عبدالسلام الطراونه يكتب: وصفيات (2)

مدار الساعة ـ نشر في 2020/03/07 الساعة 23:34
بقلم : عبدالسلام الطراونه في صبيحة احد ايام الزمن الجميل في مطلع الستينات جاء حارس من مخفر المزار الجنوبي الى منزل والدي في قرية الحسينية يحمل ورقة كتب عليها بخط اليد بضعة اسماء من منطقة الكرك بينها اسم والدي رحمه الله وذلك لحضور لقاء موسع في عمان برئاسة رئيس الوزراء حينذاك السيد وصفي التل طيب الله ثراه.. ويضم اللقاء رؤساء المجالس البلدية والقروية في المملكة.. وبالمناسبة كانت هذه هي وسيلة التبليغ الوحيده ايام زمان وقبل مجيئ الفاكس والخلوي والواتساب !! حاصله استعد والدي للسفر الى عمان عبر طريق الموجب والتي كانت صلة الوصل الوحيده بين العاصمة ومنطقة الكرك قبل ان تهل علينا بركات وافضال حزام الموت الطريق الصحراوي !! وبعد الدعوات له بالعودة سالماً استلم والدي قائمة من الطلبات والتوصيات من افراد العائله ولعل اطرفها وصية احدى جداتي وفحواها : امانة معك يا ابو عبدالسلام تحب اي (تبوس ) ( وصفي ) بين عيونه !! وبعد ساعات من السفر عبر طريق الموجب وصل والدي الى قاعة ألاجتماع في عمان وانضم الى زملائه رؤساء المجالس المحلية في المملكة في أنتظار طلة ( وصفي ) البهيهّ.. وما هي الاّ لحظات حتى جاء ( أخو علياء ) بفوتيكه العسكري الأخضر وغليونه في جيبه ! وسلّم وصفي بحراره على الحضور ثم دخل في موضوع اللقاء مباشرة بقوله : يا أخوان ويل لأمة تأكل مما لا تزرع... لذا ساعدوني كي نتجنب هذا الويل !! وأضاف : اليوم أزف لكم البُشرى بأنه تم التعاقد مع منظمة الأغذية والزراعة الدولية حول مشروع تطوير الأراضي المرتفعه لما فيه مصلحة الفلاحين والمزارعين و استصلاح الأراضي في بلدنا العزيز.. وقد جمعتكم هذا اليوم لأخاطبكم مباشرة لأن " العيون مغاريف الحَكِي ! ".. وأطلب منكم المشاركة في هذا المشروع الزراعي الحيوي والنافع لبلدنا . وارتفعت وتيرة كلامه حيث قال : يا أخوان... بعيدا عن المجاملة اقول لكم بأن من يتردد في استصلاح ارضه سيعرض نفسه للمساءله لانه مخطئ بحق الوطن وحق اولاده ! وأود ان اقول لأخواني ابناء الضفة الغربية : لقد كفّيتم و وفّيتم !! فالضفه الغربية بحمدلله جنة خضراء يانعة بفضل جهودكم وسواعدكم البنّاءه !! وهاانذا انقل لكم تقدير قائد الوطن جلالة الحسين المعظم .. اما انتم يا اخواني في شمال المملكة.. فاني اقول لكم بأن الشكر موصول للمتصرف السيد عبد المهدي الشمايلة الذي حمى اشجاركم ومزروعاتكم من سطوة الماعز والحلال والمواشي لديكم !! وبالمناسبة فأنا ممتن له ولجهوده الطيبة في التعاطي والتعامل عن طريق القوة مع الذين يذبحون الشجرة ويعتدون على السنبلة والخضره. وانأ بالمناسبة اقف الى جانب مساعيه الخيرة لأن قطع الشجرة في نظري يوازي القضاء على ألانسان!! واطلب منكم ان تكونوا عوناً لنهج هذا الرجل وليس عبئاً عليه !! وسأراقب بنفسي وعن كثب تطبيق هذا الأمر !! واما انتم يا إخواني في جنوبنا الأشم فأني عاتب عليكم اشد العتب لأنكم لا تهتمون بالشجرة والزراعه.. وانا في هذا اليوم استحثكم على استصلاح اراضيكم والانخراط في مشروع الأراضي المرتفعه... وبغير ذلك فإنكم سترون مني موقفا حازماً !! وقال مازحاً : ترى مردود عليكم النَقَا !! وانا سأبدأ بنفسي قبلكم وسأختار منطقة في جوف الصحراء.. واتمنى ان تضعوا ايديكم في يدي لنحًول الجنوب والصحراء الى جنة خضراء..!! وبالفعل اختار (وصفي ) بقعه واسعه من الصحراء المحاذية لبلدة ( القطرانه ) على الطريق العام المؤدي الى مدينه الكرك..
وبعد ايام معدوده حضرت جرافات وزارة المواصلات ( الأشغال العامة ) والتراكتورات وحفارات سلطة المصادر الطبيعية والأيدي العاملة فأستحالت المنطقة الى خلية عمل واسعة.. وولد ( مشروع الحسين الأخضر ) الذي كلما مررت بجانبة في طريقي الى الكرك الأّ وشعرت بأن رياح الجنه وريحانها تنداح في فضاء المشروع الذي يحمل اسماً كبيراً وغالياً على قلوب الجميع.. وتجدني أرفع أكف الضراعة الى الله عز وجل بأن يمطر شآبيب الرحمه على روح الحسين الباني الذي يتشرف المشروع الأخضر بحمل اسمه الكبير وعلى روح الشهيد وصفي التل الذي جعل من الصحراء الجرداء واحه يانعة وجنه خضراء!!
واجتاح الحماس ابناء الكرك ومناطق الجنوب بشكل عام فشمروا عن سواعدهم وشرعوا في استصلاح اراضيهم وزراعتها بعد أن رَأوا بأعينهم جهود ( وصفي ) المثمره . وأذكر أن بساتين الفاكهة وكروم العنب التي تمت زراعتها في بطاح مؤته وسهول المزار الجنوبي فازت بالمراتب الأولى في مسابقة زراعية لأفضل مزرعة في المملكة !! وكانت سعادة وصفي رحمه الله اكبر بكثير من سعادة اصحاب المزارع الفائزه !!
وبلغ من اهتمام ( وصفي ) بالزراعة واستصلاح الأرض انه قام ببناء بيته - المفتوح للناس على الدوام - أقول بنى ( مَسَقَرَتَهُ ) كما الصقر المهيب على ربوة عالية من ذرى (الكمالية ) في ريف عمان حيث الخضرة وشجر الزيتون والفاكهه على مد النظر . وفي مقام الحديث عن الرمز الكبير وصفي التل ومواقفة المشهودة يتحدث معالي الأستاذ عدنان ابو عوده صاحب القامة الأعلامية والسياسية والفكرية الباسقة والذي اُكنّ له كل الاحترام والتقدير حيث تتلمذت على يديه في الاعلام لسنوات عديده ظلّت محل اعتزازي على الدوام ولقفت من مخزون علمه وواسع معرفته مبادئ و أصول اعلام الدولة الرصين والصادق والفاعل الذي يقوم على العلم والحجه والعقل والمنطق وليس اعلام الحكومات والترويج لها !!
وأقتبس مفصلين أثنين من مقابله تلفزيونية أجريت مع معاليه حيث يقول : " كان الشهيد وصفي التل استاذي في مجال التعريف بخطر الصهيونية واهدافها القريبة والبعيدة !! واشهد ان وصفي ظُلم كثيراً من قبل جهلة الفكر والسياسه الذي اغتالوا وصفي مرتين !! واجهضوا برحيله مشروعاً نهضوياً قومياً رائداً.. وها هم الجهله يرون في أيامنا هذه ما حذّر منه ( وصفي ) قبل بضعة عقود حول قومية الدولة اليهودية التي تشكل خطراً على قضيتنا المصيرية وأمتنا العربية . وبالمناسبة فأن وصفي التل كان يحمل معه مخططاً للوقوف امام اسرائيل وتحرير الأراضي العربية المحتلة". ويصمت معالي ابو السعيد للحظات.. لا لأنه يعوزه الكلام فهو سيد البيان والبلاغة والحجة والمنطق بلا منازع !! بل لأن الندى الصادق الذي اجتاح عينيه قد سبق عبارات الوفاء على لسانه... فتولى الصمت المهيب والدمع في العين إيصال رسالة الحزن النبيل !! فوصلت الرسالة في أصدق معانيها !! ولقيت تردادها في وجداني !! ويروي الأستاذ ابو عوده واقعة اخرى خلال المقابلة التلفزيونية فيقول : كنت بمعيه الشهيد وصفي التل على ذات الطائرة التي اقلّته الى اجتماع مجلس الدفاع العربي المشترك في القاهره وانا في طريقي لزيارة إسبانيا.. وسألته عن اول قرار سوف يتخذه بعد عودته من العاصمة المصريه... ورد وصفي على الفور : سأتخذ قراراً يقضي بمنع البناء في عمان الغربيه كي لا يجور الإسمنت على القمح والغذاء والخُضره !! ويضيف بأن خال زوجته السيدة ( ام السعيد ) قال له ذات يوم في سياق الحديث : ترى يا ابو السعيد إحنا في نابلس خاصة وفلسطين على وجه العموم نحرث اراضينا طبقاً للطريقة التي علمنا اياها ( وصفي ) !! لأنها تحمي التربة من الإنجراف وتحفظ مياه المطر !! ويجتاح الندى الساخن مُقلة ابي السعيد للمرةِ الثانية خلال المقابلة ..! واعترف بأن هذا الندى الغالي والصادق في عيني معاليه لقي ترداده في مقلتي انا العبد الفقير لله كاتب السطور !! اّه يا وصفي !! يا من لا يعرف وجع بوحي .. ووجع صمتي الا أنت !!ولا يدرك كُنه بوحي وأنيني الاّك !!ولا يعرف وجعي وجوعي .. وجوع الناس الاّك !! الجوع للنخوة لا للخبز !! ها انذا ابوح لك يابن الاكرمين وانا على بُعد رمشة وفاء من مسمعك ومن ميادين الزيتون والغلال والخضرة الشاسعه التي أبدعتها يداك الكريمتان في محيط ( الكمالية ) وارجاء الوطن !! أبوح لك بأن الأرض التي عشقتها وعشقتك ... وتعبت من أجل استصلاحها قد احتلتها غابات الاسمنت ...كما أن حقول القمح والحنطة والغلال حول ( عمان ) وغير عمان اخلت مكانها قسراً للاسمنت والحجارة !! يا وصفي !!أيها الغالي أخشى أن أوجعك وأوجعني لو همست لك ذات بوح بأن معظم ألارض الزراعية التي كنت شمسها وغيثها قد أصبحت قهبا !! ( القهب هي ألارض غير الصالحة للزراعة ) . واخشى أن اوجعك وأوجعني لو قلت لك بأن الطلب في هذا الزمن الرديء أصبح على قهب ألارض وقهب الرجال !!
مدار الساعة ـ نشر في 2020/03/07 الساعة 23:34