وداد أبوشنب تكتب: حبّة سكّر لـ ميرنا حتقوة
بقلم وداد أبوشنب
حين أمسكت كتاب حبة سكّر لصاحبته ميرنا لأوّل وهلة خلته كتابا أنثويا خالصا، خلته كتابَ "باربي" مليئا بأحلام الفراشات، فالعنوان بطاقة أنيقة للدخول إلى عالم بلون الغلاف، أزرقُ سماوي بريء baby blue مشرّب بالبنفسجي الأنثوي في بلورات السكر الشبيهة بقطع الماس، يوميات حبّة سكّر: عنوان يجذبنا بكل رقّة إلى محتواه الذي لا يتعارض نهائيا مع الهندسة الخارجية للمؤلَّف. ويعكس المحتوى -كمقاربة أو مفارقة- النصَ الذي اختارته المبدعة للغلاف الخلفي:
((ما بالكم تهجرون الوسائد
وتتخذون الذكريات مضاجعَ
ترفّقوا بعيون ناعساتٍ
وأجساد نال منهن التعب،
ووجدٍ يسافر في الشرايين
كما رحالةٌ
سبيله الفراقُ!))
الغلاف الخلفي هو خلفية استراتيجية لنهاية حبّة سكرٍ، تذوب تُحلِّي، وتَجْرَح .. وتتلاشى .. فبعد التمرد والقلق يأتي الفراق!! وبالنسبة للصورة المختارة عوضا عن صورة المبدعة، وُضِعت صورة الكتاب، كأنّما تقول: (( هذا الكتاب هو أنا)) تلك هي البطاقة الأولية عن هوية الكتاب.
يندرج هذا الكتاب تحت مسمّى "يوميات" يسري بين دفتيها حلم عاشقة بكلِّ تفاصيله، تسرد فيها أنثى معاناة بطريقة تلقائية خفيفة في شكل حالات لامرأة، من منظورين مختلفين: منظور حوّاء ومنظور آدم.
حبّة سكّر تذوب وتتلاشى وتبقى ذكرى حلاوتها عند من سكنتهم، تلك هي الصورة المُتَخَيَّلَة عند المتلقي لأوّل وهلة، وعند الاصطدام بنص "حبّة سكّر" يسجِّل القارئ دهشة بكامل عناصرها، فحبّة السّكّرِ التي (( تذوب بمنتهى الروقان في أيّ شيء))، حبة السكر تركت ندبة مؤلمة لا علاقة لها بالحلاوة ((أنا جرحتني حبّة السّكر)). تلك هي المفارقة الأولى التي جسدت المعاناة كلها.
الإهداء:
إلى رجل شرب
رحيق امرأة أحبّته .. ثم غادر
هو إهداءٌ معضلةٌ، فيه فلسفة اختصرت معاناة حوّاء عبر الأزمان، وأدانت الرجل الذي لم يستطع أن يفهمها حتى إصدار "حبّة سكّر"! المخاطَب في الكتاب محدَّد لكنه يحيل إلى التعميم، فأين الرجل الذي لم تكن حواؤه مهمشة ولو جزئيا؟ الإهداء أيضا كان محطة دهشة، فكيف لكتاب يوهم القارئ أنه أنثوي، أن يكون إهداؤه لرجل، من هنا بدأت الرسائل ذات الأبعاد الفلسفية تشقّ طريقها إلى نوعية القارئ (المتلقي). فالمتلقي هنا عامٌ، يمثل كلَّ الشرائح لبساطة الخطاب اللّغوي، ولعمق مفهومه، فالمغزى واحد وإن اختلفت سبل التأويل، والمتلقي متنوع جدا.
"الأوراق المعتقة" مجموعةُ ومضاتِ تختصر حالاتٍ مختلفةً، تصدّرت يومياتِ "ميرنا حتقوة"، ولم يكن ذلك عبثيا، فهي تريد أن تفرش طريق الولوج إلى يومياتها الجريئة حينا والمنكسرة حينا آخر، بومضات تُمهِّد للمتلقي استقبالَ المحتوى. إذ إن هي إلاٌ جمل أو أفكار سريعة تعرض بطريقة ذكية تجعل من كل ورقة معتقة عنوانا لنص من اليوميات مثل: ((من يقتلع حزنها لتمنحه حفنة من الياسمين)) تحيل هذه الورقة إلى نص الختام في اليوميات: "وجع معجون بالياسمين" النّص المفارقة الذي كان بمثابة الجواب على تلك الورقة، والجواب معاناة رجل اختلطت بعبق ياسمينة في يده ..
في اليوميات هناك قانون الجزء الذي يسري على الكلّ، كـ "حكايات العين":
كثيرا ما تفضح العيون شيئا من الحكايات المستورة! فالعيون لها صمتٌ لا يتقنه إلاّ من يجيد الكلام!
يوحي النص بأشياء كثيرة مسكوت عنها، في الكتاب وفي المجتمع! ويبقى التكتم قائما إلى أن تفضحه العيون بكلام عميق!!
أيهما أشدّ صدقا؟
ورقة مكتوبة بيد امرأة عاشقة،
أم ورقة بيد رجل عابث؟
لم يتم الإفصاح في النص أعلاه عن الإجابة! والسؤال كان استنكاريا، فورقة العاشقة وإن لم تكن رسمية أشدّ صدقا وأكبر قيمة!!
تعدّدت الرؤى السردية بصورة واضحة جدّا على متن صفحات الكتاب القليلة. جعل ثراءُ الشخصياتِ النّاصةَ تتقمص كلَّ شخصيةٍ حكت قصتَها وحاكت وجعَها عبر استراتيجية التواصل، بطريقة توزيع الضمائر بشكل يستقطب فعلا كلَّ الشرائح، فالمخاطِب رجلُ في العديد من النصوص، والمخاطَب سيّدة، وموضوع الحكاية: بُعدٌ واشتياقٌ ورحيلٌ وتمرّدٌ وتحدٍّ وعتابٌ، هل تلك النصوص رسائلُ من رجلٍ؟ أم هي أمنياتٌ بقيت على مستوى حلم امرأةٍ جسَّدَها وَهْمُ الحرفِ. تعدُّد الرؤى السردية يجعلنا نتنقّل كفراشات بين الأرواح الجميلة التي تسكن شخصيات تلك الأمنيات:
((سيِّدتي
إلى متى سيبقى التمنّع حرفتك؟
إلى متى
سأحاور جدرانا تحتضن عطر حضورك؟
أشيري بطرفٍ خفيٍّ
لمن يبتغي محالا من عينيكِ.))
ويجدر التنويه هنا بنص "مصيبة" وهو اعتراف بانتصار امرأة جاء على لسان رجل، كيف استطاعت الكاتبة أن تتحدث بصوت ذكوري وقلب رجل تعلّقت به أمنيات أنثى؟ كأنما هي روح نزارية لكنها معكوسة!
وتكون الشخصية أحيانا ضمير غائب لتمتص جرأة الطرح وتكسر الطابوهات في "امرأة شتوية":
قال لها: أنت امرأة شتوية ..
لم يأتِ النّص هنا بشكل مباشر كغيره، لم يبدأ بـ ((أنت امرأة شتوية)) بل استعارت الكاتبة شخصية أخرى جعلتها تخاطب تلك المرأة الشتوية على سبيل "الالتفات". وفي نصِّ "وشاح" يتجلى ضمير الغائب خالصا في قولها:
((يكتب لامرأة مختلفة
يعرف أسرارَها كما لو أنَّها فيه!
يشعل نواميس الرغبة في خباياها
ليستفزّ عيونها .. قلبها .. كلّها...))
وتكون الشخصية الساردة -إن صح التعبير- ضميرَ متكلمٍ وهي الأكثر صدقا إذ تجعل الكاتبة تتماهى بكلِّ صراحة وتحرُّرٍ مع حدث وحالة ذلك النّص، مثل في "ميرنانسي" حيث العنوان ذاته يحمل اسمها في شقِّه الأوّل:
امنحني صكّ انعتاقي من قيدكَ
لأحبكَ بحرية ..
لأحبّكَ كأميرة .. لا كأسيرة!
فعيون الحُرِّ تلمع كرامةً لا مهانةً
هات عنك قيدا يدميك ويدميني
وخذ قلبا سيكون لك
مدينة.
وفي نص "مواسم الكرز" رؤية سردية بضمير المتكلم أيضا، حيث تتحرر الناصة تماما وبكل جرأة لتخبر عما تريد وتفصح عن حالة تمثلها دون النساء.
كتاب ذو خطاب بسيط أنيق في متناول الجميع، كلٌّ ينظر إليه بالعين التي تريحه، وبالوجع الذي يضنيه، باختصار إنه كتاب فلاشات أو ومضات لحالات الإنسان، بالـ "عطر" الأنثوي، وبـ"ربطة عنقٍ" رجالية، وكلّ ومضة منها تحمل أيقونات ذات عمق فلسفي يتجذر من نقطة الفكرة البسيطة التي انطلق منها.
سكّراتك يا ميرنا حلوة رغم لسعة المرار...