كتب حول أزمة الأسرة
مدار الساعة ـ نشر في 2020/10/25 الساعة 16:11
مدار الساعة - أزمة الأسرة والعائلة في المجتمعات الغربية ليست عابرة في حياة الإنسان المعاصر، والحديث عنها ليس نوعا من التشفي أو تمجيدا للذات، ولكنها تمتد إلى العالم، فالنموذج الغربي مازال يتمتع ببريق آخاذ، وقدرة على التأسي وأن يكون نهجا للآخرين، فهي لا تتوقف عند حيز الجغرافيا، وإنما تتسع لتشمل الحدود الثقافية للغرب التي تمتد إلى خريطة العالم، والأزمة ذات أبعاد فلسفية ترتبط بالمشروع الحداثي الغربي وما أنتجه من قيم وسلوكيات وأفكار يطرحها النموذج، كذلك إمكاناته التأثيرية، وقدرته على تسويق رؤاه وتحويلها إلى قوانين وتشريعات.
المؤشرات تذهب أن الأسرة في الغرب تعاني من أزمات متشعبة وعميقة، بدءا من تناقض أعداد الأسر، والعزوف عن الزواج وبناء العائلة، وزيادة المواليد خارج إطار الزواج، وتفشي حالات الطلاق، وزيادة العنف الأسري، وانتشار ظاهرة تربية الحيونات الأليفة كبديل عن تكوين الأسرة وإنجاب الأطفال.
معالم الأزمة
تؤكد الاحصاءات أن هناك (220) أسرة في الاتحاد الأوروبي، منها (155) أسرة ليس لها أولاد، كما أن أكثر من 47% من الأطفال المولودين جاءوا خارج إطار الزواج، وأن 60% من أطفال فرنسا غير شرعيين، وأن معدلات الزواج انخفضت بنسبة 50% خلال العقود الخمسة الماضية، في حين تضاعفت معدلات الطلاق بنسب كبيرة، فمثلا ارتفعت نسب الطلاق في البرتغال من 1% عام 1960 إلى 60% عام 2011م، وهي نسبة تقارب 50% من حالات الزواج ذاتها، كما أن هناك ملايين الأطفال يعيشون في أسر بالتبني، فمثلا (8%) من الأسر الفرنسية يعيش فيها أطفال بالتبني، ويعيش مئات الآلاف من الأزواج والزوجات مع أطفال ليسوا أبنائهم، أما تربية القطط والكلاب فتعدل عند الكثير تربية الأطفال، وتشتهر ألمانيا بتربية الكلاب، فيوجد أكثر من ثمانية مليون كلب تحظى بالرعاية في البيوت الألمانية، وهناك 12 مليون ألماني يمتلكون القطط، ويرعاهم أكثر من ثلاثين ألف طبيب بيطري، وهناك من يوصي بثروته للكلاب والقطط، وتوجد تشريعات ألمانية تسمح للكلاب والقطط أن تُدفن بجوار رفات أصحابها. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتتفاقم أزمة الأسرة، وهو ما تحدث عنه عالم الاجتماع الأمريكي “كارل زيمرمان” Carle C. Zimmerman في كتابه “الأسرة والحضارة” ” Family and Civilization ” فأكد على القيمة الاجتماعية للعفة، والآثار الصحية للزواج ، وتكاليف الزنا الاجتماعية والاقتصادية، والدمار الاجتماعي للطلاق، مشيرا أن الإنجاب هو الركيزة الرئيسية في بناء الأسرة، وأنه يخلق مقاومة لتفكك الأسرة. وترى ” ماري إيبرستات” Mary Eberstadt في كتابها “كيف فقد الغرب الله حقا “[1] How the West Really Lost God أن تقويض الأسرة في الغرب أدى إلى تقويض المسيحية ذاتها، فتدهور الأسرة والتدهور الديني يسيران جنبًا إلى جنب في العالم الغربي، فالتداعيات هائلة للانهيار المتبادل بين للأسرة والإيمان، وفي كتابها الآخر “أمريكا: الوطن وحده”[2] Home-Alone America ، فيحوي تحليلا عميقا لتأثيرات أزمات الأسرة على الطفولة، ومن ثم تطرح تساؤلات حول مستقبل المجتمع ذاته، فتشير أن معدلات الطلاق المرتفعة، وانصراف الأبوين إلى العمل، وممارساتهم غير الجيدة في التربية تساهم في مشاكل الطفولة، مثل: السمنة، والسلوكيات الجنسية الخطرة، والأمراض العقلية، وتشير أن الأطفال أكثر سعادة وأمانًا عندما يكونون تحت إشراف الأبوين معا، فتشير إحصاءات أن ترك الأطفال في دور الرعاية أثناء فترة عمل الأبوين نهارا، أدت إلى تنامي العصيان والعدوان لدى الأطفال، وانتشر ما أسمته بـ”وباء العض“، حيث تنامت الغرائز الحيوانية لدى الأطفال للدفاع عن أنفسهم أو لجوءا للاعتداء على الآخرين تنفسيا عن معاناتهم، كما أن انصراف المرأة عن المنزل جعلها تهمل مراقبة ما يأكله الأطفال، لذا انتشرت السمنة والتدخين والكحوليات بين الصغار. وهو ما أكده –أيضا- كتاب ” ما لم تخبرنا به أمهاتنا”[3] What Our Mothers Didn’t Tell Us لـ” دانيللي كرتيدن” Danielle Crittenden فتتحدث عن تأثير خروج المرأة للعمل على واقع الأسرة، وتؤكد أن الجيل الجديد من الأمهات تحت سن الأربعين أصبحن ضحايا للحركة النسوية التي شجعتهن على العزوف عن الزواج والأطفال والاستغراق في العمل خارج المنزل، وتشير أن حب تكوين الأسرة متغلغل في فطرة الأنثى، وغياب دور المرأة يخلق الأسرة المضطربة، فقد ضخمت الرأسماليةُ فضائلَ العمل إلى الحد الذي لم تعد فيه المرأة غير قادرة على فعل أي شيء بدون أجر حتى الأمومة. وتنتشر الكثير من الكتب الإرشادية والمراكز التي تمنح النصيحة والعون للمرأة للحصول على طفل دون الحاجة إلى رجل، وهو ما يعني تفشي ظاهرة “الأم العزباء” والأطفال مجهولي الأب، ونشير مثلا إلى كتاب “الذهاب منفردة: خياري أن أكون أما عزباء” Going Solo: My Choice to Become a Single Mother ” والتي تحكي قصتها بعدما شارف على السابعة والثلاثين من عمرها، واكتشفت حاجتها لطفل فلجأت إلى الحصول على “نطفة” من بنوك التخصيب مقابل مبلغ مالي، فجاء الطفل بدون أب معروف، أو كتاب ” اختيارك: اتخاذ قرار بإنجاب طفل ” Choosing You: Deciding to Have a Baby on My Own للكاتبه “الكسندرا سويث Alexandra Soiseth ، والتي قررت هي الأخرى وهي في الأربعين إحضار طفل إلى العالم بدون أب، وكيف لجأت إلى الانترنت للحصول على الحيونات المنوية اللازمة للتخصيب. الإنسان إنما يتأنسن ويتعالى على إنسيته بالأسرة وحفظ طبائع أعضائها الأصيلة وفي ذلك أيضًا معنى الإيمان بـ”الاختلاف الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن
هذا التوجه المتنامي في الغرب تستفيد من الشاذات، والنسويات اللاتي يتخذن موقفا معاديا من الأسرة والرجل، وقد أدي ذلك إلى موجات اعتراضات دولية وصلت إلى مجلس حقوق الإنسان، خاصة بعدما بدأ يأخذ مجاله ليصبح قانونا، مثلما هو الحال في فرنسا، حيث يحرم هذا القانونُ الطفلَ من الحق في أن يكون له نسب معروف، وفي ذلك هدم للأسرة، وتحصلت بعض الجمعيات الأوروبية على شهادات من الأطفال الذين حرموا من “حق الأبوة” أكدوا فيها أن الحرمان من الأب معاناة لا يمكن إصلاحها، وإحباط كبير، وانتهاك لحقوق الطفل. أزمة المشروع
الحقيقة أن أزمة الأسرة ذات بعد فلسفي، فمنذ تراجع فكرة أن الأسرة هي أصل جميع أشكال التنظيم الاجتماعي، وأصل التماسك الاجتماعي، أصبحت الأسرة تتعرض لقدر من التفكيك لدورها ولقفز على حقيقتها ووجودها، وربما تحول كثير من العلاقات في الغرب من كونها قائمة على التراحم إلى أن تصبح قائمة على التعاقد، أثر على الأسرة، التي لم تعد شأنا خاصا ينهض به الأبوان، من خلال مسئوليتهما الفطرية والأخلاقية، إلى كونها شأن تتدخل فيه الدولة بسلطتها وقانونها وإلزامها، وهو ما انعكس على سلطة الأب داخل الأسرة التي تعرضت لتقويض خاصة في مجال رعاية الأبناء والقيام بوظيفة التنشئة، إذ شنت الحركات النسوية هجوما عنيفا على سلطة الأب، مما أضعفها، وجعل في مُكنة الأبناء استدعاء السلطة لوقف دور الأب في حياتهم والنهوض بوظيفة تربيتهم، كما أن تركيز النسويات على المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومطالبة المرأة بإخراج الرجل الكامن في داخلها واقتحام مجالات العمل والحياة، والنظر إلى تربية الأبناء وكأنها “وظيفة بيولوجية متدنية” جعل المرأة لا تنظر إلى الأسرة كمجال فطري لحركتها تتلائم مع طبيعتها الفطرية، ولكنها باتت تنظر إلى الأنوثة والأمومة وتربية الأبناء كمعوقات لإمكانية نجاح المرأة في الحياة وتحقيق ذاتها، فاختل التوازن والاتزان داخل الأسرة، ولم تعد وظيفة الأسرة: الإحصان، والإنجاب، وتربية الأبناء، ولكن باتت تحصيل المتعة، وتقليل كلفتها، لذا لعبت النسوية دورا في تدمير الأسرة من خلال التركيز على قضايا المرأة، والنظر إلى المرأة كفئة منعزلة عن بقية المجتمع، وعن أدوارها الفطرية. الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمن” في كتابه “روح الحداثة” اقترب من أزمة الأسرة الغربية المتشبعة بروح الحداثة، فرأى أن النموذج الغربي جعل الأسرة محلًا للهناء لا محلًا للبقاء، بعدما فصلها عن الاستمداد من القيم الدينية، فأصبحت المادية لا الأخلاقية هي التي تستمد منها الأسرة مُثُلها وقيمها، وصار الاستهلاكية قيمة مركزية في الأسرة الجديدة، وتراجعت قيمة المودة والرحمة، فاختلت الوظيفة الأخلاقية بين الأفراد، وفقدت الأسرة قدرتها على التنشئة والإصلاح والتهذيب، ثم جاء التشريع ليقنن حالة الاضطراب في الأسرة، وكانت سلطة الأب هي أول ما تعرض للانتهاك والانتقاص، كذلك صارت الرغبات بديلا عن الواجبات، فغابت واجبات الزوجية والأمومة والبنوة، وغابت فكرة الخلود عن ذهنية الأسرة إلى فكرة تحصيل المنفعة واللذة، فتردى الإنسان: رجلا وإمرأة وطفلا، يقول عبد الرحمن:” والإنسان إنما “يتأنسن” ويتعالى على إنسيته بالأسرة وحفظ طبائع أعضائها الأصيلة وفي ذلك أيضًا معنى الإيمان بـ”الاختلاف”.
تؤكد الاحصاءات أن هناك (220) أسرة في الاتحاد الأوروبي، منها (155) أسرة ليس لها أولاد، كما أن أكثر من 47% من الأطفال المولودين جاءوا خارج إطار الزواج، وأن 60% من أطفال فرنسا غير شرعيين، وأن معدلات الزواج انخفضت بنسبة 50% خلال العقود الخمسة الماضية، في حين تضاعفت معدلات الطلاق بنسب كبيرة، فمثلا ارتفعت نسب الطلاق في البرتغال من 1% عام 1960 إلى 60% عام 2011م، وهي نسبة تقارب 50% من حالات الزواج ذاتها، كما أن هناك ملايين الأطفال يعيشون في أسر بالتبني، فمثلا (8%) من الأسر الفرنسية يعيش فيها أطفال بالتبني، ويعيش مئات الآلاف من الأزواج والزوجات مع أطفال ليسوا أبنائهم، أما تربية القطط والكلاب فتعدل عند الكثير تربية الأطفال، وتشتهر ألمانيا بتربية الكلاب، فيوجد أكثر من ثمانية مليون كلب تحظى بالرعاية في البيوت الألمانية، وهناك 12 مليون ألماني يمتلكون القطط، ويرعاهم أكثر من ثلاثين ألف طبيب بيطري، وهناك من يوصي بثروته للكلاب والقطط، وتوجد تشريعات ألمانية تسمح للكلاب والقطط أن تُدفن بجوار رفات أصحابها. منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وتتفاقم أزمة الأسرة، وهو ما تحدث عنه عالم الاجتماع الأمريكي “كارل زيمرمان” Carle C. Zimmerman في كتابه “الأسرة والحضارة” ” Family and Civilization ” فأكد على القيمة الاجتماعية للعفة، والآثار الصحية للزواج ، وتكاليف الزنا الاجتماعية والاقتصادية، والدمار الاجتماعي للطلاق، مشيرا أن الإنجاب هو الركيزة الرئيسية في بناء الأسرة، وأنه يخلق مقاومة لتفكك الأسرة. وترى ” ماري إيبرستات” Mary Eberstadt في كتابها “كيف فقد الغرب الله حقا “[1] How the West Really Lost God أن تقويض الأسرة في الغرب أدى إلى تقويض المسيحية ذاتها، فتدهور الأسرة والتدهور الديني يسيران جنبًا إلى جنب في العالم الغربي، فالتداعيات هائلة للانهيار المتبادل بين للأسرة والإيمان، وفي كتابها الآخر “أمريكا: الوطن وحده”[2] Home-Alone America ، فيحوي تحليلا عميقا لتأثيرات أزمات الأسرة على الطفولة، ومن ثم تطرح تساؤلات حول مستقبل المجتمع ذاته، فتشير أن معدلات الطلاق المرتفعة، وانصراف الأبوين إلى العمل، وممارساتهم غير الجيدة في التربية تساهم في مشاكل الطفولة، مثل: السمنة، والسلوكيات الجنسية الخطرة، والأمراض العقلية، وتشير أن الأطفال أكثر سعادة وأمانًا عندما يكونون تحت إشراف الأبوين معا، فتشير إحصاءات أن ترك الأطفال في دور الرعاية أثناء فترة عمل الأبوين نهارا، أدت إلى تنامي العصيان والعدوان لدى الأطفال، وانتشر ما أسمته بـ”وباء العض“، حيث تنامت الغرائز الحيوانية لدى الأطفال للدفاع عن أنفسهم أو لجوءا للاعتداء على الآخرين تنفسيا عن معاناتهم، كما أن انصراف المرأة عن المنزل جعلها تهمل مراقبة ما يأكله الأطفال، لذا انتشرت السمنة والتدخين والكحوليات بين الصغار. وهو ما أكده –أيضا- كتاب ” ما لم تخبرنا به أمهاتنا”[3] What Our Mothers Didn’t Tell Us لـ” دانيللي كرتيدن” Danielle Crittenden فتتحدث عن تأثير خروج المرأة للعمل على واقع الأسرة، وتؤكد أن الجيل الجديد من الأمهات تحت سن الأربعين أصبحن ضحايا للحركة النسوية التي شجعتهن على العزوف عن الزواج والأطفال والاستغراق في العمل خارج المنزل، وتشير أن حب تكوين الأسرة متغلغل في فطرة الأنثى، وغياب دور المرأة يخلق الأسرة المضطربة، فقد ضخمت الرأسماليةُ فضائلَ العمل إلى الحد الذي لم تعد فيه المرأة غير قادرة على فعل أي شيء بدون أجر حتى الأمومة. وتنتشر الكثير من الكتب الإرشادية والمراكز التي تمنح النصيحة والعون للمرأة للحصول على طفل دون الحاجة إلى رجل، وهو ما يعني تفشي ظاهرة “الأم العزباء” والأطفال مجهولي الأب، ونشير مثلا إلى كتاب “الذهاب منفردة: خياري أن أكون أما عزباء” Going Solo: My Choice to Become a Single Mother ” والتي تحكي قصتها بعدما شارف على السابعة والثلاثين من عمرها، واكتشفت حاجتها لطفل فلجأت إلى الحصول على “نطفة” من بنوك التخصيب مقابل مبلغ مالي، فجاء الطفل بدون أب معروف، أو كتاب ” اختيارك: اتخاذ قرار بإنجاب طفل ” Choosing You: Deciding to Have a Baby on My Own للكاتبه “الكسندرا سويث Alexandra Soiseth ، والتي قررت هي الأخرى وهي في الأربعين إحضار طفل إلى العالم بدون أب، وكيف لجأت إلى الانترنت للحصول على الحيونات المنوية اللازمة للتخصيب. الإنسان إنما يتأنسن ويتعالى على إنسيته بالأسرة وحفظ طبائع أعضائها الأصيلة وفي ذلك أيضًا معنى الإيمان بـ”الاختلاف الفيلسوف المغربي طه عبدالرحمن
هذا التوجه المتنامي في الغرب تستفيد من الشاذات، والنسويات اللاتي يتخذن موقفا معاديا من الأسرة والرجل، وقد أدي ذلك إلى موجات اعتراضات دولية وصلت إلى مجلس حقوق الإنسان، خاصة بعدما بدأ يأخذ مجاله ليصبح قانونا، مثلما هو الحال في فرنسا، حيث يحرم هذا القانونُ الطفلَ من الحق في أن يكون له نسب معروف، وفي ذلك هدم للأسرة، وتحصلت بعض الجمعيات الأوروبية على شهادات من الأطفال الذين حرموا من “حق الأبوة” أكدوا فيها أن الحرمان من الأب معاناة لا يمكن إصلاحها، وإحباط كبير، وانتهاك لحقوق الطفل. أزمة المشروع
الحقيقة أن أزمة الأسرة ذات بعد فلسفي، فمنذ تراجع فكرة أن الأسرة هي أصل جميع أشكال التنظيم الاجتماعي، وأصل التماسك الاجتماعي، أصبحت الأسرة تتعرض لقدر من التفكيك لدورها ولقفز على حقيقتها ووجودها، وربما تحول كثير من العلاقات في الغرب من كونها قائمة على التراحم إلى أن تصبح قائمة على التعاقد، أثر على الأسرة، التي لم تعد شأنا خاصا ينهض به الأبوان، من خلال مسئوليتهما الفطرية والأخلاقية، إلى كونها شأن تتدخل فيه الدولة بسلطتها وقانونها وإلزامها، وهو ما انعكس على سلطة الأب داخل الأسرة التي تعرضت لتقويض خاصة في مجال رعاية الأبناء والقيام بوظيفة التنشئة، إذ شنت الحركات النسوية هجوما عنيفا على سلطة الأب، مما أضعفها، وجعل في مُكنة الأبناء استدعاء السلطة لوقف دور الأب في حياتهم والنهوض بوظيفة تربيتهم، كما أن تركيز النسويات على المساواة التامة بين الرجل والمرأة، ومطالبة المرأة بإخراج الرجل الكامن في داخلها واقتحام مجالات العمل والحياة، والنظر إلى تربية الأبناء وكأنها “وظيفة بيولوجية متدنية” جعل المرأة لا تنظر إلى الأسرة كمجال فطري لحركتها تتلائم مع طبيعتها الفطرية، ولكنها باتت تنظر إلى الأنوثة والأمومة وتربية الأبناء كمعوقات لإمكانية نجاح المرأة في الحياة وتحقيق ذاتها، فاختل التوازن والاتزان داخل الأسرة، ولم تعد وظيفة الأسرة: الإحصان، والإنجاب، وتربية الأبناء، ولكن باتت تحصيل المتعة، وتقليل كلفتها، لذا لعبت النسوية دورا في تدمير الأسرة من خلال التركيز على قضايا المرأة، والنظر إلى المرأة كفئة منعزلة عن بقية المجتمع، وعن أدوارها الفطرية. الفيلسوف المغربي “طه عبد الرحمن” في كتابه “روح الحداثة” اقترب من أزمة الأسرة الغربية المتشبعة بروح الحداثة، فرأى أن النموذج الغربي جعل الأسرة محلًا للهناء لا محلًا للبقاء، بعدما فصلها عن الاستمداد من القيم الدينية، فأصبحت المادية لا الأخلاقية هي التي تستمد منها الأسرة مُثُلها وقيمها، وصار الاستهلاكية قيمة مركزية في الأسرة الجديدة، وتراجعت قيمة المودة والرحمة، فاختلت الوظيفة الأخلاقية بين الأفراد، وفقدت الأسرة قدرتها على التنشئة والإصلاح والتهذيب، ثم جاء التشريع ليقنن حالة الاضطراب في الأسرة، وكانت سلطة الأب هي أول ما تعرض للانتهاك والانتقاص، كذلك صارت الرغبات بديلا عن الواجبات، فغابت واجبات الزوجية والأمومة والبنوة، وغابت فكرة الخلود عن ذهنية الأسرة إلى فكرة تحصيل المنفعة واللذة، فتردى الإنسان: رجلا وإمرأة وطفلا، يقول عبد الرحمن:” والإنسان إنما “يتأنسن” ويتعالى على إنسيته بالأسرة وحفظ طبائع أعضائها الأصيلة وفي ذلك أيضًا معنى الإيمان بـ”الاختلاف”.
مدار الساعة ـ نشر في 2020/10/25 الساعة 16:11