محمد حسن التل يكتب: الصحافة الأردنية والطعن في الظهر!
كتب: محـمد حسـن التـل
ظلت صحيفتا الرأي والدستور جزءاً من مدارات الدولة الأردنية على امتداد نصف قرن، وما زالتا تحاولان البقاء في موقعهما رغم الأزمات المالية التي تكاد تعصف بهما منذ أعوام عدة، ثم دخلت صحيفة الغد قبل خمسة عشرعاما لتشكل نوعية جديدة متميزة في الصحافة الأردنيه، ولكن للأسف طالها نصيبها من الأزمة المالية التي تعصف في الصحافة الورقية، وبقيت صحيفتا الدستور والرأي مؤسستين مستقلتين وشركتين خاصتين حتى نهايات العقد الثامن من القرن الماضي، حيث تم تحويلهما الى شركات مساهة عامه، ودخل الضمان الاجتماعي كمالك الجزء الأكبر من أسهم هاتين الشركتين الجديدتين.
وللإنصاف فإن الضمان لم يتدخل أبدا في سياسات التحرير أو الإدارات لعدة عقود حيث كانت هاتان الشركتان من الشركات الكبرى في الأردن تسجلان أرباحا كبيرة، وكان يعتلي سدة الإدارات في هده الصحف أسماء وطنية كبيرة، كالأساتذة المرحومين جمعه حماد ومحمود الشريف وكامل الشريف وحسن التل ومحمود الكايد ومحمد العمد وأسماء كبيرة أخرى، (وهنا أتحدث عن إدارات ولا أتحدث عن رؤساء تحرير)، وكان الضمان يرسل أيضا شخصيات اقتصادية وسياسية وازنة لتمثيله في مجالس الادارات، لأن النظرة لهاتين المؤسستين في عقل الدولة كانت مختلفة.
وفي المنتصف الثاني من العقد الماضي بدأت هذه المؤسسات تواجه ارتباكا اقتصاديا نتيجة تراجع الاعلان التجاري ووجود الاعلام الالكتروني الذي وفر لأصحاب هذا الاعلان ميزات لا تستطيع الصحافة اليومية أن تقدمها، كما بدأت مبيعات الصحف بالتراجع، واستمرت الأزمة في التراكم حتى وصلنا إلى ما نحن عليه من أزمة معقدة متراكمة وللأسف كان تدخل الحكومات من خلال الضمان الاجتماعي متأخرا مع بدء تغير النظرة إلى هذه المؤسسات الوطنية، وهذا الواقع المؤلم لأركان الصحافة الورقية الأردنية الثلاث، يزيد من ألمه ومن صعوبته اللامبالاة التي تبديها الحكومة تجاه هذه الأزمة التي تنشب أنيابها في هذه المؤسسات الوطنية وتكاد تخنقها، خذ مثلا ما قامت به الحكومة وأثناء أزمة كورونا التي ما زالت مستمرة بالحديث ودعم كل القطاعات باستثناء هذا القطاع الأهم ولم تأت على ذكره من قريب أو من بعيد، رغم أن جلالة الملك عبدالله الثاني أشار في لقائه الأخير مع مجموعة من الكتاب إلى ضرورة دعم هذا القطاع.
من الخطأ أن تطرح قضية الصحافة اليومية في الأردن فقط من باب الإنسانية ومحاولة توفير الرواتب للزملاء العاملين فيها منذ شهورعلى أهمية هذا الجانب، حيث من المفروض أن تطرح هذه القضية كقضية وطنية تمس مؤسسات وطنية واكبت بناء الدولة الأردنية ووقفت سدا منيعا في وجه كل ما تعرض له الأردن من مؤامرات وظلم، ولكن للأسف منذ سنوات تشكلت صورة نمطية خاطئة عند المسؤولين الرسميين بأن هذه الصحف لم يعد وجودها ضرورياً بوجود الإعلام الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإعلام الالكتروني في معظمه لدينا تطور تطورا سريعا وايجابيا ويقدم خدمات صحفيه كبيرة للقارىء وينقل المعلومة بسرعة فائقة لكل الأطراف، وقد تصدر هذا الإعلام مواقع الكترونية محترمة أسسها زملاء مهنيون محترمون لهم باع طويل في الصحافة، ولا أريد أن أسمي أحدا باسمه حتى لا أثير عتب الزملاء لأن المقام لا يسمح بذكر الجميع.
ما زال أمام الصحف اليومية فرصة كبيرة لتعود لصدارة المشهد الإعلامي والصحفي شريطة أن تجد تجاوبا واقعيا من الحكومة، وذلك من خلال دعمها المباشر وغير المباشر، والدعم غير المباشر هنا يأتي من خلال القناعة التي يجب أن تترسخ في عقل الدولة أن هذه المؤسسات يجب أن تستمر، فمثلا لماذا لا تقوم الحكومة بتجميد المطالبات المالية الرسمية على هذه المؤسسات من الضريبة بأنواعها مدة خمس سنوات دون فوائد؟ ولماذا لا تعفى مدخلات الانتاج للصحف من الجمارك؟ ولماذا لا تعامل هذه المؤسسات معاملة خاصة في الخدمات كالماء والكهرباء وغيرها من الرسوم؟
لقد طرحنا في مرحلة ما قبل سنوات أن تقوم الحكومة بتأمين كل صحيفة بألف طن ورق، لأن الورق هو الذي يثقل مالية هذه المؤسسات عن طريق وزارة التخطيط ومن خلال المنح التي تحصل عليها هذه الوزارة من جهات مختلفة للتنمية في الأردن، وهي بطبيعة الحال ستؤمن هذه الكميات من الورق بأسعار منافسة جدا، وكمية الألف طن تعني للصحيفة الواحدة ازالة العبء المالي عنها لمدة عامين على الأقل، وهذا يمكنها من إعادة التوازن في مصاريفها، كما يجب ومن باب الدعم الحكومي لهذه المؤسسات اختصار ما تطبعه الحكومة على مطابعها..
ولا يقولن أحد إن هذه الصحف شركات مساهمة عامة لا يوجد سند قانوني لدعمها، فالملكية مثلا شركة مساهمة، وتقوم الحكومة بدعمها بمبالغ طائلة عندما تتعرض لضغوط مالية كبيرة بحجة أنها تقوم بدور السفير الأردني في جميع أنحاء العالم، وهذا أمر صحيح مئة في المئة لا غبار عليه، ولكن في المقابل الصحف اليومية تقوم أيضا بمهمة السفير الأردني إلى جميع أنحاء العالم من خلال عرضها لوجهة النظر الأردنيه في مختلف دول الإقليم والعالم، ومن حقها أن تتلقى دعما حكوميا سيما أن الضمان يمتلك الجزء الأكبر من أسهمها والعدد الراجح في مقاعد مجالس إدارتها، وهو الذي بات في السنوات الأخيره يختار رؤساء وأعضاء المجالس والمدراء العامين.
إن دعم الصحف اليومية في الأردن واجب وطني على كل الجهات الرسمية، ولا يجوز تركها لتصل إلى مصير الزوال، إذ لا توجد دولة في العالم بلا صحافة ورقية رغم احتلال الإعلام الالكتروني لمساحات كبيرة على الساحة الإعلامية، ومعظم الدول العربية وغير العربية تقدم دعما مباشرا لصحفها حتى تظل هذه الصحف واقفة وتقوم بدورها الوطني.
هناك من يتحدث عن المضمون في هذه الصحف وأنه يجب تطويره، ويجب إدخال أبواب جديدة للصحيفة اليومية كالصحافه الاستقصائية والتحليل السياسي المقنع، والمعالجة الحقيقية لهموم الناس وتخفيف نسبة المجاملة والأخبار الرسمية على صفحاتها. هذا كلام صحيح، ولكن إذا توافرت الشروط المطلوبة لرؤساء التحرير الذين يعانون من ضغوطات كبيرة ليس آخرها قلقهم الدائم على مصير زملائهم وانقطاع الرواتب عنهم، الأمر الذي أحيانا يفقدهم السيطرة عليهم، وهذا حقهم، إذ لا يمكن لأي صحفي في هذه الظروف الضاغطه على الجميع أن يعمل دون راتب، يحافظ من خلاله على أسرته.
كذلك يجب أن يسمح لهم بسقف أعلى مما هو عليه الآن ويتحرروا من ضغوطات كثيرة يعانون منها في هذا المجال، وللإنصاف أن هناك جزءا من المسؤولية تتحملها المؤسسات، اذ لا يجوز أن تبقى تعاني من وجود كوادر كبيرة تقبض رواتب ضخمة والكثير منها لا يعمل، إذ أن كل مؤسسة لديها أعداد كبيرة من العاملين سواء في الأقسام الفنيه أو المطابع أو الادارات، وهذا حال معرقل لمحاولة الخروج من الأزمة، خصوصا أنه بات معلوم تماما أن كل كادر في أي مؤسسة من هذه المؤسسات لا يقدم جهدا حقيقيا إلا ربع الموجودين فيه.
كذلك لم يعد مقبولا أن تبقى هذه المؤسسات تشغل مباني كبيرة وضخمة وآلاف الأمتار المربعة، إذ لم تعد الحاجة في وجود التطور التكنولوجي لبقاء هذا النوع من الاستخدام الواسع للمباني الذي يثقل مالية هذه المؤسسات بمصاريف تشغيلية ضخمة. والمهم أيضا أن هذه المؤسسات يجب أن تتحرك بقوة لخلق سوق إعلاني جديد وتفعيل عملية التوزيع والتسويق بشكل كبير وأن لا تكتفي بانتظار الدعم الحكومي..
هي عوامل مجتمعة من كل الاطراف يجب التوافق عليها من أجل إخراج هذه المؤسسات الوطنية من أزمتها، شريطة أن تتوافر النية الحقيقية للحل عند كل الأطراف.
وحل مشكلة الصحافة بالاردن يجب ان لا يقتصر على دعم الصحافة الورقية فقط وان كانت تحتاج الجانب الاكبر بل يجب ايضا ان يشمل دعما للاعلام الالكتروني الذي اثبت في معظمه تميزا كبيرا..
لقد طعنت الصحافة اليومية في الظهر من كل الجهات حيث ظلت واقفة كالطود دفاعاً عن الأردن والأردنيين عقوداً طويلة وهي في كامل قوتها، وعندما وقعت في أزمتها واحتاجت المساندة تخلى عنها الجميع وطعنوها في ظهرها.