زيد أبو زيد يكتب: الكذبة الصهيونية بثوب جديد السلام مقابل التطبيع

مدار الساعة ـ نشر في 2020/10/06 الساعة 14:05

بقلم: زيد أبو زيد

عقودٌ تَمُرُّ ولم يتبقَّ على وجهِ البسيطةِ شاهدُ حقٍّ لم يَرَ ما يعانيه شعب فلسطين من قهرٍ واستعبادٍ في سبيلِ تحرير وطنهم من دنسِ المحتل الصهيوني الذي عاثَ دمارًا وفسادًا وقضمًا للأراضي واحتجازًا لحرياتِ مئاتِ الآلافِ من المقاومين.

من جهةٍ أخرى يرى ذات المشاهد المقهور تخاذل معظم مكونات النظام الرسمي العربي والعالمي عن دعم قضية فلسطين العادلة وتحقيق الحد الأدنى من شروط تحقيق السلام وفق معادلات الشرعية الدولية بقراراتها المرتكزة على مبدأ الأرض مقابل السلام، والتي يبدو أنها قرارات تُطبَّق وفق مشيئة القوى العظمى، وتُكَيَّف بحسب مصالح هذه الدول وحلفائها لا وفق معايير العدالة.

وفي العام الحالي 2020 ابتدأت مسيرة التطبيع كقطار سريع، دخلت فيه العلاقات الصهيونية مع كثير من دول العالم مرحلة جديدة لا يقدم فيها الكيان الصهيوني أي ثمن مقابل هذه العلاقات، لينهار جدار القطيعة كانهيار جدار برلين.

لقد نشطت دبلوماسية الكيان الصهيوني بدعم مباشر من سيد البيت الأبيض دونالد ترامب، وتمت هذه العلاقات في غفلة تمامًا كما قام الكيان الصهيوني ذاته في فلسطين في غفلة من الأمة العربية التي كانت تعاني تشرذمًا وضعفًا إثر مخلفات الاستعمار الذي جثم طويلًا على صدر جسد منهك، وليظهر للعلن التواطؤ مع العدو الصهيوني، وبما يتوافق مع الهيمنة الأمريكية المتحمسة للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وبدعم بعض العرب، فها هو دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية يدعو الدول العربية إلى المبادرة بشكل فوري لاتخاذ تدابير ملموسة لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني، وكأن العرب يعانون نقصًا في الحوافز، وعندما يوجه ترامب دعوته بهذا الوضوح يعلم جيدًا أن بعض مكونات النظام الرسمي العربي أصبح شريكًا في الهدف الاستعماري الذي يريد تشكيل الجغرافيا العربية، وتفكيك مقومات نهوض الأمة لصالح المشروع الأمريكي، بل إن بعض مكونات النظام الرسمي العربي انتقلت من لعب الدور المستتر إلى الدور المفضوح بصفته عنوانًا للتبعية والانفتاح والارتهان السياسي، وبعبارة أخرى لم تعد القضايا العربية القومية عمومًا، والقضية الفلسطينية بالذات مهمة للنظام العربي الرسمي، بل أصبحت عبئًا عليه، فتخاذلت هذه الأنظمة حينًا عن دعم الشعب الفلسطيني، ثم انتقلت لتقف في خدمة الآخر، في تعبير عن فقد الوعي الوطني وثوابت العمل العربي المشترك ومرجعياته، والغريب أنهم يُسوِّقون ذلك على أنها علاقات لصالح القضية الفلسطينية بل إنها ستسهم في وقف عمليات ضم أراضي السلطة الفلسطينية وقضمها، وعلى الجانب الآخر يؤكد نتنياهو وفريقه الحكومي استمرار الضم والتهويد لكل مكونات الأرض والهوية في غياب كامل للعقل عن الموضوع عند حكماء الأمة، وقديمًا قال شاعر عربي :

لا يصــلح النـــاس فوضى لا ســراة لهم

ولا ســــراة إذا جهــالهـــم ســـــادوا

تصـــفو الأمـور بأهـل الرشد ما صـلحت

فــإن تــولــوا فبالأشرار تنقـــــادُ

وسراة القوم هم كبراؤهم الحكماء، وإنما طرحْتُ هذه الأبيات الشعرية، وأنا أشاهد غياب العقل والوعي العربي في هذه المرحلة الدقيقة من حياة أمتنا وشعوبنا؛ لأصف الحال الذي وصلنا إليه.

واستنادًا إلى عمليات التطبيع الجديدة التي تُسوّقها الإدارة الأمريكية إعلاميًّا وسياسيًّا في ظل حملة ترامب الانتخابية، فإنَّ الخطوات القادمة تبدأ بخطوات تطبيعية مع الكيان الصهيوني تقوم بها معظم الدول العربية، وإنجاز حملة علاقات عامة لتجميل وجه الكيان الصهيوني، وتسويق عمليات التطبيع معه بوصفه دولة صديقة، وربما حليفة، ومن ثم قيام العرب وعلى المستوى الرسمي بحملة تطبيع شاملة وتامة معه، ورفع علمه المشؤوم في سماء العواصم العربية مقابل التوقف عن بناء المستوطنات الاستعمارية المسماة بالعشوائية وتوسيعها، على أن يتم التفاوض حول قضايا الحل النهائي وحق العودة للاجئين الفلسطينيين ومستقبل القدس ضمن إطار عام لا محددات له، ومن دون الأخذ بالدور التاريخي الأردني في حل قضايا الصراع في المنطقة ومحاولة تهميش دوره المقدس في الحفاظ على الأماكن الدينية في القدس، وعلى رأسها المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهي مخططات حذر منها جلالة الملك عبد الله الثاني ابن الحسين المعظم، في الوقت الذي أكد فيه كل الشعب الأردني وقوفه خلف قيادته للحيلولة دون تنفيذ هذا المخطط.

إن واشنطن تطالب الآن وعبر كواليس الحركة الدبلوماسية، بإدخال تعديلات على مبادرات السلام، وقرارات الشرعية الدولية تتمحور حول حق العودة للفلسطينيين لجهة إلغائه، وفي إدخال تعديل آخر يتعلق بتبادل أراض بين الدولة العبرية والسلطة الفلسطينية؛ بهدف التخلص من عدة مئات من آلاف الفلسطينيين من الذين بقوا داخل فلسطين عام 1948 بعد قيام الدولة العبرية الصهيونية، علمًا بأن التطبيع المطلوب هو المدخل للاقتراحات العملية المقدمة وليس النتيجة، أي أن المطلوب أولاً هو الذهاب بعيدًا في ملف التطبيع، ومن ثم تبدأ الخطوات الأخرى.

إن المراقب لهذه الأحداث عليه أن يدرك جيدًا مصالح ارتباط كثير من أنظمة الحكم في دول العالم النامي بالأجنبي ومصالحها بشكلٍ أو بآخر على حساب شعوبهم, وقد استغل الكيان الصهيوني غفلة العرب سابقًا بالهجوم على إفريقيا دبلوماسيًا ذات مرة، وفتحه للسفارات، وإنشاء المصالح، وتقديم السلاح لبؤر الصراع, ملوِّحًا باستثمارات برّاقة, ومشاريع خدّاعة, وتكنولوجيا متقدمة أنتجها الكيان المغتصب بعبقريات الدول الغربية الداعمة له، عارضًا الخير والازدهار والدعم المالي (وهو المعتمد أصلاً على الدعم الخارجي)، واعدًا هذه الدول بتحويلها إلى جنّات عدن, ومستخدمًا في سبيل ذلك الوسائل الرخيصة غير الأخلاقية للوصول إلى هدفه, بعد أن بدأت حركات التحرر في العالم العربي, ومن هنا فكَّر دهاقنة هذا العدو ومن يدعمه في إيجاد منفذ يستطيعون به كسر السوار, ولكن كيف وفلسطين بعيدة عن إفريقيا؟ إذًا لا بد من إيجاد منفذ للشواطئ الإفريقية, عبر البحر الأحمر للاطلاع على شرق إفريقيا أولًا، ثم النفاذ إلى وسطها وغربها؛ فكان ميناء (أم الرشراش – إيلات) ثمرة ومكسبًا من مكاسب العدوان الثلاثي على مصر عام 1965، ومن هناك بدأ التغلغل والتدخل عن طريق توريد صفقات من السلاح إلى القبائل المتناحرة في الدول الإفريقية التي كانت قد استقلت حديثًا أو كادت, ومن خلال جهاز الموساد الذي كان يتزين بأزياء عديدة وجلودٍ لا يُعرَف لها لون, حتى يتمكن في النهاية من فتح مكتب هنا أو سفارة هناك والعرب لاهون, والغرب الذي خرج وبقي تأثيره يشجع, ويعد بالعطايا والمنح لكل دولة إفريقية تقترب من الكيان الصهيوني، وتقيم علاقة معه، حتى أن بعض الدول العربية في الشمال الإفريقي غرها ذلك, وظنَّت بأنها ستتمتع بالخير القادم من الصهاينة, ففتحت أبوابها لإقامة أول سفارة صهيونية في عاصمتها, واعترفت هذه الدولة فيما بعد بأن هذه العلاقة لم ينشأ عنها سوى غضب شعبها العربي المسلم, ولا شيء من المشروعات والمساعدات الموعودة بها.

وها هي التجربة تتكرر في ظل انشغالنا جميعًا بجائحة الوباء المستشري كورونا مع الأشقاء في الخليج العربي الذين لا نشكك في عروبتهم أو نطعن في قوميتهم، ولكننا نتوقف كثيرًا عند سياستهم ناصحين وآملين مراجعة مواقفهم وإعادة صياغة سياساتهم لدعم قضايا العروبة والإنسانية، وتقديم الدعم والمساعدة لتقوية الجبهة العربية، كما وقفت ذات مرة في تقوية الجبهة الإفريقية على قاعدة أن إفريقيا القوية حصانة للعرب والعروبة ومستقبل الأمة العربية بأسرها.

وفي هذا السياق فبنيامين نتنياهو يسعى إلى الاستفادة من التحرك الأمريكي الجديد في الشرق الأوسط من أجل إقناع الإدارة الأميركية بضرورة بدء الدول العربية وبشكل فوري في عملية التطبيع، والإعلان عن بوادر حسن نية تجاه الكيان الصهيوني، وعلى هذه القاعدة أسوق حديثي هذا في إطار الرد على الواهمين من ساسة العالم العربي بإمكانية الوصول إلى حل مع رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو، فمن العرب من يُسوّق الحلول والمبادرات والتنازلات أملًا في تحقيق السلام المزعوم، ولكن التنازلات عند نتنياهو وغيره من قادة الكيان الصهيوني ستقود حتمًا إلى تنازلات جديدة، وهو المطلوب، فيزداد التعنت الصهيوني أملًا بتنازل جديد.

ما هو المطلوب إذا؟ إننا نحن العرب لو أصررنا تفاوضيًّا وسياسيًّا على إيجاد حل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين بدلًا من الحديث عن الجزء المختلف عليه من الأرض في تلك المعادلة لتكون معادلة الأرض واللاجئين معًا بدلًا من مبدأ الأرض مقابل السلام وحدها المعيار لعقد الاتفاقيات أو التطبيع, وعكس ذلك يمكن أن تُسيَّر رياح الحل التفاوضي بما لا نشتهي نحن وبما يشتهي مرْكب الكيان الصهيوني التلمودي.

إن الكيان الصهيوني حاليًّا هو أقوى قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وقواته التقليدية تتفوق بكثير على جيوش جيرانها العرب، وهو الكيان الوحيد في المنطقة الذي يمتلك أسلحة نووية، ومنسوب العنصرية في حكومة نتنياهو يرتفع من يوم إلى آخر، وباتت هي المقياس للنجاح السياسي للوزراء وغيرهم من أعضاء الكنيست، والمراهن على هكذا كيان سيكون شريكًا في الجريمة الرامية إلى وأد قضية الشعب الفلسطيني، ولكن كل ذلك يمكن أنْ يتوقف في حال توقف الصمت العربي والإسلامي، وَهَبَّ العرب لحماية أرضهم ومقدساتهم من رجس الكيان الصهيوني، بدلًا من الاقتتال والاتهام المتبادل الذي لن يُورِّث القضية إلا الاندثار.

مدار الساعة ـ نشر في 2020/10/06 الساعة 14:05