عند بلوغ سن السابعة عشر، ولا يدخلون نظام القرعة مثل غيرهم من سكان المدن والقرى ذوي الأصل التونسي، وتشمل عناصر هذا الجيش غير النظامي فيما يسمى حينذاك: عسكر الحنفية وعسكر زواوة وأوجاق المخازنية. صفاتهم
بحسب المؤرخ التونسي عبد الواحد المكني، فإن عساكر زواوة الذين حلّوا بالبلاد إبان حكم الأتراك أواخر القرن الـ16 قدموا إلى تونس "عزّابًا" ويعرف عنهم بقائهم ذمة الجندية "مغندفين" (على استعداد) وقضائهم لأغلب حياتهم في جبهات الحرب وحياة الثكنة الوعرة والمملة، فيما وصفهم أبي الضياف في كتابه الاتحاف بأنهم قوم ذو شدة يمتازون بقلة المرونة. يمتاز عسكر زواوة أيضًا بشجاعتهم وإقدامهم وصبرهم وجلدهم رغم قلة عتادهم وتسليحهم، لكنهم أيضًا معروفون بشدة كرههم للأتراك رغم أن الدراسات التاريخية لم تقدم ما يُفيد إذا كان بسبب التنافس في مجال العسكرية أو له دوافع أخرى عقدية أو ناتجة عن دخول العثمانيين للجزائر وتونس، لكن المؤكد تاريخيًا أن نفر من عسكر زواوة شارك في حرب القرن تحت لواء الخلافة العثمانية. من جهة أخرى ما يُميز عساكر الزواوة عن باقي التشكيلات العسكرية، هو الطاعة، فإلى جانب عدم انشغالها بالسياسة على عكس الانكشاريين، يُعرف عن زواوة ولاءهم التام لسلطة البايات الذي وصل إلى حد مشاركتهم في الحرب التونسية الجزائرية التي قامت سنة 1807، إلى جانب قوات حمودة باشا، ضد قوات بلدهم.
زواوة.. ارتزاق؟
في تصريح لـ"نون بوست" أكد المؤرخ التونسي محمد ضيف الله أن عسكر زواوة سبق وجوده الاستعمار الفرنسي بكثير ويرجع وجودهم إلى وصول العثمانيين إلى الجزائر وتونس، مضيفًا "هناك فكرة شائعة تقول إنهم من بربر الجزائر، وهذا أمر نسبي حيث نجد من بينهم من أتوا من مناطق أخرى حتى من طرابلس". المؤرخ التونسي أوضح أيضًا أنه "بعد استعمار الجزائر كونت فرنسا كتيبة من المشاة باسم (LES ZOUAVES) وهذا لا يعني أنهم هم أنفسهم عسكر زواوة السابق بتونس، وهم يشبهون القومية والصبايحية والمخازنية من حيث إنهم قوة حاملة للسلاح ذات أصول محلية".
أما فيما يخص ارتباط عسكر زواوة بالارتزاق، فيقول ضيف الله إن هذا المصطلح غير مستعمل ولا هو معروف آنذاك، فلا نطلق مصطلحاتنا الحاليّة أو مصطلحات مستعملة في مجالات أخرى على المجال التونسي آنذاك، ففي ذلك الوقت زواوة أو الحنفية أو الأوجاق ينظر إليها على أساس أنها عساكر موالية للباي ولتونس، ويبدو أن زواوة كالانكشاريين وكراغلة أصبحوا تونسيين بمرور الوقت مع بعض الفوارق. وفي ذات الإطار، فإن المراجع التاريخية على قلتها بيّنت أن عسكر زواوة لم يكن لهم ارتباط بالمحتل الفرنسي، فالتشكيل تم حله وفق المؤرخ التونسي عبد الواحد المكني في 1883 أي بعد سنتين من دخول تونس تحت ما سمي بالحماية، كما يمكننا الاستناد إلى كتاب المؤرخ بنبلغيث الشيباني "الجيش التونسي" الذي نقل ما أورده ابن أبي الضياف من أن عساكر زواوة بعد دخول الفرنسيين رفضوا تسليم أسلحتهم وقالوا لأمير المحلة في ذلك الوقت علي باي: "لا يقع ذلك لو نموت كلنا". وبحسب كتاب الجيش التونسي في عهد محمد الصادق باي، فإن فرار جنود زواوة والحنفية من المحلة التونسية التي تواطأت مع الفرنسيين ساهم بشكل كبير في محاصرة الغزاة والمتعاونين معهم وعرقلة تقدمهم بطريق الحمامات، فاضطروا إلى التراجع للوراء، ما يعني أن المقاومة التي شدت عضدها بزواوة فرضت سيطرتها خلال أشهر الصيف من سنة 1881. جيش مظلوم
قد تختلف المراجع التاريخية في بعض التفاصيل المتعلقة بنشأة عسكر زواوة ومساهمته في بناء الدولة التونسية وحمايتها، إلاّ أنها تجتمع في حقيقة واحدة وهو أن العسكرية في تونس كانت منظومة غير متجانسة، فهي تجمع الانكشاريين (الترك) وزواوة من قبائل جزائرية والحنفية (نسبة للمذهب الحنفي) والكراغلة، عجز البايات المتعاقبين على حكم الأيالة على تنظيمها وجعلها نظامية وموحدة، ويعود ذلك بالأساس إلى اعتناء الحكام بالبذخ والإسراف المالي المفرط وإلى جنوح بعض المسؤولين في الإيالة خاصة في عهد الصادق باي كمصطفى بن إسماعيل إلى إفراغ الجيش وإنهاكه قصد تهيئة الوضع لدخول الاستعمار. اليهود أيضًا كان لهم دور في تراجع المؤسسة العسكرية، فبحسب المؤرخ بنبلغيث الشيباني، فإن هذه الطائفة تتحمل وزر إفساد الوضع المالي للجنود والضباط، خاصة أن كل ما يخصهم ماليًا كان يصدر عن طريق القابض اليهود الذي كانوا يهربون الأموال لصالحهم ويعملون لفائدة الوزراء الكبار ويتبادلون معهم المصالح ويزعون فيما بينهم الاحتكارات. وبحسب ذات المصدر، فإن الجيش عامة وزواوة خاصة عانوا من تأخر الرواتب لأشهر وغياب المؤونة واللباس والرعاية الصحية، فالتشكيلات العسكرية في القرن التاسع عشر لم تكن تعيش بمعزل عن معاناة عامة الشعب فقد أصابهم ما أصابه من جوع وأمراض وأوبئة كالطاعون في 1820 والكوليرا في 1850. زواوة لا يختلفون عن العوام، فالبايات التونسيون عملوا على تطويع هذه الفئات عبر أدوات الترهيب والترغيب واستغلال طاعتهم للقبيلة والشيوخ الذين يُمارسون سلطتهم الدينية، ففي 1867 تم الاستعانة بالشيخ العربي البشيري وهو أحد مشايخ زواوة للتأثير على العساكر وإرغامهم على طاعة الأوامر والرضا بالقليل وبما تجود عليه الإيالة من ريالات معدودات، والمفارقة أن الشيخ خصص له مرتب سنوي إضافة إلى 8000 ريال مخصصة من نقابة الأشراف. الزواف
على عكس زواوة تونس، فإن الحقيقة التاريخية التي لا تخفى على الباحثين الأكاديميين ولا يماري فيها أي عاقل، تؤكد أن الاستعمار الفرنسي لجأ إلى دعم قواته العسكرية، بتأسيس فرق محلية بسواعد المرتزقة في كل أرجاء الجزائر لتيسير عملية الاحتلال، وهو ما أثبتته المراجع التاريخية وكتب الفرنسيين الذين أرخوا لتلك الحقبة. الاعتماد على الزواف كان بقرار من الجنرال كلوزال الذي أمر بتكوين فرق لتشكيلات عسكرية من جميع الأصول في أوت 1830 وهو في الأصل مشروع للمارشال بورمون الذي لم يتمكن من إنهائه، وبعد الأوامر وموافقة الأغا تقدم متطوعون عرب وبساكرة وقبايلية كراغلة، حيث أورد gaston في كتابه الزواف (1893) أن فرنسا عملت على استقطابهم بالمال والهبات واستعملتهم كمشاة وخيالة وفي ذلك التاريخ تقدم قرابة 500 متطوع. الزواف، هم الشباب والكهول الذين تم تجنيدهم في صفوف الجيش الفرنسي سنوات قليلة بعد أن استطاعت القوات الفرنسية احتلال الجزائر سنة 1830 واستغلوا حالات هؤلاء الاجتماعية والأمية التي عمل الفرنسيون على نشرها في صفوف الشعب حتى خروجهم من الجزائر نهائيًا سنة 1962. الزواف ينحدرون من منطقة القبائل الكبرى وبالتحديد على امتداد المناطق الجغرافية الواقعة بين ولاية بجاية وتيزي وزو وينحدرون من قبائل زواوة التي أمدَّت العثمانيين بأمهر وأشجع الفرسان تاريخيًا، إضافة إلى العرب والكراغلة والأفارقة، وقد قام الماريشال الفرنسي بريمون بتأسيس فيالق عسكرية خاصة بهم في تشكيلات الجيش الفرنسي وقد حاربوا إلى جانب نابليون الثالث في حربه ضدَّ إيطاليا سنة 1860 وكان يطلق عليهم قوات الزواف البابويين. من جهة أخرى فإن تشكيل الزواف لا يقتصر على الجزائر، ففرنسا عملت على تكوين جيش موالٍ لها في تونس (الفوج الرابع) والمغرب أي في مستعمراتها بإفريقيا تستعملهم لحماية مصالحها وتوطيد حكمها وكذلك في حروبها الخارجية مثل الحرب الروسية في 1854-1856 والحرب الهندية الصينية والتحرر من الغزو النازي وفي الحروب العالمية الأولى والثانية. بالنهاية، يمكن القول إن عساكر زواوة ظلموا تاريخيًا من خلال تقديمهم على شاكلة الجندي الوضيع المذموم والمكروه من التونسيين على اعتبار أن اسمه اقترن بجمع وتحصيل الضرائب والجباية عنوة، وقُدم على أساس عصا الحكام وأداة جورهم دون استعراض دورهم في المقاومة، والحال أنهم كانوا ضحية فساد نخبة حاكمة، وهو ما تفادته المؤسسة العسكرية التونسية الحديثة التي أولتهم مكانة في أرشيفها الوطني. نون بوست - أنيس العرقوبي
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/17 الساعة 10:15