تمطر ذكريات

مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/07 الساعة 13:22
بقلم نسرين أبوالرب تمطر ذكريات، تمطر أفراحاً وآهاتٍ. أرسلت السماء في التشارين مطرها المخبوء في غيوم الصفحة الزرقاء فهرولت القطرات لتُقبّل الأرض وماعليها وتُلقي السلام بعد الغياب الطويل. أسرعتْ إلى نافذتها ومسحت الزجاج المُندى وباليد الأخرى مسحت شلالاتٍ من عينيها وابتسمتْ إنها تمطر في التشارين لتحيي ارواحنا التائهة في كهوف الحياة. وجه قهوتها الأسمر، صوت المطر التشريني الزيزفوني الهادئ، لسعة البرد في أطراف الجسد والنهار... رائحة السحلب في الحي على عربة "أبو أحمد" وأمي الطبق الرسمي لأول مطرة "العدس" وصوت قرقعة الصحون على المائدة.
فتاة غادرها حبيبها تسير تحت المطر وحيدة إلا من مظلتها.. وقطة شاردة على قارعة الطريق. إنهاتمطر ذكريات.هنا كانوا قبل الوباء. في تشرين الماضي كانت مع جدها الذي خطفته الكورونا واخوتها في الحاكورة يفرشون البُسط تحت أشجار الزيتون الوادعة وخليل الفتى الصبيح يتسلق الزيتونه الصامدة ويحمل الخير والزيت بين يديه. إنها تمطر ذكريات، استذكرت والدها الجميل عندما صحبها إلى معصرة الزيتون في عجلون وأول مذاق لبواكير الزيت البلدي وتلك اللذعة والحرقة في حلقها التي تعلن أن الزيت ذوجودة عالية. تمطر ذكريات... أمها... المفتول... الملفوف.. المسخن.. طابون الأرض.. مناقيش الزعتر يوم الجمعة ولمة العائلة. في نهاية الحي.. تجلس "عروبة" هزيلة. مُصابة بالهزيمة تمطر ذكريات وتمطر بشراً تساقطوا من عينيها بنفاقهم وانتهازيتهم وسطحيتهم. تدافع الصبية إلى الحي يركضون تحت المطر لم توقفهم الكورونا المجنونة عن حُب الحياة وصخبها. جندي على الحدود وبندقيته متأهبٌ كالليث الهصور لأي معتدٍ، يقف بصلابة سروالغاب تحت المطر فالوطن أغلى من الروح.. تمطر من عينيه ذكريات الكتيبة، رفاق السلاح، المخيمات العسكرية. إنها تمطر ذكريات وصوت فيروز من مذياع قهوة الحي صباحاً.. "رجعت الشتوية" وأبو نبيل معلم القهوة مَعْلم رئيسي للمكان وذكرياته وذاكرته رفوف مكتبة تاريخية. يستذكر كيف كانت تغص قهوته وتضج برجال وشباب الحي في اول التشارين ورائحة القهوة والنارجيلة وبطنها الزجاجي الملون والشاي المُعتق ورائحة النعنع تفوح منه وينادي على الصبي" هون قهوة ياولد" "اثنين شاي ياحسن"... الحكواتي ليلة الخميس في قهوته وأهل الحي بين تصفيق وهتافات ليكمل الحكواتي سرده الشيق والبطل الذي غاب تحت المطر.... تمطر ذكريات.. تلاشى الرفاق والصخب وحسن والحكواتي فالحظر سيّد المشهد... تلاشوا جميعهم... غيبتهم الحياة... مازالت تمطر... وتمطر.... والذكريات أعمدة دخان صاعدة إلى السماء
مدار الساعة ـ نشر في 2020/11/07 الساعة 13:22