لماذا نصدّق الأخبار الكاذبة؟
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/08 الساعة 12:13
مدار الساعة - ازدهر في الآونة الأخيرة نوعٌ جديدٌ من الممارسة الإعلامية يُعرف باسم "تدقيق الحقائق" أو "fact checking"، يكاد يُطبّق على كلّ أنواع الأخبار تقريبا؛ العلميّة منها والاجتماعية والسياسية وغير ذلك. تنتهجها العديد من وسائل الإعلام بهدف التحقّق من الأخبار والمعلومات، وتصفها بأنّها أحد الحلول الواعدة للتعامل مع ما يُشار إليه باسم الأخبار المزيفة والمضلّلة كما تقول.
وهو اتّجاهٌ يتناسب مع اللحظة التي نعيش فيها بما فيها من فوضوية تلقي بظلال الشكّ على مصداقية أيّ معلومات قد تصدرها أيّة جهة، أو قد تأخذ مجراها في مواقع التواصل الاجتماعي دون أنْ تخرج من مصدرٍ محقّق وأكيد. لكنّ الجهود التي تُبذل للتمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ، قد تُحدث العديد من المشكلات التي تسعى إلى حلها، لا سيّما تلك التي تصبّ تركيزها على الخطابات السياسية المختلفة حولنا. فكيف نقرأ هذا التوجّه الجديد؟ لماذا نصدّق الأخبار الكاذبة؟
بدايةً، لا بدّ لنا من فهم الأسباب التي تجعل البعض يصدّق الأخبار الكاذبة والمضلّلة دونا عن غيرها في عصرٍ يوصف بعصر المعلوماتية الزائدة؛ إذ سهّل الحضور الدائم على الإنترنت بما فيه من مواقع ومنصّات إعلامية وتواصل اجتماعية، انتشار وتداول المعلومات والأخبار والآراء بين الناس على نطاق واسع وكبير، التي غالبا ما تكون أكثر من أن يتحمّلها العقل البشريّ ويستوعبها. وفي محاولة لفهم هذا التطوّر السريع ومواجهته، نمت الكثير من الأبحاث والدارسات في علم النفس تبحث في الآلية التي يعمل بها العقل البشريّ في تصديق الأخبار والمعلومات المضلّلة، ونشرها ومشاركتها مع الآخرين. وللمفاجأة، الكثير من تلك الدراسات توصّلت إلى أنّ المعلومة الزائفة تنتشر بشكل ملحوظ وعلى نطاق واسع وبوتيرة أسرع من المعلومات الحقيقية في جميع فئات المعلومات. وأنّ المواضيع السياسية هي الأكثر انتشارا مقارنة بغيرها من الموضوعات. يُمكن إرجاع الأمر إلى أنّنا نخضع عادة لمجموعة من الانحيازات المعرفية التي تؤثّر علينا بطريقةٍ لا واعية؛ إذ نفضّل المعلومة أو الخبر الذي يبدو مألوفا لنا ولا يتناقض مع أفكارنا وآرائنا المُسبقة. وفي علم النفس الاجتماعي، يُستخدم مصطلح "الواقعية الساذجة" للإشارة إلى ميلنا اللاواعي للاعتقاد بأنّنا نرى العالم من حولنا موضوعيا، وأنّ كلّ ما يختلف مع أفكارنا ومعتقداتنا، هو بالضرورة متحيّز أو لا عقلاني أو كاذب أو غير منطقيّ، وما إلى ذلك من المسميات والأوصاف. وبكلماتٍ أخرى، فإننا عندما نسمع أو نرى أو نقرأ ما يتفق مع معتقداتنا، فإننا نميل للإيمان به وللتحيز له ضد أي فكرة مضادة أو متناقضة. إمّا لرغبتنا المترسّخة في أنْ نشعر بأنّنا على حقّ، أو لعجزنا الفكري عن سدّ فراغاتنا المعرفية، ما ينتهي بنا إلى قبول ما نستسهل تصديقه دون بذل الكثير من الجهد في التفكير فيه وتحليله وتحدّي ما يخالف آراءنا القائمة. تضليل سياسيٌّ آخر
في السياسة، وكما هو معروفٌ دائما، يتلاشى الخطّ الفاصل بين الحقائق الأكيدة والمزاعم المزيّفة. التمييز بينها ليس سهلا كما يروّج للأمر. هناك دوما نزوعٌ للانحياز سواء على مستوى الأفكار أو العواطف أو الدوافع النفسيّة. ومن ثم، فإنّ محاولة إخضاع الخطاب السياسيّ لمعايير حسابيّة أو علميّة ومن ثمّ تصنيفه إلى "صحيح" أو "خاطئ"، قد لا تكون مجدية في كثير من الأحيان؛ ذلك أنّ فكرة "الحقيقة" و"الرأي" في عالم السياسة يخضعان للكثير من العوامل التي لا يمكن تبسيطها إلى فئتين فقط من الآراء: الصحيحة والخاطئة. من جهةٍ أخرى، تخضع هذه الآليات للتحيّز نفسه الذي تنتهجه الجهة الإعلامية القائمة عليه؛ أيْ إنّ المؤسسات الإخبارية أو الإعلامية تُخضع ما تسمّيه بـِ"الحقائق" لسياساتها وتوجّهاتها القديمة والأكثر انتشارا، إذ يتعيّن عليها دائما اختيار المعلومات والأخبار التي يجب التحقّق منها، وتلك التي يجب غضّ الطرف عنها وتجاهلها؛ أيْ إنّ العملية ليست محايدة من الأساس وإنما انتقائية، فهي تتطلّب على الدوام تحديد الأولويات والمنافع بما يخدم الرؤى والانتماءات السياسية للمنصّة الإعلامية. كثيرا ما تسعى تلك الجهات، بتطبيقها لثنائية الصحيح والخاطئ، إلى استغلال الأخبار والموضوعات متجاوزة السؤال الأخلاقيّ وراءها؛ إمّا من خلال إلقاء اللوم على جهة دون غيرها، أو إعطاء أهميّة أكبر من حجمها لموضوع على حساب آخر. علاوة على ذلك، فإن الادعاءات الكاذبة أو غير الصحيحة موجودة في كل مكان. فإذا ما شرعنا في طريق السعي إلى تصنيف بعض الأخبار والموضوعات بأنها غير صحيحة أو مضلّلة، والاعتماد الكبير على هذه التصنيفات، فقد يُفترض خطأً أنّ تلك التي لم يتم تصنيفها هي صحيحة بالضرورة، ما يزيد من العجز الفكري عند متلقّي الأخبار ويعزّز درجة انحيازاتهم المعرفية. فكرة الانحياز وغياب الحيادية هي جوهر السياسة، ومحاولة التمييز بين ما هو "صحيح" و"خاطئ" فيها ضربٌ من المستحيل. هذا لا يعني أنّه لا يمكننا التحقّق ممّا تضخّه الخطابات السياسية، أو أنّه ليس من المجدي أو حتى الإلزامي تصحيح أكاذيبها وتضليلها. الأمر فقط إشارة وتذكير بأنّ السياسية ليست بالمساحة التي تحتمل أنْ تكون فيها عملية تصحيح الأكاذيب وتمييز التضليلات عملية بسيطة ومباشرة، أو أنها حتى خالية من الانحيازات. السياسة كانت دائما وستظل ساحة للتفكير الأخلاقي الذي يتطلب أكثر من التدقيق الفوري للحقائق والمعلومات التي تنهال علينا يوميا. وعليه، فإنّ التحذير من سلبيّات هذه التوجّهات الآخذة بالتزايد اليوم لا يقلّل من ضرورة التحقّق ممّا نتلقّاه من أخبار ومعلومات، وإنما يعني أنّنا يجب أنْ نكون أكثر حذرا حيال الطريقة التي توظّف بها في الخطاب السياسي. والأهمّ من ذلك، ألّا نبالغ فيها كحلّ للتعامل مع الواقع المليء بالأكاذيب والادّعاءات المضلّلة. الأمر يتعلّق فقط بمزيد من التفكير وتشغيل العقل بدلا من الاعتماد المفرط على عدد من المنصّات أو المجوعات التي تقدّم نفسها وكأنّها تمتلك الحقيقة دونًا عن غيرها.
عربي 21
وهو اتّجاهٌ يتناسب مع اللحظة التي نعيش فيها بما فيها من فوضوية تلقي بظلال الشكّ على مصداقية أيّ معلومات قد تصدرها أيّة جهة، أو قد تأخذ مجراها في مواقع التواصل الاجتماعي دون أنْ تخرج من مصدرٍ محقّق وأكيد. لكنّ الجهود التي تُبذل للتمييز بين ما هو صحيح وما هو خطأ، قد تُحدث العديد من المشكلات التي تسعى إلى حلها، لا سيّما تلك التي تصبّ تركيزها على الخطابات السياسية المختلفة حولنا. فكيف نقرأ هذا التوجّه الجديد؟ لماذا نصدّق الأخبار الكاذبة؟
بدايةً، لا بدّ لنا من فهم الأسباب التي تجعل البعض يصدّق الأخبار الكاذبة والمضلّلة دونا عن غيرها في عصرٍ يوصف بعصر المعلوماتية الزائدة؛ إذ سهّل الحضور الدائم على الإنترنت بما فيه من مواقع ومنصّات إعلامية وتواصل اجتماعية، انتشار وتداول المعلومات والأخبار والآراء بين الناس على نطاق واسع وكبير، التي غالبا ما تكون أكثر من أن يتحمّلها العقل البشريّ ويستوعبها. وفي محاولة لفهم هذا التطوّر السريع ومواجهته، نمت الكثير من الأبحاث والدارسات في علم النفس تبحث في الآلية التي يعمل بها العقل البشريّ في تصديق الأخبار والمعلومات المضلّلة، ونشرها ومشاركتها مع الآخرين. وللمفاجأة، الكثير من تلك الدراسات توصّلت إلى أنّ المعلومة الزائفة تنتشر بشكل ملحوظ وعلى نطاق واسع وبوتيرة أسرع من المعلومات الحقيقية في جميع فئات المعلومات. وأنّ المواضيع السياسية هي الأكثر انتشارا مقارنة بغيرها من الموضوعات. يُمكن إرجاع الأمر إلى أنّنا نخضع عادة لمجموعة من الانحيازات المعرفية التي تؤثّر علينا بطريقةٍ لا واعية؛ إذ نفضّل المعلومة أو الخبر الذي يبدو مألوفا لنا ولا يتناقض مع أفكارنا وآرائنا المُسبقة. وفي علم النفس الاجتماعي، يُستخدم مصطلح "الواقعية الساذجة" للإشارة إلى ميلنا اللاواعي للاعتقاد بأنّنا نرى العالم من حولنا موضوعيا، وأنّ كلّ ما يختلف مع أفكارنا ومعتقداتنا، هو بالضرورة متحيّز أو لا عقلاني أو كاذب أو غير منطقيّ، وما إلى ذلك من المسميات والأوصاف. وبكلماتٍ أخرى، فإننا عندما نسمع أو نرى أو نقرأ ما يتفق مع معتقداتنا، فإننا نميل للإيمان به وللتحيز له ضد أي فكرة مضادة أو متناقضة. إمّا لرغبتنا المترسّخة في أنْ نشعر بأنّنا على حقّ، أو لعجزنا الفكري عن سدّ فراغاتنا المعرفية، ما ينتهي بنا إلى قبول ما نستسهل تصديقه دون بذل الكثير من الجهد في التفكير فيه وتحليله وتحدّي ما يخالف آراءنا القائمة. تضليل سياسيٌّ آخر
في السياسة، وكما هو معروفٌ دائما، يتلاشى الخطّ الفاصل بين الحقائق الأكيدة والمزاعم المزيّفة. التمييز بينها ليس سهلا كما يروّج للأمر. هناك دوما نزوعٌ للانحياز سواء على مستوى الأفكار أو العواطف أو الدوافع النفسيّة. ومن ثم، فإنّ محاولة إخضاع الخطاب السياسيّ لمعايير حسابيّة أو علميّة ومن ثمّ تصنيفه إلى "صحيح" أو "خاطئ"، قد لا تكون مجدية في كثير من الأحيان؛ ذلك أنّ فكرة "الحقيقة" و"الرأي" في عالم السياسة يخضعان للكثير من العوامل التي لا يمكن تبسيطها إلى فئتين فقط من الآراء: الصحيحة والخاطئة. من جهةٍ أخرى، تخضع هذه الآليات للتحيّز نفسه الذي تنتهجه الجهة الإعلامية القائمة عليه؛ أيْ إنّ المؤسسات الإخبارية أو الإعلامية تُخضع ما تسمّيه بـِ"الحقائق" لسياساتها وتوجّهاتها القديمة والأكثر انتشارا، إذ يتعيّن عليها دائما اختيار المعلومات والأخبار التي يجب التحقّق منها، وتلك التي يجب غضّ الطرف عنها وتجاهلها؛ أيْ إنّ العملية ليست محايدة من الأساس وإنما انتقائية، فهي تتطلّب على الدوام تحديد الأولويات والمنافع بما يخدم الرؤى والانتماءات السياسية للمنصّة الإعلامية. كثيرا ما تسعى تلك الجهات، بتطبيقها لثنائية الصحيح والخاطئ، إلى استغلال الأخبار والموضوعات متجاوزة السؤال الأخلاقيّ وراءها؛ إمّا من خلال إلقاء اللوم على جهة دون غيرها، أو إعطاء أهميّة أكبر من حجمها لموضوع على حساب آخر. علاوة على ذلك، فإن الادعاءات الكاذبة أو غير الصحيحة موجودة في كل مكان. فإذا ما شرعنا في طريق السعي إلى تصنيف بعض الأخبار والموضوعات بأنها غير صحيحة أو مضلّلة، والاعتماد الكبير على هذه التصنيفات، فقد يُفترض خطأً أنّ تلك التي لم يتم تصنيفها هي صحيحة بالضرورة، ما يزيد من العجز الفكري عند متلقّي الأخبار ويعزّز درجة انحيازاتهم المعرفية. فكرة الانحياز وغياب الحيادية هي جوهر السياسة، ومحاولة التمييز بين ما هو "صحيح" و"خاطئ" فيها ضربٌ من المستحيل. هذا لا يعني أنّه لا يمكننا التحقّق ممّا تضخّه الخطابات السياسية، أو أنّه ليس من المجدي أو حتى الإلزامي تصحيح أكاذيبها وتضليلها. الأمر فقط إشارة وتذكير بأنّ السياسية ليست بالمساحة التي تحتمل أنْ تكون فيها عملية تصحيح الأكاذيب وتمييز التضليلات عملية بسيطة ومباشرة، أو أنها حتى خالية من الانحيازات. السياسة كانت دائما وستظل ساحة للتفكير الأخلاقي الذي يتطلب أكثر من التدقيق الفوري للحقائق والمعلومات التي تنهال علينا يوميا. وعليه، فإنّ التحذير من سلبيّات هذه التوجّهات الآخذة بالتزايد اليوم لا يقلّل من ضرورة التحقّق ممّا نتلقّاه من أخبار ومعلومات، وإنما يعني أنّنا يجب أنْ نكون أكثر حذرا حيال الطريقة التي توظّف بها في الخطاب السياسي. والأهمّ من ذلك، ألّا نبالغ فيها كحلّ للتعامل مع الواقع المليء بالأكاذيب والادّعاءات المضلّلة. الأمر يتعلّق فقط بمزيد من التفكير وتشغيل العقل بدلا من الاعتماد المفرط على عدد من المنصّات أو المجوعات التي تقدّم نفسها وكأنّها تمتلك الحقيقة دونًا عن غيرها.
عربي 21
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/08 الساعة 12:13