انطلاق أعمال مؤتمر المسألة الدستورية والتحول الديمقراطي في البلدان العربية
مدار الساعة ـ نشر في 2020/09/26 الساعة 17:38
مدار الساعة - افتتح الخميس، المؤتمر السنوي التاسع لقضايا الديمقراطية والتحوّل الديمقراطي تحت عنوان "المسألة الدستورية والتحول الديمقراطي في البدان العربية"، والذي عُقد بالتعاون بين المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات والمنظمة العربية للقانون الدستوري.
وأشار الدكتور مهدي مبروك مدير فرع المركز العربي في تونس في كلمة افتتاحية إلى أن ثمة أكثر من مبرر يجعل المسألة الدستورية مبحثًا علميًا ذا راهنية قصوى، أهمها أن الدساتير في بلداننا العربية -وفي مفارقة عجيبة - تُعدّ أحد قوادح الثورات والانتفاضات من جهة، وهي أيضا أحد أسباب تعثرها وفشلها من جهة أخرى.
وأضاف مبروك أنه بصرف النظر عن المقاربات المختلفة وزوايا النظر المتعددة التي نطل منها على أوراق المؤتمر، فإن جُل البلدان التي مرت بهذه الانتقالات المتعثرة في مجملها للأسف قد شهدت مسارات دسترة مهمة، تمت فيها صياغة دساتير أو مشاريع دساتير جديدة أحيانا أو تعديل لدساتير "قديمة" ضمّت البعض من تطلعات المحتجين وحاجاتهم وأشواقهم نخبًا وفئاتٍ اجتماعيةً عريضةً، حتى بدا الدستور عَقدا وثيقا بين الحاكم والمحكوم تتحدد فيه طبيعة الدولة وأركان النظام السياسي و توزيع السلطات و العلاقة بينها فضلا عن الحقوق والواجبات التي لا تكتمل بها مواطنية المواطن فحسب بل وإنسانيته أيضا.
ونوه مبروك إلى أن التجارب المقارنة في بناء الدستورية تؤكد أن الدستور ليس وصفة جاهزة لحل كل المشاكل و القضايا التي تعانيها الجماعات الوطنية بل هو بناء عسير يجلّي مختلف القوى والإرادات الاجتماعية التي تجعل من كتابة الدستور و صياغته عملية شاقة لا تعكس موازين القوى فحسب بل ثقافة النخب المتراكمة وطبيعة المجتمعات السوسيو- ثقافية فضلا عن تراثها السياسي و الدستوري.
أما عبد الفتاح ماضي، منسق مشروع التحول الديمقراطي ومنسق المؤتمر- فقد استهل كلمته بالترحيب بالحضور سواء عبر تطبيق زووم أو الشبكات الاجتماعية، وبتقديم الشكر لكل من ساهم في المؤتمر من باحثين وخبراء عرب وأجانب ومحكمين ومن مشرفين على إخراج الجلسات عن بعد عبر وسائط التواصل الاجتماعي. وأكد ماضي أن موضوع المؤتمر يتناول مساحة بحثية واسعة، تمتد لتشمل مراحل ممتدة، بعضها سابق على كتابة الدساتير ذاتها وبعضها الآخر لاحق لهذه العملية، وتتناول قضايا متعددة مثل التوافقات السياسية والسياقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتكوين الهيئات التأسيسية، وعلاقة الدساتير المؤقتة أو الصغيرة بالدساتير الدائمة، ومعالجة إرث الأنظمة القديمة، فضلا عن أدوار الخبراء المحليين والخارجيين، وضمانات انفاذ الدساتير وعدم انهيار النظم الديمقراطية الدستورية، ومعالجة مثالب الديمقراطية التمثيلية، وضمانات النجاح في المجتمعات المنقسمة.
وأشار ماضي إلى عملية إدارة البحوث التي وردت إلى اللجنة العلمية، حيث خضعت البحوث لعملية التحكيم حسب القواعد المتبعة في المركز العربي للأبحاث وذلك لضمان الصرامة العلمية والارتقاء بالمنتج المعرفي العربي، منوها إلى أن اللجنة تلقت أكثر من 70 بحثا، تم تحكيم 54 بحثا؛ اجتاز منها 22 ورقة بعد تلقي اللجنة أكثر من 106 تقريرا تحكيميا. واختتم ماضي كلمته بالقول أن هناك العديد من الموضوعات التي لا تزال في حاجة إلى مزيد من البحث والدراسة وعلى رأسها ضبط المفاهيم ذات الصلة وعلى رأسها مفهوم الدستور الديمقراطي والمفاهيم المرتبطة به، فضلا عن البحث في التفاعلات التي تمت بين تصورات الأطراف المختلفة في الحالات العربية، وحدود الدور الخارجي، فضلا عن طرق تفعيل الدساتير وضمانات استمرارها.
خبرات اليمن العراق والجزائر
وفي أعقاب الجلسة الافتتاحية، دارت جلستان عبر منصة "زووم"، ضمتا مجموعة من أبرز الخبراء العرب ممن شاركوا أو اتصلوا بشكل مباشر مع عملية وضع دستور جديد فيما بعد 2011. في الجلسة الأولى التي رأسها الدكتور خالد زيادة، مدير المركز العربي - فرع بيروت، ألقيت شهادات تبلور خبرات اليمن والعراق والجزائر في التحول الدستوري وتعلقه بمسارات الانتقال الديمقراطي، وضمت أستاذة علم الاجتماع بجامعة تعز في اليمن الدكتورة ألفت الدبعي، والبرلماني وأستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد الدكتور نديم الجابري، والأكاديمي الجزائري وأستاذ القانون العامّ بكلية الحقوق والعلوم السياسية بجامعة تبسة الدكتور عمار بوضياف.
قدمت الدبعي عرضا يلخص التجربة اليمنية فيما بعد 2011 ومحاولة امتلاك دستور ديمقراطي جديد. مستندة في ذلك إلى خبرتها المباشرة في العمل ضمن فريق العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في مؤتمر الحوار الوطني في اليمن. بدأت الدبعي شهادتها من لدن مخرجات المبادرةُ الخليجية وما طرحته من إطار سياسي وقانوني للتسوية بعد "ثورة فبراير 2011". وأكدت أن المؤتمر الحوار الوطني الناتج عن هذه المبادرة قد حمل شعار "الشعب يكتب دستوره" في مسعى لضمان مشاركة واسعة من كل مكونات المجتمع اليمني لبلورة دستور جديد للبلاد. وكان من آثار تعاظم الوعي الشعبي بأهمية الدستور أن شكّلت وثيقة الضمانات دعمًا لتنفيذ التوافقات التي خرج بها المتحاورون، وتشكلت اللجنة الدستورية التي صاغت مسودة وفق مخرجات الحوار الوطني، تلقتها الهيئة الوطنية للرقابة على تنفيذ مخرجات الحوار وراجعتها لتوكيد ضمان التزامها بمرجعية وثيقة الحوار، تمهيدا للعرض على الاستفتاء الشعبي بعد أن إقرار الهيئة الوطنية. لكن تعطل هذا الدستور في ظل الشقاق السياسي وتدهور الوضع وصولا للحرب الأهلية. أكدت الدبعي أن هذه المسودة الدستورية تظل أفضل نص يجمل تطلعات اليمنيين للتغيير، ويعزَّز إمكانية الانتقال الديمقراطي في المستقبل إنْ جرى تبنيها. علاوة على ما تضمنه من الحقوق والحريات، وبخاصة حقوق النساء والشباب، فضلًا عن وضع ضمانات لعدم عودة التسلطية.
أما الدكتور نديم الجابري فقد استعرض البعدين السياسي والفكري في كتابة الدستور العراقي الدائم الصادر في 2005 .
وأكد في البداية أن مهمة وضع دستور يؤسس لديمقراطية بعد الاحتلال كانت مهمة محفوفة بالمصاعب، في ظل التراجع الشديد لقدرات الدولة العراقية وتحلل مؤسساتها العسكرية والأمنية. وعدّد الجابري عديد المظاهر التي أسهمت في تعطيل الغاية من انتاج الدستور وعلى رأسها افتقار النخبة إلى مشروع سياسي حقيقي، وتسيد التقاليد والتوجهات المذهبية، فضلًا عن عدم القدرة على التخلص من الموروث الاستبدادي.
وبيّن الجابري كيف شكلت الجمعية الوطنية الانتقالية لجنةً لكتابة الدستور وفق محاصصة بين مكونات المجتمع، شابها اختلال الهيكل فضلا عن ضعف المرجعية التوافقية التي مثلها قانون إدارة الدولة للمرحلة الانتقالية الذي فرضه الاحتلال. وقد لعبت التدخلات الخارجية والخلافات بين الفرقاء السياسيين دورها في تحجيم أثر هذا الدستور، لكن على الرغم من ذلك، قدّر الجابري أن دستور 2005 قد أحرز نجاحا نسبيا في تنظيم العملية السياسية خلال الفترة 2006–2010، لكنه بدا على العكس تماما في الفترة 2010–2020، وظهر عجزه نتيجةً لتحول الصراع في العراق من صراع سياسي، حول السلطة والنفوذ، إلى صراع اجتماعي يدور حول الاستحواذ على الأرض والإنسان.
وحول ارتباط مطالب الحراك الشعبي عام 2019 في الجزائر بالمشروع التمهيدي لتعديل الدستور المطروح حاليا. طرح عمار بو ضياف أن الحراك الشعبي السلمي الذي انطلق منذ شباط/ فبراير 2019، قد بلور جملة من المطالب وضعت ملامح الأطروحة الدستورية الجديدة. شمل ذلك قضية تحديد العهدات الرئاسية وهو المطلب الذي يرتبط بقادح الانتفاضة الشعبية وتوافقها على منع التجديد لبوتفليقه. تطرق بوضياف إلى الضمانات في المشروع الجديد التي تحقق استقلال مؤسسات أساسية كالقضاء والبرلمان، وكذلك تضمين الحقوق والحريات التي تشكل أساسا للديمقراطية، وإعادة تشكيل المؤسسات السياسية، وبالخصوص هيئة مستقلة لتنظيم الانتخابات. وفي النهاية، أكد على عدة توصيات تتعلق بمضمون الوثيقة، وتربطها بمطالب الحراك الشعبي على نحوٍ يعزز سلطة الشعب في التغيير والتحول الديمقراطي.
حالات السودان وليبيا وسورية والمغرب
وفي الجلسة الثانية للخبراء العرب، التي رأسها الدكتور حيدر سعيد مدير الأبحاث بالمركز العربي ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"، قدّمت شهادات تبلور خبرات عربية أربعة هي السودان وليبيا وسورية والمغرب في التحول الدستوري. ضمت الجلسة كل من المحامي والحقوقي السوداني الدكتور نبيل أديب عبد الله، الذي تولى رئاسة لجنة التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان خلال الاحتجاجات السودانية والمحامي الليبي الدكتور محمد عبد القادر التومي عضو الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور في ليبيا، والمحامي السوري وأستاذ القانون الدولي العام بجامعة قطر الدكتور محمد حسام حافظ، وأستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط والعضو السابق بالمجلس الدستوري والمحكمة الدستورية في المملكة المغربية الدكتور محمد أتركين.
في مداخلته، استعرض نبيل عبد الله تطورات المسألة الدستورية في الحالة السودانية منذ الإطاحة بالبشير، وبيّن التطورات الدستورية السابقة على 2011، وبالخصوص إعلان دستور السودان الانتقالي لعام 2005، الذي جاء نتاجًا لاتفاقية السلام الشامل الموقعة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان. وأظهر كيف أنه حمل التناقض بين ما تنطق به النصوص من ملامح توحي بإمكانية ديمقراطية وبين واقع التجربة السلطوي.
وأشار عبدالله إلى أن إطاحة القوات المسلحة بالبشير خلقت سلطة أمر واقع بيد المجلس العسكري، مع وعد بأن تبقى لفترةً انتقالية، تُسلِّم بعدها مقاليد الحكم إلى سلطة شرعية منتخبة.
من هذا السياق، استعرض عبد الله معضلات انتقالية، منها أن إجراء انتخابات من دون إصلاح للمنظومة القانونية، وتحرير السلطتين القضائية والتنفيذية من سيطرة النظام البائد، كانا يعنيان المضي عكس الإرادة الشعبية. وازن عبد الله من سلطة الواقع التي بيد الجيش سلطة لقوى الحرية والتغيير المفوضةً من الشعب، تفويضًا بـ "السلوك" بلغة القانونيين، ما جعل الأمور تسير باتجاه التوافق. في الأخير، تمّ تسليم السلطة وفق وثيقة دستورية بين طرفين رسمهما الواقع، حددت هياكل الحكم، وحددت سلطاتها أثناء الفترة الانتقالية، لمنع تغولها على الحريات العامة.
قدم محمد عبد القادر التومي عرضا للتجربة الدستورية في ليبيا بعد 2011، حيث سلّط الضوء على تكوين الهيئة التأسيسية لصياغة مشروع الدستور عبر انتخاب 60 عضوًا من الأقاليم الثلاثة (طرابلس – برقة – فزان) لتمثل مكونات المجتمع الليبي ذات الخصوصية الثقافية واللغوية موضحا الخلل في هذا التكوين. وعرج التومي على الشروط التي وضعها الإعلان الدستوري لاعتماد مشروع الدستور، مبينا التحدي في إنجاز المشروع خلال المدة المحددة الذي واجهته الهيئة التأسيسية، والشروط اللازمة لاعتماده والتي تعد في الواقع معوقا واضحا، في ظل مناخ ظل يشغى بتعارض وجهات النظر بين التيارات السياسة فضلا عن اضطراب أمني وسياسي. وقدم التومي عرضا لمضامين مشروع الدستور، وتطرق في النهاية إلى مسألة الاستفتاء على الدستور والملابسات ذات الصلة. وانتهى بالإشارة إلى أن مشروع الدستور الليبي لم ير النور حتى الآن نتيجة الانقسام السياسي والتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن الليبي.
وقدم محمد حسام حافظ معالجة للمسألة الدستورية في سورية وأثرها في الصراع الجاري منذ 2011، وكيف لم تحتل المطالبة بتغيير الدستور مكانة متقدمة فيه؛ حيث ذهبت الأولوية إلى تحقيق الانتقال السياسي. وقدم حافظ تفسيرا لانخفاض مكانة الدستور في العملية السياسية يستند على عاملي التمثيل والشرعية اللذان يميزان الأنظمة الشمولية. فالنظام السوري بني شرعيته على أسس لا تخضع للدستور والقانون، وظل يوظف العمليات الانتخابية والاستفتاءات كغطاء للممارسات القمعية التي تمثل في جوهرها ممارسات لادستورية. وتوقع حافظ أن يتشكل الصراع السياسي فيما بعد النظام الحالي حول الدستور وبنوده. واستنتج ذلك من النقاشات التي جرت في الأعوام الماضية ضمن المعارضة السورية. ودعا إلى الاعتناء بالجوانب المرجعية للمسألة الدستورية في سياق العملية السياسية السورية، وتضمين النقاشات والمخرجات التي رافقت الحوارات السورية - السورية بشأن القضايا الدستورية، في ضوء تشكيل ما سُمى "اللجنة الدستورية السورية".
عرض محمد أتركين دور القضاء الدستوري في المغرب وبخاصة اجتهاده الفقهي في مسائل التمييز الإيجابي. وأكد على دور الكتابة المفتوحة للدستور المغربي في توسيع المجال أمام القاضي الدستوري لتفسير الوثيقة الدستورية وتأويلها. وقدم مثالا على هذا الدور بنص الدستور المغربي على عدم التمييز على أساس الجنس، وما تعلق به من مواد. وتساءل أتركين كيف يمكن تحقيق "الوحدة" بين هذه المبادئ الدستورية؟ وهل يتعارض إرساء آلية للتمييز الإيجابي لتمثيل النساء في مجلس النواب مع حظر التمييز، ومع مبدأ المساواة المكرسين دستوريًّا؟ طرحت هذه الأسئلة على القاضي الدستوري المغربي، في سياق ضاغط، مطالب متناقضة، وضمن وضع سياسي يطالب فيه الجميع بتأويل الدستور "تأويلًا ديمقراطيًّا"! وشرح أتركين الضوابط التي وظفها المشرع ضمن "السلطة التقديرية" له والمقيدة بسموّ الدستور، واجتهادات القضاء الدستوري بهذا الشأن.
أعقب كل جلسة من الجلستين تعقيبات وتساؤلات من الحضور على زووم وعبر شبكات التواصل الاجتماعي، درات حول حقيقة التوافقات التي درات في بعض الحالات وما إذا كانت بالفعل توافقات كبرى، وطرق معالجة إرث الأنظمة السابقة، ومواجهة العقبات الواردة من تحكيم القوة والسلاح والتدخل الخارجي في حسم الصراعات والخلافات السياسية، فضلا عن ضمانات أن تعكس تصورات القوى السياسية المسيطرة مطالب الشعوب في موجات الثورات الشعبية التي اندلعت موجتها الأولى في 2011 والثانية في 2019، وآليات انفاذ الدساتير وتجنب بقائها مجرد نصوص لا أثر لها في الواقع، وكذا أدوار الفاعلين الخارجيين والاستفادة من التجارب الأخرى، وغير ذلك من قضايا.
مدار الساعة ـ نشر في 2020/09/26 الساعة 17:38