مدير آثار المفرق السابق عبدالقادر الحصان يكتب: هذه قصة شجرة البقاعوية – البقيعاوية المباركة التي استظل أسفلها الرسول محمد
الباحث الأكاديمي ومدير آثار محافظه المفرق السابق د. عبدالقادر الحصان يكتب:
شجرة البقاعوية – البقيعاوية ( قصة الشجرة المباركة المعمرة التي استظل أسفلها الرسول الكريم صلى الله عليه وأله وسلم)
مدار الساعة - هي عبارة عن اسم منطقة سهلية خصبة وفسيحة واسعة من الأراضي المنخفضة الواطئة، ومن هنا جاء الاسم المحلي المتداول حسب الذاكرة المحلية الوطنية عبر الأجيال المتعاقبة، وهي في وسط البادية الشمالية الشرقية من محافظة المفرق ضمن الحرة الشامية الحورانية، ضمن قضاء الصفاوي (إجفيف) سابقا وهي المحطة الخامسة على طريق خط شركة بترول نفط العراق القادم من كركوك إلى حيفا سابقا وخط التابلاين القادم من السعودية إلى صيدا – لبنان لاحقا.
وتقع الشجرة المباركة إلى الجنوب الشرقي من الصفاوي على بعد 15 كم على الطريق الذاهب إلى الأزرق، علما بأن الصفاوي تبعد عن المفرق 90كم ، وتبعد عن العاصمة عمان 215كم باتجاه شمال – شرق على الطريق الدولي الواصل لبغداد – العراق عبر بلدة الأزرق – الصفاوي.
وقد كانت المنطقة وعبر العصور القديمة مرتعاً هاماً للحضارات الإنسانية المتعاقبة منذ القدم ، و ذلك لتوافر المياه المتجمعة من مياه الأمطار عبر الأودية و الشعاب العديدة المحيطة بالموقع من جهتي الشمال و الغرب و الشرق و خاصة وادي راجل ، و كذلك لتربتها الخصبة الغرينية الحمراء، ولموقعها الهام الذي يتوسط الطريق التجاري المتشعب نحو وادي السرحان وبصرى الشام والشبيكة وجاوا و قصر برقع ، وقد تم الكشف عن العديد من المواقع الأثرية العائدة إلى عصور متعددة و منذ العصور الحجرية الحديثة و صولا إلى العصور البرونزية بكافة مراحلها و الحديدية على السواء ، وصولا إلى العصور الكلاسيكية : النبطية، الرومانية، البيزنطية و حضارة القبائل الثمودية و الصفائية العربية الوثنية ، وحتى العصور العربية الإسلامية : الأموية ، العباسية، الأيوبية – المملوكية و حتى العثمانية على طريق الحج الداخلي و صولا للوقت الراهن في العصر الحديث.
وذلك لوقوعها كما أسلفت ضمن الطريق الحيوي التجاري القديم المحاذي لوادي راجل العملاق والذي كان في العصور الغابرة نهرا دائم الجريان وقد بقيت لوقت قريب الكثير من عيون المياه التي نضبت حديثا مثل عيون جاوا والأزرق و غيرها كثير .كما أن روافد وادي راجل العديدة و التي تصب في بحيرة الأزرق كانت على جوانبها الكثير من المحطات التجارية الاستراحات مثل : غدير الملاح، القطافيات، مقطع ذيل الفرس، البقاعوية، الشبيكة ووادي سلمى، وهذا الطريق القادم عبر وادي السرحان من الحجاز واليمن والمسمى قديما: بطريق الملح و طريق البخور و لاحقا طريق ذيوكلتيانوس الروماني و بعده طريق الحج الداخلي في العصور الإسلامية المتعددة.
و من أهم المعالم الحضارية و الطبيعية الدينية والثقافية الموجودة في الموقع الهام والمهم هو : شجرة البقاعوية – البقيعوية المشهورة المعمرة منذ مئات السنين و هي بحق معجزة إلهية خالدة عبر العصور التاريخية ،و هي شجرة ضخمة مخضرة صيفا و نفضية شتاء و هي غير مثمرة لأنها تنتمي إلى فصيلة البطم الأطلسي المذكر غير المثمر، ويربو عمرها على 1470 سنة من الآن ، ومن خلال الدراسات العلمية الميدانية و المراجع التاريخية و كذلك الذاكرة الجمعية للمجتمعات المحلية البدوية عبر التاريخ اتضح للباحث و منذ العام 1986م و هي المرة الأولى التي أظهرت للعيان و كتب عنها في صحيفة صوت الشعب آن ذاك الباحث الحصان و هو الذي روج لها منذ ذلك الحين عبر جهات متعددة في الدلالة السياحية و كذلك بالتعاون مع وزارة الوقاف عندما كان مديرا لأثار محافظة المفرق.
و ذلك بأنها الشجرة المباركة التي أستظل بها سيد البشرية رسول الله محمد بن عبدالله صلى الله عليه وأله وسلم عندما كان طفلا يافعا وأثناء قدومه إلى بلاد الشام في رحلة تجارة قريش مع عمه أبو طالب إلى بصرى الشام عاصمة الولاية العربية عاصمة الغساسنة العرب المسيحيين المتحالفين مع بيزنطة الرومانية.
و لم يبلغ عمره الشريف عند ذاك عشرة أعوام و ذلك ضمن قافلة قريش التجارية الثرية و التي ذكرت في القرآن الكريم ضمن سورة قريش . ( لإيلاف قريش إيلا فهم رحلة الشتاء و الصيف ) صدق الله العظيم ،الآية رقم ( 1) و رقم السورة ( 106) و كانت رحلة قريش شتاء إلى بلاد الشام و صيفا إلى بلاد اليمن السعيد ، و من المعتقد جازما أن يكون الراهب بحيرى قد شاهد والتقى سيدنا محمد أثناء رحلته الأولى في هذا المكان المبارك قبل و صوله إلى مدينة بصرى الشام ، علما بأن الرهبان المسيحيون و خاصة النساطرة منهم كانوا يتجولون في البادية بعيدا عن أعين المتابعة و الملاحقة للاضطهاد البيزنطي الأرثوذكسي ، و في ذلك الأثناء يكون قد رأى غبطة الراهب بحيرة سحابة تظل الرسول صلى الله عليه وأله و سلم دون بقية القافلة و هو صبي لم يتجاوز العاشرة من عمره الشريف كما أسلفت ، وبعدها رأى شجرة مخضرة تحنو عليه بأغصانها بحنان ليستظل بها من حر البادية الشديد ، فعلم عندئذ أنه النبي المنتظر و المبشر به عندهم ، فأخبر عمه أبو طالب بضرورة العودة إلى الحجاز و عدم ذهابه إلى بصرى الشام أو دمشق خوفا عليه من اليهود لأنه هو النبي الموعود عليه أفضل الصلاة و التسليم .
هذا و قد مر الرسول مرة أخرى على الشجرة أثناء رحلته الثانية عندما كان ضمن تجارة قريش في تجارة سيدتنا أم المؤمنين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وأرضاها و ذلك قبل البعثة النبوية الشريفة بخمسة عشر سنة و كان عمره الشريف آن ذاك 25 سنة .
وأرى أن العناية الإلهية هي التي حفظت هذه الشجرة الطيبة المباركة عبر هذه السنوات الطويلة و القاسية ضمن بيئة برية قاسية الظروف مع قلة الأمطار و الرطوبة الجوية ، و كذلك عبر عوامل الطبيعة المتقلبة الجائرة و عوامل الصراع البشري الجائر مع الإنسان و الطبيعة على السواء ، و قد بقيت سليمة مخضرة شاهدة على حادثة تاريخية خالدة عبر العصور و رحلة الزمن إلى أن يشاء الله .
و هي بحق من أهم المعالم الدينية الإسلامية في محافظة المفرق خاصة والأردن عامة ، و من الجدير ذكره أن البقعة الموجودة فيها تستجلب مياه الأمطار عبر الأودية و الشعاب المحيطة بالموقع لتبقى في المرب حول الشجرة لمدة ثلاثة أشهر بعد موسم الشتاء من كل عام ولكنني أخاف على الموقع من تسويره حديثا كي لا يكون مانعا للمياه الدافقة من الأودية القريبة التي تصب في القاع و المرب عبر السنوات المطيرة من كل عام .
هذا و قد تم رصد الكثير من المواقع الأثرية حول الموقع من جهاته الأربع على التلال و الخشعات المحيطة و خاصة على الطريق التجاري القديم أنف الذكر ، إلى الشرق من الشجرة على بعد ثلاثة كيلو مترات يوجد موقع هام فيه مسجد و نقوش إسلامية و صفائية وسريانية متعددة و صلبان حورانية مسيحية و هي خاصة بالسريان المحليين ، و هذا دليل واضح يؤكد و جود الرهبان المسيحيين النساطرة و اللذين كانوا يعتمدون الكتابة السريانية و ليست اليونانية عكس الأرثوذوكس ، وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر نقشين هامين يذكران الترحم على كل من : قيانوس و ديقيانوس أبناء عبدالله مع مناظر لثورين يجران محراثا .
ويتشاطر الموقع القداسة و المباركة من قبل كل السكان المحليين عبر العصور مع مواقع إسلامية هامة مشابهة من حيث و جود أشجار بطم معمرة حول مقامات إسلامية عديدة مثل : شجرات أبو عياد ( عياط ) و شجرات المهيني و شجرة الصبيحية وشجرات خطلة، وهي اشجار بطم مثمرة و معمرة مخضرة صيفا و نفضية شتاء و هي بعكس شجرة البقاعوية البطم المذكرة التي لا تنتج ثمار على هيئة حبوب تؤكل بعد تجفيفها و تستخدم في المولد النبوي الشريف في قديم الأيام و لم يعد لها ذكر الآن للأسف الشديد وهي باقية في الذاكرة الوطنية و ضمن التراث الدينية الموروث .و في معظمها تعود إلى مئات السنين و يرجح ان تكون عباسية مبكرة من خلال المقابر المحيطة بها و النقوش و المساجد الأثرية أيضاً.
ومن أهم العادات المتبعة عبر الأجيال من قبل السكان المحليين : ذبح الأضاحي و التقدمات و توزيعها على الفقراء ، زيارة الشجرات وتعليق شيء من الملابس والتمائم وعبر ضمرهم للفأل الحسن مدعما بالدعاء و تيمنا بالقبول الجميل الحسن من الله عز و جل ودفن أمواتهم حول تلكم المقامات تيمنا بالرحمة و المغفرة مع الأولياء الصالحين ، هذا وقد زالت هذه العادات منذ عقدين من الزمان عند الأجيال الحالية و بقيت جزء من الذاكرة و الطقوس البائدة المحفوظة عند الباحثين وفي الذاكرة الجمعية للمواطنين على السواء.
و تعد شجرة البقاعوية من أهم المعالم الإسلامية ذات البعد السياحي و الديني الثقافي و التي تزار من قبل الكثير من المسلمين خاصة والناس عموما و خاصة العرب و الماليزيين والأتراك و غيرهم كثير ، و نعمل نحن في جمعية أصدقاء الأثار و التراث الشعبي في محافظة المفرق وكل الجهات ذات الاهتمام المباشر بترويج الموقع سياحيا و دينيا ثقافيا وعلميا و نشر الوعي للحفاظ على الموقع وبيئته كافه دونما استثناء علما بأن الموقع يزخر بالنباتات البرية العلاجية الهامة مثل : الزعتر البري، القيصوم ،الشيح ، الجرجير، البابونج والكزبرة البرية و الجعدة و غيرها كثير.
هذا وقد بارك جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين المعظم هذا الموقع من حيث القدسية الدينية والاعتراف به معلما دينيا حضاريا معتمدا من لدن جلالته ضمن المعالم الدينية الحضارية الهامة في أردننا الحبيب وضرورة ترويجه سياحيا دينيا على مستوى الأردن والوطن العربي والعالم الإسلامي والعالم أجمع، وتم وضعه من قبل جلالته ضمن الأضرحة والمقامات الإسلامية التي تزار وتم تعيين سمو الأمير هاشم بن الحسين على رأس اللجنة الملكية التي تعنى بتلكم المقامات والأضرحة الشريفة في الأردن كافة وسيكون لنا تواصل مثمر قريب إن شاء الله مع اللجنة الكريمة لما فيه خير آثارنا وتراثنا الماجدين عبر العصور الإسلامية المتعاقبة.