زيد أبو زيد يكتب: ملف الوباء ومجتمع الخبراء
من العبث التفكير كثيرًا بفيروس كورونا وقدراته الخارقة على النفاذ إلى طبقات إسمنتية بنيت منها القبور للمتوفين بفعل الوباء الخبيث قبل التفكير فعلًا بتاريخ انتصارنا على الوباء حفاظًا على صحة السليمين، فليس من المعقول أو المقبول أن تنشغل كل مراكز بحوث الأوبئة وأبحاث الدواء في العام بالبحث عن مطعوم أو صيغة علاجية للوباء في الوقت الذي تبقى فيه مجالسنا وخبراء الأوبئة مشغولين بكيفية دفن المتوفين بوباء كوفيد 19.
ومنذ الحالة الأولى المسجلة لفيروس كوفيد19 "كورونا" في نهايات العام 2019 - وهي البداية لأكبر كارثة وبائية في الألفية الثالثة والتي عرفت بجائحة فيروس كورونا- عطلت اقتصاديات العالم وحركة التنقل بين الدول، وسببت ما يسمى بالكساد وتعطل التعليم بشكله التقليدي، وانتقل معظم العمل ليصبح عن بعد، ولا شك في أنه توجد أنماط حياتية إيجابية جديدة ظهرت في ظل مرض حصد أكثر من مليون وفاة، ولكن منذ تلك اللحظة أي من نهايات العام 2019 أصيب عشرات الملايين وتوفي الملايين أيضًا، ولكن بالرغم من ذلك فقد تناقلت وسائل الإعلام وألسنة البشر بكل الطرائق المتاحة ملايين الروايات تركز معظمها في البداية على جدلية هل الفيروس مصنوع أم مطبوع؟ وهل هو نتيجة طفرة جينية لفيروسات الطبيعة تطورت تلقائيًّا لتصبح بمثل هذه الشراسة أم فيروس رُكِّبَ في مختبرات وأُطلِقَ صدفة أم عمدًا؟ أما باقي المقولات فتراوحت بين مصدق أصلًا لوجود مثل هكذا وباء ومنكرًا له.
وبالرغم من مرور عقود على تأسيس أنظمة للوقاية الوبائية في معظم دول العالم ومنظمات متخصصة خاضت تجارب نظرية كثيرة، إلا أنه من الواضح أن الجائحة أقعدتهم جميعا؛ لأنهم جميعًا لم يكونوا أصلًا قد حددوا إطارًا لمفهوم التعامل مع شكل جديد من أشكال الجائحة إلا عبر مشاهدة أفلام هوليود التي قدمت مئات الأفلام عن أوبئة تغزو الأرض.
ويبدو أن مراكز الأبحاث عجزت عن الموازنة بين ثورة التكنولوجيا العالمية وثورة علم الأدوية وثورة اللقاحات في الوقت الحاضر، ويظهر أن بعض المسؤولين كالرئيس ترامب وغيره شتت انتباهها، ووضع الأخبار العلمية الدقيقة في عاصفة الاتهام، وهكذا لم يعد يتبين للإنسان العاقل مصداقية الخبر الذي يعتمد الحقائق والإنجازات وبين الشائعة، حيث أظهرت دراسة قامت بها جامعة كورنيل الأميركية (Cornell University) أن الرئيس دونالد ترامب كان أكبر مصدر للتضليل والمعلومات الخاطئة بشأن فيروس كورونا في الولايات المتحدة خلال الأشهر الأولى للجائحة، وفق تقرير نشره موقع فوكس (Vox) الإخباري الأميركي.
وقد ذكرت إحدى الدراسات أن أحد الموضوعات الأكثر شيوعًا الحديث عن "علاجات إعجازية"، حيث روّج الرئيس -من دون دليل علمي واضح- لفعالية عقار هيدروكسي كلوروكين وادعى أنه تناوله بنفسه، وهو ما ثبت عدم نجاعته لاحقًا عند اختباره سريريًّا في كثير من الحالات التي خضعت للعلاج، بل نتج عن الخضوع لهذا البروتكول الصحي كثير من الوفيات.
لقد انتشرت في الآونة الأخيرة كثير من المقولات المضللة كانت بسبب أخطاء سياسية في التعاطي مع الوباء، حيث فشلت كثير من دول العالم في توفير فحوص فعالة للفيروس في الأيام الأولى للجائحة؛ ما أخر معظم البلاد شهورًا في صراعها ضد الوباء، كما لم تكن توجد أي استراتيجية وطنية لتوزيع معدات الحماية على العاملين في المجال الطبي، وسُجِّل تخلف ملحوظ في آليات رصد الحالات الوبائية عبر البلاد وتتبعها، بيد أن المعضلة الأكبر كانت في الموازنات التي تمت بين فتح الاقتصاد والحفاظ على صحة المواطن أو بين التعليم المتضمن فتح المؤسسات التعليمية واتباع البروتوكولات الصحية، وربما تعليق عمل المدارس في التعليم بالمواجهة حفاظًا على صحة الطلبة أو بين فتح منشآت الإنتاج ومعابر الحدود وبين الحالة الوبائية، حتى لا تُصنَّف الدول بالفشل الاقتصادي، ولكن النتيجة كانت كارثية وبائيًّا، ولم تحل فعليًّا مشاكل التعليم أو غيرها جذريًّا.
وقد احتاج معظم سكان العالم معلومات واضحة ودقيقة من حكوماتهم حول الفيروس كما احتاجوا إجراءات، وبدل ذلك تم نثر بذور الفتنة والشكوك، وبث معلومات مضللة؛ ما جعل مهمة احتواء الفيروس أكثر صعوبة وتعقيدا. وبينما لا يزال الباحثون يتعرفون أكثر على مزيد عن أعراض فيروس كوفيد- 19 ويعملون على إيجاد لقاح محتمل، فإنهم يواصلون أيضًا التحقيق لرسم خريطة للفيروس، وقد حذرت منظمة الصحة العالمية منذ البداية أنه من المحتمل جدًّا أن تبلغ حصيلة وفيات كوفيد-19 الملايين في حال عدم القيام بكل ما يلزم، وتساقطت مقولات كثيرة عن مدة بقاء الفيروس نشطًا على الأسطح أو في الهواء أو حتى التنبؤات بأن الظروف الأكثر دفئًا تقلل من كفاءة انتقال كوفيد لم تتحقق، ولا تزال هناك حاجة إلى تدخل إضافي لاحتواء انتشار العدوى.
وهنا لا ضير في أن يلعب إعلامنا دورًا محوريًّا في غرس الوعي الفردي والجماعي، والتحلي باليقظة والتفكير النقدي، واستقاء المعلومات من المصادر الأمينة الموثوقة، والحذر من الأكاذيب والإشاعات، وعدم التعرض للمؤثرات السلبية ولو بقصد التسلية، واتباع الأساليب الصحية، ولبس الكمامات، والتباعد، وحجر بؤر الوباء، وعزل المصابين، وحجر المشتبه بإصابتهم، وتوقف المتفيهقين، وأشباه الخبراء عن الإدلاء بدلوهم، وترك ذلك للخبراء الحقيقيين، فالوقاية خير من العلاج.