السلامُ على العمر الذي مضى

مدار الساعة ـ نشر في 2017/05/01 الساعة 01:43
ترسلُ لي بنتي الصغرى برسالة تهنئة وأنا البعيد القريب منها، تذّكرني بيوم ميلادي الذي يصادف الأول من أيار، فتجهشُ الذكريات في بالي، وينتحبُ الحبرُ على الورق ويسيلُ شوقاً ووجعا.

هي الأربعون وأكثر قليلا، هي انتصاف العمر واكتماله، فما بعد الاكتمال إلّا النقص، فسلام على الذي مضى، وسلام على الذي بقى.

أيا بنيّتي... بيني وبينكِ سبعةَ بحورٍ ويابساتٍ وشجر، ولكنْ صدّقيني يا غالية أنّ بيني وبينكِ مقدار حرارة أنفاسكِ عني، وبمقدار شهقة ولهفة مشتاق، وبحجم دمعة سكنتْ ما بين الرمش والرمش، وبمقدار فاصلة بين كلمتين، أو سكتة بين بيتين من الشعر، فمتى كانت المسافات تفصل المحبين عن بعضهم، فهم قيد حلم يسافر يزورهم كل مساء، وهم قيد يدٍ تتفقدهم كل ليلة، وتسحبُ الغطاء إن قصّر عن دفئهم، أو تتفقد نافذة تُركتْ مفتوحة قد يخونها الغياب.

نكبرُ يا بنيّتي، إلاّ في عيون أمهاتنا، ونكذبُ عليهنّ ونقول نحن بخير، وأنّ التعب لا يتسللّ إلينا، ونكذبُ إنْ قلنا أنّ الشيب وقار، المهم أنّ القلب لم يشب بعد، حتى لو أيقظتكَ رفّة به وسط الليل، ربما يعاني من شوق، أو ربما صابته لوثة عشق، فمتى تتوقف القلوب عن الهوى.

هذا العمر يمرُّ كغزال شارد، فكم زادتْ تجاعيد الوجه، وتقول لنفسكَ المهم أنْ تخلو الروح من التجاعيد، وأنْ يبقى القلب صافيا من الهالات السوداء... وكم خبّأتَ شعرة بيضاء نفرتْ على جبينك حين تأملتَ نفسك في المرآة صباحا، وأقول وأكذب عليكِ وعلى نفسي : ما السنين إلا محض أرقام... وتنسى كم زاد وجع مفاصلك، وأنتَ تسرق مضادا من الثلاجة ليلا بعيدا عن أعين من تحب.. أو تتأكد من نظارة عينيك فقد زاغ البصر وتراجع مع بياض الكتب وشاشة اللاب توب..أو ربما تصحو مفزوعا لتتحسس قلبك، وقد مرّتْ به نغزة فيكتسيك الخوف، لكن تغمض عينيك وتقول : كله بأمر الله...!!

فيا صغيرتي هو العمر الذي مضى، وقد نثرتهُ ما بين دروب العسكرية وبين صفحات الكتب وقاعات الدرس، عمرا نذرته للوطن عشقا بكل تفاصيله، فأنا من جيل نتاج تعب أيادينا ودفعنا الذاتي، ولستُ نتاج أموال وتجارة وكومسيونات وفساد وواسطات ومال حرام، وأنا نتاجُ الفقر والتعب الذي يشبه فقراء القرى والبوادي، والذي دفع ثمنه آباءنا من عرقهم ودمهم، وأنا نتاجُ جيل صعد بأظافره تحت ضوء الشمس ليطلّ على النور ويبحث عنه ولا يختبئ بزواريب الظلام... لم أتسلّقْ على كتف أحد، ولم تضعْ لي الدولة عكاكيز من خشب لأظلّ واقفا، بل إستندتُ لقيم زرعوها بنا رجال يخافون ويستحون من الله، قيم ومبادئ هي أصلب من كل جبال الدنيا طولا وجذورا... كنتُ وسأظلّ كما أنا، فلم أكن يوما "شرشبة خرج" أو "بوقا" لأحد، ودفعتُ ثمنا غاليا من مستقبلي الوظيفي لقاء كلمة حقّ وموقف شجاعة.

سنة تمرُّ يا حبيبتي وبعض الأمنيات والأحلام بدأتْ تشيخ، والأقدام صارتْ أكثر ثقلا، ونار الحماسة تخبو مع الريح، وأولويات الحياة تتراجع، ولكن هي روح الفارس ما زالت متقّدة، وما زال المقاتل والصهيل يسكنني الذي لم يتعبْ بعد، وما زلتُ أقول " لا بأس يا شيبي فما زال الحصان بداخلي"، ولن أقول قول الفتى "كان أبي.. " ولكن أقول "ها أنا ذا " وقادم الأيام لكِ ولنا إنْ كان في العمر بقيّة، وإنْ كتبَ الله غير ذلك، فإني راضي فقد منحني الله أكثر مما أستحق، وسأقول كما قال امرؤ القيس يوما :
"بكى صاحبي لمّا رأى الدّربَ دُونه
وأيقنَ أنا لاحقانِ بقيصرا
فقلتُ لهُ: لا تبكِ عينكَ إنّما
نحاولُ ملكاً أو نموتَ فنعذرا".
  • مال
  • لب
  • تقبل
  • منح
  • ملكا
مدار الساعة ـ نشر في 2017/05/01 الساعة 01:43