محمد ومفاهيم العصر
مدار الساعة ـ نشر في 2016/12/11 الساعة 01:55
بلال حسن التل
حقوق الإنسان... التعددية... المواطنة... الدولة المدنية... سيادة القانون مفاهيم يعتقد كثير من الناس أنها مفاهيم عصرية توصل إليها الغربيون، ثم مارسوها وصاروا يصدرونها إلى الآخرين ونحن منهم، غير أن المرء لا يحتاج إلى كبير عناء بالتأمل في سيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نحيي هذه الأيام «ذكرى مولده» حتى يكتشف أنه عليه السلام بشرى بكل هذه المفاهيم وأكثر منها، ومارسها على أرض الواقع، وأولها مفهوم حقوق الإنسان التي فصلها في سيرته وسنته القولية والعملية ، وأول هذه الحقوق حق الحياة وهو حق أصيل من حقوق الإنسان التي عظمها الإسلام، وجعل الحفاظ عليه من المقاصد الخمسة الأساسية للشريعة الإسلامية وجعل الاعتداء على حياة فرد واحد يساوي الاعتداء على البشرية كلها لقوله تعالى « من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».
وارتباطا بحق الحياة كفل الإسلام للإنسان حق الكرامة، فكرامة الإنسان في الإسلام حق أصيل خُلق معه لقوله تعالى» ولقد كرمنا بني آدم» وقد فصل فقهاء الإسلام أبوابا في الحفاظ على كرامة الإنسان، إلى الدرجة التي حرموا بها ضرب الإنسان على وجهه، حتى عند معاقبته، لأن وجه الإنسان عنوان كرامته التي لا يجوز أن تهان.
وارتباطا بحقي الحياة والكرامة كفل الإسلام للإنسان حقوقا تحفظ له الحياة الكريمة في طليعتها الأمن بكل أنواعه المادية والمعنوية، والآيات القرآنية التي تتحدث عن حق الإنسان بالأمن، وبنعمة الله عليه بالأمن كثيرة، وكثيرة هي الأحكام الفقهية في الإسلام التي فصلت سبل توفير الأمن للإنسان.
ومن حقوق الإنسان الأساسية التي كفلها الإسلام حقه في السكن، وحقه في التعليم، وقبل ذلك كله حقه في المساواة مع سائر البشر، وهو حق لا يقبل جدالاً في التصور الإسلامي، القائم على أن الناس سواسية كأسنان المشط وفق الحديث النبوي الذي ختمه عليه السلام بقوله «لا خير في صحبة من لا يرى لك الحق مثل ما ترى له» وهذه المساواة تشمل كل أعراق البشر وألوانهم وأجناسهم وهو ما فصله رسول الله بوضوح في أكثر من ممارسة وأكثر من نص، مثل قوله «الناس كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى» ولقد بنيت المساواة بين البشر في الإسلام على أساس صلب هو وحدة الأصل البشري، الذي خرج منه كل الناس، وهو ما أكدته أكثر من آية قرآنية منها قوله تعالى» يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء»
وارتباطاً بمبدأ المساواة بين الناس، كحق راسخ من حقوق الإنسان، حفظ الإسلام للإنسان حقه في حريته الشخصية، المرتبطة بمسؤوليته عن قراره الذي يتخذه بملِ إرادته، بما في ذلك حقه في اختيار معتقده لقوله تعالى:» لاإكراه في الدين».
كثيرة هي مفردات حقوق الإنسان التي بشر بها محمد عليه السلام، سابقا بها أهل هذا العصر ومفاهيمهم، حول حقوق الإنسان، مثلما سبقهم عليه السلام في بناء مفهوم دولة القانون وسيادته، فانطلاقا من مبدأ المساواة بين الناس، وحقهم في الحياة الآمنة رسخ رسول الله عليه السلام مبدأ سيادة القانون، وأقام دولتها، فاستمراراً لقاعدة الناس متساوون كأسنان المشط وضع عليه السلام قاعدة القصاص على كل مخطئ مهما كانت درجته الاجتماعية، محذراً من عدم تطبيق القانون على الجميع، بقوله عليه السلام:» إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» بل لقد وصل عليه السلام في التأكيد على دولة القانون إلى درجة أنه أقسم على إقامته على أحب خلق الله على قلبه ابنته فاطمة عندما قال :» والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وانطلاقاً من مبدأ سيادة القانون كان عليه السلام حريصاً على أن يصل كل صاحب حق إلى حقه بصرف النظر عن مكانته أو إمكانياته، وهكذا بنى المسلمون الأوائل دولة القانون، التي مكنت قائدها من النوم مطمئناً دون أن يخاف أحد من رعيته، وهو ما لخصه الهرمزان عندما رأى الفاروق عمر ينام دون حرس فقال:»حكمت فعدلت فأمنت فنمت» فهذه هي دولة القانون وسيادته التي بناها محمد قبل قرون من بدء الحديث عنها في الغرب وغيره.
وارتباطاً بدولة القانون حقق الإسلام مبكراً مفهوم المواطنة والدولة المدنية في واقع الناس، ففور وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، واستلامه لزمام الأمر فيها، وضع وثيقة المدينة التي تعتبر أول دستور مدني مكتوب في التاريخ بنى العلاقة فيها بين الناس على أساس المواطنة، والتساوي في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم، وهذا يقودنا إلى مفهوم آخر من المفاهيم التي سبق بها نبينا هذا العصر وأهله، إضافة إلى الدولة المدنية القائمة على المواطنة التي أقامها عليه السلام في المدينة، أعني به مفهوم التعددية، فقد أقام عليه السلام دولته الأولى على أساس التعددية الدينية، فظل المشركون في المدينة على شركهم واليهود على يهوديتهم، والمسيحيون على مسيحيتهم، على قاعدة لا إكراه في الدين.
ومثل التعددية في المعتقد، أقام عليه السلام دولته على أساس التعددية العرقية فصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وسلمان سابق الفرس، وكلهم سواء في دولة المواطنة التي أقامها عليه السلام، وحفظ لكل مواطن حقه في المشاركة وأبداء الرأي على قاعدة «أمرهم شورى بينهم» فأين أهل هذا العصر ومفاهيمهم من تجربة رسولنا، الذي نحتفل هذه الأيام بذكرى مولده في بناء الدولة المدنية وترسيخ حقوق الإنسان، التي تحولت في هذا العصر إلى مجرد شعارات بعد أن جعلها محمد واقعاً يعيشه الناس.
المصدر: الرأي
حقوق الإنسان... التعددية... المواطنة... الدولة المدنية... سيادة القانون مفاهيم يعتقد كثير من الناس أنها مفاهيم عصرية توصل إليها الغربيون، ثم مارسوها وصاروا يصدرونها إلى الآخرين ونحن منهم، غير أن المرء لا يحتاج إلى كبير عناء بالتأمل في سيرة رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نحيي هذه الأيام «ذكرى مولده» حتى يكتشف أنه عليه السلام بشرى بكل هذه المفاهيم وأكثر منها، ومارسها على أرض الواقع، وأولها مفهوم حقوق الإنسان التي فصلها في سيرته وسنته القولية والعملية ، وأول هذه الحقوق حق الحياة وهو حق أصيل من حقوق الإنسان التي عظمها الإسلام، وجعل الحفاظ عليه من المقاصد الخمسة الأساسية للشريعة الإسلامية وجعل الاعتداء على حياة فرد واحد يساوي الاعتداء على البشرية كلها لقوله تعالى « من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا».
وارتباطا بحق الحياة كفل الإسلام للإنسان حق الكرامة، فكرامة الإنسان في الإسلام حق أصيل خُلق معه لقوله تعالى» ولقد كرمنا بني آدم» وقد فصل فقهاء الإسلام أبوابا في الحفاظ على كرامة الإنسان، إلى الدرجة التي حرموا بها ضرب الإنسان على وجهه، حتى عند معاقبته، لأن وجه الإنسان عنوان كرامته التي لا يجوز أن تهان.
وارتباطا بحقي الحياة والكرامة كفل الإسلام للإنسان حقوقا تحفظ له الحياة الكريمة في طليعتها الأمن بكل أنواعه المادية والمعنوية، والآيات القرآنية التي تتحدث عن حق الإنسان بالأمن، وبنعمة الله عليه بالأمن كثيرة، وكثيرة هي الأحكام الفقهية في الإسلام التي فصلت سبل توفير الأمن للإنسان.
ومن حقوق الإنسان الأساسية التي كفلها الإسلام حقه في السكن، وحقه في التعليم، وقبل ذلك كله حقه في المساواة مع سائر البشر، وهو حق لا يقبل جدالاً في التصور الإسلامي، القائم على أن الناس سواسية كأسنان المشط وفق الحديث النبوي الذي ختمه عليه السلام بقوله «لا خير في صحبة من لا يرى لك الحق مثل ما ترى له» وهذه المساواة تشمل كل أعراق البشر وألوانهم وأجناسهم وهو ما فصله رسول الله بوضوح في أكثر من ممارسة وأكثر من نص، مثل قوله «الناس كأسنان المشط الواحد لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر إلا بالتقوى» ولقد بنيت المساواة بين البشر في الإسلام على أساس صلب هو وحدة الأصل البشري، الذي خرج منه كل الناس، وهو ما أكدته أكثر من آية قرآنية منها قوله تعالى» يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء»
وارتباطاً بمبدأ المساواة بين الناس، كحق راسخ من حقوق الإنسان، حفظ الإسلام للإنسان حقه في حريته الشخصية، المرتبطة بمسؤوليته عن قراره الذي يتخذه بملِ إرادته، بما في ذلك حقه في اختيار معتقده لقوله تعالى:» لاإكراه في الدين».
كثيرة هي مفردات حقوق الإنسان التي بشر بها محمد عليه السلام، سابقا بها أهل هذا العصر ومفاهيمهم، حول حقوق الإنسان، مثلما سبقهم عليه السلام في بناء مفهوم دولة القانون وسيادته، فانطلاقا من مبدأ المساواة بين الناس، وحقهم في الحياة الآمنة رسخ رسول الله عليه السلام مبدأ سيادة القانون، وأقام دولتها، فاستمراراً لقاعدة الناس متساوون كأسنان المشط وضع عليه السلام قاعدة القصاص على كل مخطئ مهما كانت درجته الاجتماعية، محذراً من عدم تطبيق القانون على الجميع، بقوله عليه السلام:» إنما أهلك من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد» بل لقد وصل عليه السلام في التأكيد على دولة القانون إلى درجة أنه أقسم على إقامته على أحب خلق الله على قلبه ابنته فاطمة عندما قال :» والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها» وانطلاقاً من مبدأ سيادة القانون كان عليه السلام حريصاً على أن يصل كل صاحب حق إلى حقه بصرف النظر عن مكانته أو إمكانياته، وهكذا بنى المسلمون الأوائل دولة القانون، التي مكنت قائدها من النوم مطمئناً دون أن يخاف أحد من رعيته، وهو ما لخصه الهرمزان عندما رأى الفاروق عمر ينام دون حرس فقال:»حكمت فعدلت فأمنت فنمت» فهذه هي دولة القانون وسيادته التي بناها محمد قبل قرون من بدء الحديث عنها في الغرب وغيره.
وارتباطاً بدولة القانون حقق الإسلام مبكراً مفهوم المواطنة والدولة المدنية في واقع الناس، ففور وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة، واستلامه لزمام الأمر فيها، وضع وثيقة المدينة التي تعتبر أول دستور مدني مكتوب في التاريخ بنى العلاقة فيها بين الناس على أساس المواطنة، والتساوي في الحقوق والواجبات، بصرف النظر عن دينهم أو عرقهم، وهذا يقودنا إلى مفهوم آخر من المفاهيم التي سبق بها نبينا هذا العصر وأهله، إضافة إلى الدولة المدنية القائمة على المواطنة التي أقامها عليه السلام في المدينة، أعني به مفهوم التعددية، فقد أقام عليه السلام دولته الأولى على أساس التعددية الدينية، فظل المشركون في المدينة على شركهم واليهود على يهوديتهم، والمسيحيون على مسيحيتهم، على قاعدة لا إكراه في الدين.
ومثل التعددية في المعتقد، أقام عليه السلام دولته على أساس التعددية العرقية فصهيب سابق الروم، وبلال سابق الحبش، وسلمان سابق الفرس، وكلهم سواء في دولة المواطنة التي أقامها عليه السلام، وحفظ لكل مواطن حقه في المشاركة وأبداء الرأي على قاعدة «أمرهم شورى بينهم» فأين أهل هذا العصر ومفاهيمهم من تجربة رسولنا، الذي نحتفل هذه الأيام بذكرى مولده في بناء الدولة المدنية وترسيخ حقوق الإنسان، التي تحولت في هذا العصر إلى مجرد شعارات بعد أن جعلها محمد واقعاً يعيشه الناس.
المصدر: الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2016/12/11 الساعة 01:55