لست كائنا إلكترونيا فأنا من جيل الحبر والورق
مدار الساعة ـ نشر في 2020/04/17 الساعة 03:04
منذ أن بدأ حظر التجول في الأردن، قبل ما يُقارب الشهر، وحياتي مختلفة، وصباحاتي لم تعد كالمعتاد.
قد يظن البعض أن حالة الحصار خلف جدران البيوت هي السبب، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن غياب الصحف الورقية التي أدمنت على مُطالعتها منذ عقود، أشعرني بفقدان شيء من حياتي، وأصابني بالإحباط.
أنا من جيل "الحبر والورق"، الجريدة بالنسبة لي كالقهوة، إنها الكافيين الذي أحتاجه يوميا، ورغم كل محاولات ترويضي لأصبح كائنا إلكترونيا، إلا أنها فشلت، وبقيت وفيا للورق.
الأردن مثل كثير من دول العالم، ومنذ انتشار جائحة كورونا اتخذ قرارا بإيقاف طباعة الصحف، والمجلات الورقية، وربما يكون هذا القرار منسجما مع توجهات منظمة الصحة العالمية؛ للحد من احتمالات انتشار فيروس كورونا من خلال طباعة وتوزيع الصحف، وتداولها بين الناس.
لم تكن الصحافة الورقية تحتاج إلى أزمة فيروس كورونا حتى تُعاني وتحتضر، فهي منذ سنوات طويلة تواجه حصارا، وموتا بطيئا بعد رحيل قطاع كبير من جمهورها نحو الصحف الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وجاء قرار وقف الطباعة الأخير بسبب فيروس كورونا ليُمثل رصاصة الرحمة التي أطلقت على العديد من الصحف حول العالم.
ربما لن تندثر الصحافة الورقية كلها بانتهاء أزمة كورونا، غير أن المؤكد أنها تحتضر، والصحيفة التي ستصمد، وتكون قادرة على الحياة ستخلق "نموذجا" مُغايرا، ومحتوى نادرا يفرض وجوده، والحاجة إليه.
لم يبدأ النقاش عن مآلات الصحافة الورقية مع أزمة كورونا، فهو جدل قائم منذ صعود الصحافة الإلكترونية، وإغلاق العديد من كُبريات الصحف بعد عجزها، وإفلاس بعضها، ورغم ذلك فإن باحثين ما زالوا يُبشرون بوجود فرص لاستمرار نماذج في الصحافة الورقية، وذهبت دراسة نشرتها شبكة الجزيرة تحت عنوان "الصحافة الورقية وصراع البقاء ورهانات الرقمنة"، إلى القول "من الضروري فهم العلاقة بين الصحافة الورقية والرقمنة باعتبارهما خليتين لا يمكن لإحداها أن تعيش دون الأخرى".
قد يبدو هذا الكلام مُغريا ومُشجعا لمن تعلّق قلبه بالصحف الورقية، والأجدى اختبار هذه الفرضية على أرض الواقع، ومدى قدرتها على النجاح والصمود.
بعد أن أطلقت صافرات الإنذار في عمّان؛ لتعلن أن الصحف اليومية عاجزة عن تأمين رواتب موظفيها لشهر أبريل الجاري، علّق رئيس تحرير جريدة الغد المُستقلة مكرم الطراونة في مقال له "لا يجوز النظر للصحف على أنها حبر وورق، ولا بد من النظر إلى دورها في خدمة المجتمع، والمصلحة العامة، وإيصال المعلومات بدقة وموضوعية".
وتوقع الكاتب ماهر أبو طير أن الصحف اليومية ستبقى لو أديرت باعتبارها صناعة، وليست عملا سياسيا وحزبيا، وابتكرت أنماطا، وأشكالا جديدة من العمل.
نقابة الصحفيين الأردنيين دخلت على خط الأزمة، مُطالبة الحكومة بتعويض الصحف التي توقفت عن الطباعة عن الأضرار التي لحقت بها.
أزمة الصحافة الورقية في العالم العربي ليست بمعزل عن أزمة الصحف في العالم، وهي حتما لم تبدأ بكارثة كورونا؛ لكن يُضاف لكل الأزمات التي تعيشها صحف العالم، أن صحافتنا في معظمها ليست مُستقلة، وتابعة للسلطة السياسية، وفقدت إلى حد كبير صدقيتها عند الجمهور، وتستخدمها أنظمة الحكم للترويج لسياساتها، واستبدادها.
لم تُفكر، ولم تبنِ معظم الصحافة الورقية العربية في العقدين الماضيين نماذج إعلامية قابلة للحياة، واعتمدت في مورادها ـ مع تراجع إيرادات التوزيع والإعلان ـ على الدعم المالي المشروط سياسيا من الدولة. ظلت الصحف تُقدم نفسها بذات القالب والثوب، وكأن العالم لم يتغير منذ السبعينيات، والثمانينيات، وحتى التسعينيات، ولم ترَ كل هذه التحولات من حولها، وبقيت مُعتقدة أنها تستطيع المنافسة على الخبر، والسبق الصحفي، وتُعيد رواية الأحداث التي سبقتها إليها الفضائيات صوتا وصورة، وبالتأكيد تقدم عليها الإعلام الإلكتروني أيضا. هجر كثير من الناس الصحف الورقية التي ظلت تراوح مكانها، واتجهوا إلى الوسائط الإعلامية المُتعددة، وانضم الجمهور في غالبه لدولة "فيسبوك" التي تُتيح له أن يرى العالم، ويراه الملايين دون رقابة ووصاية، وصار معلوما أن وسيلة الإعلام التي لا تجد لها موطئ قدم في السوشيل ميديا لن يراها الناس، وأصبحت خارج ميدان المنافسة، وبحكم المجهول. لولا الإعلانات الحكومية في الأردن؛ لأغلقت الصحف اليومية فورا، فالإعلان التجاري تراجع بشكل ملحوظ، وإيراداتها لا تكفي لديمومة الصحف، والتوزيع والاشتراكات السنوية شحيحة العائد، وشراء الصحف بشكل مباشر لم يعد يتجاوز آلاف محدودة لا تكفي لسداد ثمن الورق والطباعة؛ فكيف سيُغطي الرواتب، والكُلف الأخرى للمؤسسات الإعلامية؟
يستحوذ الإعلان على منصات التواصل الاجتماعي على حصة متزايدة، وتأخذ إعلانات الطرق، والجدران (Out Door) حصة أخرى مهمة، ولم يعد يتبقى إلا القليل الذي لا يكفي لتنهض الصحافة، وتعيش بكرامة واكتفاء. أزمة الصحافة الورقية عابرة للحدود، ولهذا فإن الاتحاد الأوروبي يعكف منذ أكثر من عام على دراسة آليات دعم الإعلام المستقل، وكلّف الاتحاد الدولي للصحفيين بتقديم تصور لهذه الغاية. حتى الآن تُقدم عواصم أوروبية دعما ماليا مباشرا لوسائل الإعلام، فالنقاش الدائر الآن في العالم أن وسائل الإعلام جزء لا يتجزأ من منظومة الحقوق المجتمعية، ومثلما تدعم الدول التعليم، والصحة؛ فعليها أن تدعم وسائل الإعلام لأنها تضمن حق المعرفة، ووصول المعلومات للجمهور، وتضمن تنوعا، وتعددا في المنصات الإعلامية. أكثر من ذلك، فإن مؤسسات إعلامية، وحكومات تطالب محركات البحث "غوغل"، ومنصات التواصل الاجتماعي، بدفع قيمة استخدامها للمحتوى بشكل مجاني، والاستفادة منه لغايات تجارية، وتذهب حكومات إلى مُطالبة هذه المحركات، والمنصات الإلكترونية بدفع الضريبة المُستحقة على الإعلانات التي أخذتها من أسواقها، ويُفكر بعضها في تخصيص جزء من هذه العائدات إن تحققت لدعم الصحافة، وتطوير المحتوى الإعلامي. لا أتمنى أن تنتهي الصحافة الورقية، وآمل أن تنجح محاولات إنقاذها من الموت، فقناعتي أن كل وسيلة إعلام تُغلق، يعني أن دربا للمعرفة، والحقيقة قد أغلق بوجه الناس. الحرة
لم تُفكر، ولم تبنِ معظم الصحافة الورقية العربية في العقدين الماضيين نماذج إعلامية قابلة للحياة، واعتمدت في مورادها ـ مع تراجع إيرادات التوزيع والإعلان ـ على الدعم المالي المشروط سياسيا من الدولة. ظلت الصحف تُقدم نفسها بذات القالب والثوب، وكأن العالم لم يتغير منذ السبعينيات، والثمانينيات، وحتى التسعينيات، ولم ترَ كل هذه التحولات من حولها، وبقيت مُعتقدة أنها تستطيع المنافسة على الخبر، والسبق الصحفي، وتُعيد رواية الأحداث التي سبقتها إليها الفضائيات صوتا وصورة، وبالتأكيد تقدم عليها الإعلام الإلكتروني أيضا. هجر كثير من الناس الصحف الورقية التي ظلت تراوح مكانها، واتجهوا إلى الوسائط الإعلامية المُتعددة، وانضم الجمهور في غالبه لدولة "فيسبوك" التي تُتيح له أن يرى العالم، ويراه الملايين دون رقابة ووصاية، وصار معلوما أن وسيلة الإعلام التي لا تجد لها موطئ قدم في السوشيل ميديا لن يراها الناس، وأصبحت خارج ميدان المنافسة، وبحكم المجهول. لولا الإعلانات الحكومية في الأردن؛ لأغلقت الصحف اليومية فورا، فالإعلان التجاري تراجع بشكل ملحوظ، وإيراداتها لا تكفي لديمومة الصحف، والتوزيع والاشتراكات السنوية شحيحة العائد، وشراء الصحف بشكل مباشر لم يعد يتجاوز آلاف محدودة لا تكفي لسداد ثمن الورق والطباعة؛ فكيف سيُغطي الرواتب، والكُلف الأخرى للمؤسسات الإعلامية؟
يستحوذ الإعلان على منصات التواصل الاجتماعي على حصة متزايدة، وتأخذ إعلانات الطرق، والجدران (Out Door) حصة أخرى مهمة، ولم يعد يتبقى إلا القليل الذي لا يكفي لتنهض الصحافة، وتعيش بكرامة واكتفاء. أزمة الصحافة الورقية عابرة للحدود، ولهذا فإن الاتحاد الأوروبي يعكف منذ أكثر من عام على دراسة آليات دعم الإعلام المستقل، وكلّف الاتحاد الدولي للصحفيين بتقديم تصور لهذه الغاية. حتى الآن تُقدم عواصم أوروبية دعما ماليا مباشرا لوسائل الإعلام، فالنقاش الدائر الآن في العالم أن وسائل الإعلام جزء لا يتجزأ من منظومة الحقوق المجتمعية، ومثلما تدعم الدول التعليم، والصحة؛ فعليها أن تدعم وسائل الإعلام لأنها تضمن حق المعرفة، ووصول المعلومات للجمهور، وتضمن تنوعا، وتعددا في المنصات الإعلامية. أكثر من ذلك، فإن مؤسسات إعلامية، وحكومات تطالب محركات البحث "غوغل"، ومنصات التواصل الاجتماعي، بدفع قيمة استخدامها للمحتوى بشكل مجاني، والاستفادة منه لغايات تجارية، وتذهب حكومات إلى مُطالبة هذه المحركات، والمنصات الإلكترونية بدفع الضريبة المُستحقة على الإعلانات التي أخذتها من أسواقها، ويُفكر بعضها في تخصيص جزء من هذه العائدات إن تحققت لدعم الصحافة، وتطوير المحتوى الإعلامي. لا أتمنى أن تنتهي الصحافة الورقية، وآمل أن تنجح محاولات إنقاذها من الموت، فقناعتي أن كل وسيلة إعلام تُغلق، يعني أن دربا للمعرفة، والحقيقة قد أغلق بوجه الناس. الحرة
مدار الساعة ـ نشر في 2020/04/17 الساعة 03:04