الثانوية العامة بين التنمية والتربية
مدار الساعة- بقلم : زيد ابوزيد
إن تطوير امتحان الثانوية العامة الاردنية كانَ هماً مستعصياً على الحل عبر عقود خلت، ورغم جهود بذلت لتخفيف حدة أثاره النفسية والتنموية على الطالب و المجتمع، الاَ انها بقيت جهود قاصره عن حل عقده التي تراكمت عبر سنوات، وازالة اثاره السلبية على المجتمع اقتصادياً واجتماعياً وحتى سياسياً، ولا شك انَ جهود ضبط الامتحان من حيث إجراءات عقده وتحقيق جانب من عدالة إخضاع جميع المتقدمين لظروف متشابهة حقق أثراً ايجابياً ، ولكن أصل المشكلة التي تتفاقم كل عام لم تحل، فمئات الالاف من الطلبة ينقطعون عن الامتحان او يستنفذون حقهم وفرصهم ويخرجون فعلياً من المساهمة في الاقتصاد الوطني وتحقيق اي نمو في الناتج المحلي الاجمالي، بل بشكل او بآخر يصبحون عالة وعبئاً على الاقتصاد وعلى المجتمع في ظل اوضاع سياسية وامنية مقلقة في الاقليم وانتشار للجريمة وتعاطٍ للمخدرات، وغياب النظرة القائمة على الوعي الثقافي بخطورة الفكر المتطرف باشكاله المنظمة وغير المنظمة مما يجعل من حل المشكله بداية لاصلاح اجتماعي هائل وليس تربوي فقط.
ولتوضيح الفكرة فإن الحصول على شهادة الدراسة الثانوية العامة يجب أن لا يكون مستحيلاً ، والشعور النفسي بالنجاح بما له من أثر إيجابياً يجب أن لا يكون حلماً بعيد المنال، بل المطلوب أن نجعل التفوق والتميز هو العنوان والتحدي مستذكرين رواية أحد الحكماء عن أن الحياة مليئة بالحجارة فلا يجب ان نتعثر بها بل نجمعها لنبن بها سلماً لكي نصل إلى النجاح، فالواجب أن يُعرف واقع النجاح في الحياة، وان لا يكون الفشل عنواناً لمجتمع فتي موارده البشرية هي اساس اقتصاده وعنوان رقيه.
ما دعاني الى طرح الامر توجه وزارة التربية والتعليم الاردنية مؤخراً الى حزمة قرارات آنية ومستقبلية تتعلق بامتحان الثانوية العامة بفتح المجال مجدداً أمام فئة من الطلبه تقطعت بهم السبل عن استكمال حياتهم والمشاركة في بناء مجتمعهم وأخذ مكانهم في مستقبل وطنهم للتقدم للامتحان مرة أخرى تحت عنوان الفرصة الجديده، وهو مطلب شعبي بامتياز فكان ان تفوقت الوزارة هذه المرة على نفسها بفتح الدورات مجدداً امام الطلبة متجاوزة حتى رغبة المجتمع لتكون هذه المحطة عنواناً لمشروع تطويري واسع لكل امتحان الثانوية العامة كجزء من تطوير المنظومة التربوية والنظام التعليمي بكل مكوناته، واعادة توصيف حالة الطالب بعد خضوعه لامتحان الثانوية العامة باحتساب المجموع التراكمي للعلامات وربطها بسياسة القبول في الجامعات للتخصصات المختلفه بحيث يتجه الطلبة الى التخصصات الجامعية التي يرغبون بها وتعززها علامات المواد الفرعية في الثانوية العامة تحقيقاً لتميز الاداء الجامعي وربطاً عملياً بين الدراسة الجامعية والمدرسية ، فكان هذا النهج الاصلاحي الحجر الذي حرك المياه الآسنة والتيار الذي انطلق متجدداً نحو التغيير والتحديث الذي يجب ألا يقتصر على الجانب الأكاديمي بل يتعداه الى نوعية التعليم بمساراته المختلفة الزراعية والصناعية والفندقية والتكنولوجيا التي أصبحت المجتمعات تقوم على تطورها وتقدمها وما يتطلبه المجتمع من تنمية.
وفي هذه المرحله من تقييم النظام التربوي فلا يوجد نقص في التصريحات التي تذكرنا بأن الأردن كان يحتل مرتبة رائدة في المنطقة العربية في مجال التعليم، وهذه حقيقة دعمتها الأرقام في الماضي، ويعززها عددٌ كثيرٌ من المبادرات التي هدفت إلى إصلاح التعليم، لكن الحقيقة أن نوعية التعليم في الأردن ومخرجاته تراجعت لاصرار المخططين على الاعتماد على المادة الدراسية مغفلين التوسع في الجانب العقلي والثقافي والادراكي وجاءت اللحظة التي نتوقف عندها لنسأل : كيف حدث هذا وكيف تفوقت علينا دول كانت كل الدراسات في الماضي تشير الى فجوة بيننا وبينهم ولكنهم تجاوزوا الفجوة الى التفوق علينا فيما يتعلق بجودة التعليم و مهارات الطلبة في حل مشكلات الحياة اليومية، ودليلي في ذلك دراسات الرياضيات والعلوم العالمية التي تشارك بها الأردن مثل التيمز والبيزا، ولعلها ليست المقياس الأكثر دقة لقياس مخرجات التعليم، الا أن هذه الامتحانات العالمية التي يشارك بها طلبة الأردن ترسم لنا صورة أوضح عن مكانة المعرفة التي يكتسبها الطلاب في العلوم والرياضيات والمهارات القرائية من خلال نظامه التعليمي بالنسبة للدول الأخرى، وهي دراسات أثبتت النتائج الاخيرة تراجعاً ملفتاً لطلبة الاردن مقارنة بطلبة دول أخرى في إطارنا الاقليمي وعلى مستوى العالم مما يبرر ثورة الوزير عمر الرزاز البيضاء لاعادة النظر في مجمل النظام التعليمي وكانت الثانوية العامة والمناهج البداية لتطوير شامل في النظام التربوي سيكون له أثر هائل على تحقيق تنمية غير مسبوقة على الاقتصاد الوطني خلال سنوات الخطة الاردن 20/25.
وهنا فإن فهم العلاقة بين التعليم والإقتصاد يساعدنا في فهم السبب وراء نجاح بعض الشركات والمصانع وفشل شركات ومصانع أخرى، وهو المستوى التعليمي للعمالة والموظفين، فليس صحيحاً بالمطلق ان تخريج عدد كبير من خريجي الثانوية العامة سيقلص حجم العمالة ، لان من العبث الاخذ بمبدأ ان العماله يجب أن تكون من غير المتعلمين خريجي الثانوية او المعاهد او الجامعات، لانه في عصرٍ تعتبر فيه المنافسة أسلوب الحياة الوحيد فقد فرضت العولمة والتجارة الدولية شروطاً وقيوداً جديدة على المؤسسات ومنها ضرورة إمتلاك قدرة تنافسية تميزها عن غيرها من الشركات، وغالباً ما تمتلك البلاد ذات الإقتصاد الناجح مزايا تنافسية على غيرها رغم أنه نادراً ما يتخصص بلد في مجال معين، لذلك من الممكن أن يمتلك البلد الواحد مزايا وعيوب مختلفة في السوق العالمية، وهنا يعتبر التعليم والتدريب من العوامل الرئيسية في تحديد نجاح الإقتصاد وعند دراسة جوانب التعليم يجب دراسة تأثيرها على الفرد، صاحب العمل والاقتصاد ككل، وبالتالي فان الخريجين في العقد القادم سيكون العمالة المؤهلة والمدربة التي ستنهض بالاقتصاد الوطني بسبب مستوى تعليمهم المستمر استمرار الحياه وروحهم المعنوية العالية اذ هم خريجوا ثانوية عامة او معاهد او جامعيون لم يوصموا بالفشل واستنفاذ حقهم في الحياة.
وهنا وبشكل عام، فان العمال ذوي التدريب والخبرة والتعليم العالي سيتقاضون أجوراً أعلى من هؤلاء الذين يفتقرون إلى هذه العوامل، وهو ما سيرفع من مستوى معيشتهم لزيادة انتاجيتهم، وهي نظرة تنموية وربطاً للتنمية بالتربية ، لذلك عملت العديد من البلدان على تطوير نظام تعليمي جيد وقادر على تعليم الأجيال الصاعدة على مختلف الصناعات وخصوصاً المتقدمة.
انَ زيادة النمو الاقتصادي في المستقبل يتوقف بدرجة كبيرة على التعليم ، لانه في أي عمل انتاجي يقوم الشخص الأكثر تعليماً بمهام وظيفته بشكل أفضل من الشخص الأقل تعليماً ، ولا يقتصر الأمر على أنه يؤدي واجباته بطريقة أجود وأسرع وبإشراف أقل ، ولكنه يقوم أحياناً بأشياء أكثر مما هو مطلوب منه، ولذلك سيساهم حملة الثانوية العامة من فئة وصفت سابقاً بالمستنفذه لحقها او الراسبه بدور كبير في تحسين العمل وزيادة الانتاجية، كما أن الطالب الذي على مقاعد الدراسة لن يشاهد في نهاية الطريق سداً وحاجزاً أمامه لاستكمال الدراسة مما سيساهم في زيادة سنوات التعليم وهي خطوة تجعل الناس أكثر تقبلاً للأفكار الجديدة وأكثر وعياً بالأساليب الأفضل لأداء العمل و تفتح أمام الناس فرص عمل أكثر ومجالات أكثر تنوعاً وتجعلهم أكثر قدرة على التقدم والرقي في مجال المهنة وفي البحث عن مهن أخرى ومن الجدير بالذكر إن الحد الأدنى من التعليم للقوى العاملة في الدول الصناعية يكاد يصبح تعليماً ثانوياً مضافاً إليه تعليم مهني لمدة تتراوح بين سنة وثلاث سنوات ، وتعد شهادة المدرسة الثانوية الحد الأدنى الضروري لممارسة العمل في كثير من الصناعات الأساسية ، ولا يمكن اعتبار الحد الأدنى شيئاً ثابتاً بل يجب النظر إليه على أنه خط مرن قابل للارتفاع المستمر ، وفقاً لمتطلبات العمل والظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وإن عملية النمو والتنمية هي في محصلتها النهائية ارتفاع في مستوى حياة الإنسان زيادة في دخله وتمتعه بقدر أكبر من الخدمات وارتفاع في مستوى تعليمه ، ولذلك ابارك هذه الخطوات الاصلاحية التي تنهض بها وزارة التربية والتعليم الاردنية فهذا هو وطني الاردن الذي جسَد الماضي عظمةً والحاضرُ أملاً والمستقبلُ تحقيقاً، أليس من حقِهِ علينا أن نصونه ونقبلُ ترابهُ وننتمي إليه وندعم مبادراته الاصلاحية ، لنرفع من شأنِهِ كما كان دائماً، وعاملين لا نتوانى عن خدمته شرط أن نعمل معاً، ونبحث معاً، ونخلص معاً .