نور الدويري تكتب: واختفى بائع الكنافة
بقلم نور الدويري
أعتدت وأنا أشق طريق عودتي من العمل عصرا بطاقة بطارية موبايل حديث يبحث عن مقبسٍ لشاحن السعي والمسؤولية في نفسي لإعاود النشاط لعمل ينتظرني في البيت بين أكناف الأوراق والكتب أدرس أو أحضر لمشروع ما أو أتمم عمل لا نهاية له .
أتابع تحركات بائع كنافة يقف على طرف طريق عودتي فادعس (بريك) لطيف أُوقف فيه الوقت ثواني من عمري أضغط على نفس الدنيا بقدر ضغطها علي .
أراقبه كيف يشعل منقله الصغير الذي ترى فيه منحنيات غير متساوية وكأنها أثار خبطات الزمان الصعب مرسومة بدقة في (طعج) زوايا المنقل الأربعة.
لتعلم أن إنحناء ظهر الشاب الأربعيني لم تأتي إلا بعد (دعك وخض) وأنين الحاجة القاسية في عينيه تضيء الحدقتين .
ليمعن النظر والتأمل في صحونه الصغيرة يلمعها تارة ويدهنها بالسمن المخلوط بالزيت تارة أخرى، تماما كحياتنا كأحلامنا ككبريئنا المخلوط بالضيم والغيظ والقهر.
نكتمها ونحبسها لنخلط من أنفسنا شيئا جديدا بعضا من كل شيء إلا العزة لا نصيب مقتلها بل نزيدها عفة.
كنت أعي أن تلك الزاوية المحددة مخصصة له مرخصة لمنقله الصغير ومظلته المهترئة وكرسيه الذي لا يزال أيضا رغم كل إتهامات العالم وألوان القدر .
يعد لك صحن الكنافة مع ترحيبات سخية حتى تظن أنك تقف أمام وطن كبير يغمرك تقديرا ، فترى بعينيه لمعة تصميم على التسبيح سرا و في ابتسامته رضا يعد قروشه وبضعة دنانير غلة يومه .
ليبتسم بعضلتين مخصصتين للابتسام فتتضح مئات الخطوط المائلة تجاعيد قاسية غيرت ملامح الشباب في محياه ليشكر بقايا الحظ واطلال النعمة فهو ممنوح نص زينةالدنيا بعائلة يصرف عليها حلالا زلالا لا يعرف للفساد معنى .
لكنه ومنذ إختراق كورونا أمننا الصغير وأمانا الذي نحضنه بقلب واسع يتسع حبا للكوكب نخشى عليه من كل شيء فماذا سينفع وطننا الكبير بصبره، والصغير بحدود خريطة عُينت لأجله رُسمت حدوده كدلة قهوة بدوية ( راكزة ) انه لم يعد يأتي ! فالحب يحتاج الأمن والعمل يحتاج الأمن والأمل يحتاج الأمن .
أختفى بائع الكنافة! سألت بضعة مرات عنه تجار محال قريبة لكن لا أحد يعرف مكانه .
أفكر به مررا كيف لوجه وطن (ملغمط) بالصبر وذكريات صعبة ينشأ حلما حلالا نفذ من براثن أسنان تحديات ترخيص البسطات والمحال الصغيرة أن يبتعد عنا في طريق كان فيه وحده لا شريك له مزينا زاوية صغيرة فلا يأذي أحدا ولا يخرب مشهدا ولا يضر بنصيب أحد أن يختفي هكذا بلا أثر!!!.
كنت أريد أن أخبره عن منصات الضمان للمتضررين لعمال المياومة، للجمعيات، لاي مبادرة دقت على صدرها تنقذ ضعاف الحيلة أقوياء الكرامة، أخذ اسمه ورقمه لفزعة مديرية التشغيل نبحث له عن وظيفة تكرم صبره... لقد اخطأت بحقه فتأخرت عن تلبية حاجته حتى أختفى.
فرغم طاقة المسؤولية الوطنية التي أوكلتها لنفسي بنفسي مُمارسةً مهامي كمحلل سياسي ثم اراقب الوضع كضابط مخابرات مكافحةً كموظفٍ (معثر ) أكتب بالقلب وعلى الورق كحراكي منفعل ومعارض مثقف يخشى على ثوابت الوطن أكثر من نفسه، وموالي خلق من حب الوطن قصة خرافية فاصبحت بعضا من كل شيء اعشق فيه الوطن وكل من يعشقه انتمي للعشق الذي لا يعرف إلا اخلاصا افلاطونيا .
ثم (اشت) أحيانا كعجوز ربت ثلاثة أجيال و لازالت (تهاجن ) عن القمح و الحب منتمية لكل تفاصيل فضاء الوطن كطيار عسكري ، كما أفهم بالسلاح كقائد جيش تتلبسه شخصية وزير الداخلية (يكشر) حسب الموقف فقط.
أرسم دوائر مستمرة حولي أكتب فيها قصص الوطن وهموم قلبه وما يدور في خاطر عقله .
كورونا غيرت شيئا كثيرا في محيا الوطن.
كورونا أطلت بثوب ساحرة تطعن الألم أكثر تضغط على جروح الصبر أكثر .
لكنني أعلم أن العلم الذي يرفرف في سماء مقدسة خصصت بفضل الله له وحده تقيه شر من يلعب بأمنه ومن يزعزع صبره و من يكفر حبه للبساطة والحب والفلافل .
سامحني يا بائع الكنافة ... فلم اذقها من بعدك