المحكمة الدولية في مقتل الحريري
منذ اللحظات الأولى للانفجار المروع الذي استهدف موكب رفيق الحريري رئيس وزراء لبنان؛ كان الاتهام السياسي محسوماً باتجاه سورية وحزب الله وتعالت الدعوات من فريق 14 آذار لتشكيل لجنة تحقيق دولية لعدم الثقة بالقضاء اللبناني وتطورت للمطالبة بمحكمة دولية، وهو ما تحقق في العام 2009 بدعم أميركي فرنسي سعودي.
انتظر لبنان خمسة عشر عاماً لصدور الحكم يوم الثلاثاء الماضي، كان الانقسام اللبناني حاضراً خلالها على وقع الاغتيال، اتهمت المحكمة بالتسييس من الفريق المتهم بتنفيذ الاغتيال بينما كان الفريق الآخر مصرا على أن الجريمة تمت بقرار من دمشق وحزب الله والمنظومة الأمنية في تلك الفترة.
في الجلسة الأولى قدمت المحكمة معطيات أقرب للتحليل السياسي للمناخ السائد في تلك الفترة بعد صدور القرار 1559 بدعم فرنسي وبتوافق مع الحريري حول نزع أسلحة الفصائل، بما فيها حزب الله وخروج القوات السورية.
التوصيف عزز فرضية توجيه اتهام لأفراد من حزب الله من دون إدانة الحزب أو القوات السورية مباشرة، ولكن الاتهام السياسي كان ضمنياً من خلال الإشارة لأصحاب المصلحة المباشرة في مقتل الحريري حسب رأي المحكمة، وهو ما يرفضه حزب الله قطعياً.
عدم الإدانة المباشرة للحزب وسورية شكل مفاجأة صادمة لفريق 14 آذار وسحب منهم الذريعة التي حملوها طيلة تلك الأعوام من تحميل المسؤولية السياسية والجنائية لحزب الله وسورية، هذا يعني أنهم خسروا ورقة ضغط حملوها طوال هذه الفترة ولكنهم سيستمرون في استثمارها من خلال مطالبتهم حزب الله بتسليم المتهم الوحيد.
المحكمة اعتمدت بشكل كامل على بيانات الاتصالات الهاتفية وتحليلها جغرافيا؛ خلصت لاتهام شخص واحد ينتمي لحزب الله هو سليم جميل عياش باعتباره «مذنبا وشريكا في المؤامرة» وبرأت الأربعة الآخرين المتهمين لعدم وجود أدلة، لكنها تركت عناصر رئيسية في الجريمة بلا جواب قاطع، من هو الانتحاري الذي فجر نفسه بما أنها مصرة على أنه ليس أبوعدس الذي تبنى العملية في شريط الجزيرة الشهير ومن الذي اشترى سيارة الميتسوبيشي ومن اشترى الهواتف الخلوية.
من المبكر الحكم على القرار وتداعياته لبنانياً؛ لكن علينا أن نتذكر أن مياهاً كثيرة سالت خلال هذه الأعوام الطويلة؛ سورية غادرت لبنان وبعد أزمتها الداخلية صار الملف اللبناني خلفها، حزب الله محاصر مالياً وحليفه الأساسي إيران يترنح بين العقوبات وكورونا، إمبراطورية سعد الحريري المالية تراجعت كثيراً ولم يعد خياراً سعودياً وحيداً كزعامة سنية بل خرج من ينافسه بشدة من حلفائه كأشرف ريفي ونجيب ميقاتي ومن زعماء الطوائف الأخرى كسمير جعجع وجنبلاط ولديهم نفوذ أكبر لدى الرياض، مسرح الأحداث نفسه؛ لبنان يمر بأزمة اقتصادية غير مسبوقة فاقمها انفجار كارثي بميناء بيروت دمر نصف العاصمة.
قراءة الحكم الذي صدر الثلاثاء الماضي مستحيلة خارج السياقات والتحولات الكبيرة التي تعيشها المنطقة، لبنان كان ساحة للتصفيات الإقليمية لكنه اليوم أكثر كلفة على الجميع بفعل تعقيدات تركيبته فصار من الضروري أن تتغير المعادلة باتجاه الذهاب مباشرة لتحالفات بين أطراف عربية وإقليمية، بما فيها الانخراط في التطبيع، القوى الإقليمية الثلاثة؛ إيران ودولة الاحتلال وتركيا، حاضرة في المشهد اللبناني الذي اكتمل باستغلال الأخيرة انفجار الميناء والتدخل مباشرة في منافسة مع الفرنسيين والإيرانيين واستغلال تراجع الحضور العربي.
ثمة صفقة ما ربما تكون أفضت لهذا القرار قد لا تكون واشنطن وباريس بعيدة عنها، ولكن لبنان انتظر طويلاً وتكلف مليار دولار ليؤكد حقيقة أن الآخرين هم من يقرر مصيره.
الغد