التعليم في الأردن.. البحث عن نموذج قياسي
د. مأمون نورالدين
بدايةً، إن إعتماد نموذج قياسي لا يعني بالضرورة مبدأ النسخ فالجميع يعي أن لكل دولة معطيات تختلف عن الأخرى فيما يتعلّق في عملية التعليم، لكن بإعتماد نموذج قياسي قد نتمكن من إختصار الوقت والوصول في وقت أسرع إلى ما نصبو إليه. جلالة الملك وفي ورقته النقاشية السابعة سلّط الضوء على جوهرية إصلاح منظومة التعليم كجزء من عملية الإصلاح الشامل، وقد وضّح بالخطوط العريضة ما نحتاج إليه للوصول إلى النظام التعليمي الحديث الباني لطاقاتنا البشرية التي نحتاج.
لمّا بدأ الإزدهار الإقتصادي لدولة سنغافورة في ثمانينيات القرن الماضي، أدرك أصحاب القرار الحاجة للإنتقال من نظام تعليمي كمّي إلى نظام تعليمي نوعي، حيث تمّ حينها إعادة تنظيم العملية التعليمية حسب متطلبات تلك المرحلة. إلّا أن النقلة النوعية في مجال التعليم لم تتوقف هناك، بل تمّ تطويرها مع المتطلبات المتنامية للدولة حتّى الوصول إلى النظام الحالي الملائم لطموح الدولة للقرن الواحد والعشرون. لقد صمّم أصحاب القرار النظام التعليمي لسنغافورة ليكون ثابتاً في الهدف مرناً في المضمون، حتّى يتم الإستفادة من طاقات الطلّاب الإبداعية بعيداً عن سياسة التلقين التي حذّر منها جلالة الملك في ورقته النقاشية الأخيرة. أدرك المصممون للنظام أن النهوض في التعليم هي عملية مستمرة لا تنتهي، وأنّها ترتكز على تعاضد كافة أركانها دون إستثناء، فالخلل في أحدها يحدث الخلل في النظام كاملاً، وقد لخصّوا ذلك بالعمل على سياسة «كل مدرسة هي مدرسة جيدة». وهنا لم يكن المعنى توحيد شكل المدارس ولا تفاصيل غرفها الصفية، إلّا أن الغاية هي تحقيق الهدف السامي بإعطاء كل طالب نفس الفرصة لتلقي التعليم النوعي الجيّد وتعظيم إمكاناته. هذه الفرصة لن تتوافر للطالب إلّا إذا حظي أولاً بمعلم كفؤ مؤهّل ومبدع، والأهم من ذلك أن يكون معدّاً جيّداً ليصبح قادراً على إستخراج أفضل الموجود لدى طلابه. وثانياً، أهالي مشجعين لميول أبنائهم الإبداعية، لا موجّهين لهم حسبما تشتهي رغباتهم. وثالثاً، مدرسة نموذجية مجهزة على مستوى راحة الطالب الجسدية واحتياجاته العلمية في آن واحد. ورابعاً وأخيراً، مؤسسات مجتمع مدني حاضنة للمبدعين متبنيّة لهم لغرض توظيف طاقاتهم الإبداعية لخدمة الصالح العام.
بإختصار، فإن إستراتيجية التعليم السنغافورية مبنيّة على ثلاث مراحل تبدأ من المرحلة الإعدادية والتي تكون لمدة ست سنوات، وفيها يكون نواة العملية هو إعداد الطلّاب وطنياً لمعرفة وحب وطنهم وغرز القيم الثمينة فيهم، إضافة إلى إعدادهم جسدياً وصقل شخصياتهم. وفي المحور الثاني يتمّ تعريفهم وتدريبهم على العمل الجماعي ومهارات المعرفة. وفي المحور الثالث يكون هنالك المناهج المتعلّقة بالرياضيات والعلوم من جانب واللغات (اللغة الأم واللغة الإنجليزية) من جانب، والفنون والآداب من جانب آخر. بعد ست سنوات يتقّدم الطلاب لإمتحان «ترك المدرسة الإعدادية» وفيه تفحص معرفة الطالب في اللغات والرياضيات والعلوم فقط، لينتقل الناجح بعدها إلى المرحلة الثانوية والتي فيها يبدأ الطلاب إختيار «مسارهم التعليمي» الذي سيتحوّل مستقبلاً إلى «المسار العملي»، يختار الطالب مساره المفضل إمّا «الأكاديمي» أو «التقني» في مرحلة دراسية تمتد لأربع سنوات يختتمها بإمتحان يؤهّله للإنتقال إلى المرحلة الثالثة (مرحلة ما بعد الثانوية) ليكمل فيها تعليمه إمّا في مؤسسات التعليم التقني أو في «كليّات صغيرة» يدرس فيها لمدّة سنتين إلى ثلاثة حتّى تفتح له أبواب الجامعات إن إحتاج إكمال تعليمه. قد يبدو النظام دقيقاً، إلّا أن هذا ما نحتاجه بالفعل في أردننا الحبيب. فخلاصة نظام التعليم السنغافوري هو فلترة مخرجات التعليم لسدّ الفجوات في سوق العمل المحلي وإحتياجاته، والأهم من ذلك هو تزويده بكفاءات إختارت تخصصاتها بإرادتها وبناءَ على ميولها ورغباتها وقدراتها.
نحن لا نطمح لرؤية ثابتة للتعليم لقرن قادم، فاستراتيجية ثابتة عابرة للحكومات حتّى إنجاز الهدف تكفينا. هناك فجوات في سوق العمل لدينا، ولن يملؤها إلّا نظام تعليمي حديث يفرز لنا كفاءات مهنية وتقنية تسدّ إحتياجاتنا وتخفّف إعتمادنا على العمالة الوافدة. والأهمّ هو تقليص نسبة البطالة التي وصلت أرقاما غير مسبوقة نتيجة لعدّة عوامل، أحد أهمها هو عشوائية مخرجات التعليم العالي التي أدّت إلى تكدّس كفاءات تزيد عن حاجاتنا في سوق العمل، وعلى سبيل المثال لا الحصر التخصصات الهندسية.
الرأي